كان على المغرب أن ينتظر 56 عاما بعد استقلاله ليضع حجر أساس أرشيفه العمومي. حتى القانون المنظم للأرشيف لم ير النور إلا عام 2007 بتوصية من “هيئة الإنصاف والمصالحة”. مع “مؤسسة أرشيف المغرب” هل يدخل البلد إلى مرحلة الكشف عن سجلات إدارته العمومية وإذاعة حقائقها بين المواطنين؟ “الأحداث المغربية” قامت بزيارة المؤسسة وهي تضع رتوشاتها الأخيرة قبل أن تفتح أبوابها متم فبراير المقبل، وعادت بالروبورتاج التالي وبحوار مع مدير “الأرشيف”، المؤرخ جامع بيضا. **************************************************************************************************************** حين ودع المؤتمن على أرشيف المغرب زواره، لم يمنع أمنيته من الانسياب مع ابتسامته وهو يقول «أرجو أن تفتح هذه الدار أبوابها في الموعد». ولم يكن جامع بيضا يعني إلا الخامس والعشرين من فبراير القادم. التاريخ المثبت على لوحة كبيرة أمام ما صار يُعرف ب”مؤسسة أرشيف المغرب”، والمشير إلى نهاية أشغال التهيئة. غير أن اللافت في المعطيات المسجلة على اللوحة هو وجود رسم للعلم الأوروبي في الأعلى وقد كُتب تحته : «هذا المشروع مُمَوّلٌ من الاتحاد الأوروبي». وفي الأسفل إشارة إلى قيمة الإعانة : 3 ملايين درهم. أمام الورش، حيث أكوام الرمل ومواد البناء المحاطة بسياج، لا يعبر إلا الطلبة وبعض الأساتذة. الأمر يبدو طبيعيا، فمقر “أرشيف المغرب” يقع وسطا بين كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط والمقر القديم للمكتبة الوطنية. بل، إن المؤسسة الجديدة نفسها ما هي إلا مجرد جناح مقتطع من هذه الخزانة العريقة، التي بُنيت في عهد الاستعمار الفرنسي عام 1924 تحت مأمورية الماريشال اليوطي. لذلك، لن تكون غريبة عن فضائها مادام سيتردد عليها الباحثون والمهتمون. كما لن تتبدى نشازا في محيطها مادامت تشكل جزء من الإيقاع المعماري السائد في باب الرواح. معمار مغربي أصيل تميزت به المدن التاريخية. وهو ما يمكن ملامسته هنا بدءا من الساحة الداخلية، التي تجعل الحياة تنفتح على عمق الدار، وصولا إلى الأعمدة والسواري والنوافذ المقوسة والشرفات والأسقف القرميدية. أشغال البناء عمليا شارفت على الانتهاء. فضاءات جديدة أضيفت إلى هذا الجناح من المقر القديم للخزانة، لكن من دون المس بهيئة البناية ككل ولا بانسجام ملامحها.. “وسعنا الدار قدر المستطاع حتى نربح فضاءات أخرى. فالبناية أضيق بكثير من أن تمثل مقرا حقيقيا لاستقبال أرشيفنا العمومي”. يعلق بيضا بنوع من الحسرة. بعد لحظة صمت يردف “المكان كله لن يستوعب حتى أرشيف وزارة واحدة..!”. بضعة حرفيين يتوزعون في الساحة بسلالمهم على الحيطان يطلونها بالجير الأبيض. وفي ركن محاذ للإدارة تفضي أدراجه إلى الأسفل عُلّقت لوحة مخطوطٌ عليها “مؤسسة إدمون عمران المالح”. الكاتب المغربي اليهودي الراحل. هكذا يظهر أن الجناح المقتطع من المكتبة لم يُمنح صافيا لضم الأرشيف العمومي للبلاد. لذلك، لن يستغرب أحد من إقدام مدير المؤسسة على استغلال حتى الأقبية الواقعة تحت الأدراج لتخزين المواد الأرشيفية المنتظرة. يضرب جامع بيضا مثلا بمقر أرشيف تونس. بناية فخمة من عدة طوابق تعكس فعلا هيبة الدولة وتمنح الانطباع بالأهمية المعطاة للأرشيف في البلاد الخضراء. «حسب الهكيل التنظيمي الذي وضعته طلبتُ أربعة هكتارات لإنشاء مقر يليق بصورة المغرب ويترجم الطابع الاستراتيجي للمؤسسة، لكني لم أُعْطَ إلا هذا..». لحظة صمت. ابتسامة تراود ومضة أمل.. «لنعتبره مقرا مؤقتا. الخطوة الأولى هي الأهم.. بعدها تأتي الأشياء الأخرى». الحيز المحدود للمقر فرض على مدير الأرشيف استثمار كل متر فيه. هناك جناح الإدارة. واجهة تقليدية جميلة من طابقين. الأرضي خُصص لعدد من مكاتب الموظفين، ولقاعة متعددة الاختصاصات تبلغ مساحتها 140 مترا مربعا. وهي فضاء غير مجهز حتى الآن في انتظار “تكرم” الحكومة بتخصيص ميزانية لتأثيث المؤسسة ككل ومدها بوسائل الاشتغال، وإلا ستبقى مجرد جدران قائمة تصفر فيها الريح. هذه القاعة ستضم أنشطة تحسيسية ودورات تكوينية للموظفين في الوزارات والمؤسسات العمومية لتعلم قواعد التعامل مع الأرشيف. فوظيفة الدار لا تنحصر في حفظ الأرشيف وصيانته وإتاحته للباحثين، وإنما تتعدى ذلك إلى تنظيمه أيضا في الإدارات العمومية قبل حمله إلى مقر المؤسسة حين ينتهي أجل الاحتفاظ به في مظانّه. «حين سماني جلالة الملك لم أجد ولو كرسيا وحدا أقعد عليه» يعلق جامع بيضا وهو يومىء إلى مكتبه بالطابق العلوي من جناح الإدارة. مكتب محترم يحتوي على خزانة للكتب ومائدة مستديرة لعقد الاجتماعات الداخلية بالإضافة إلى مرافق صحية. «كنت وحدي مثل جن قبل أن يلتحق بي هذا الرجل» يقول رجل التاريخ ضاحكا وهو يشير إلى محسن، ذراعه الأيمن والإطار المستقدم من وزارة الثقافة. ثم ارتفع العدد إلى 5 موظفين بعد أخذ ورد مع مسؤولي وزارة المالية، ليصل نهاية هذا العام إلى 24 مستخدما، 5 منهم فقط متخصصون في الأرشيف، و 3 في المعلوميات. عدد قليل جدا إذا ما قورن بالعاملين في “أرشيف تونس” البالغ تعدادهم 137موظفا. تلعب الساحة دور الرابط بين أجنحة المؤسسة. الخروج إليها هو لحظة تحرر من رزح الأمكنة المغلقة. إطلالة على الضوء الطبيعي. لصق الإدارة تم إنشاء جناح خاص ب”المعالجة المادية والفكرية للأرشيف”. مساحة إجمالية لا تتعدى 121 مترا مربعا، مقتسمة بين ثلاثة فضاءات. ممر واسع وطويل على شكل نصف دائرة يفضي إلى “غرفة العلميات”. هنا ستجري معالجة الأرشيفات الواردة بالضغط الهوائي والمواد الكيماوية لتنقيتها من الغبار والأرضة وباقي الأوشاب. العاملون في هذا القسم سيكونون محميين بلباس خاص وأقنعة واقية وقفازات حفظا لصحتهم. الغرفة تنفتح عبر ممر آخر على فضاء أوسع تكمن وظيفته في تصنيف المادة الأرشيفية حسب محتوياتها وآجالها. مكاتب مصفوفة على مدار القاعة. مائدة كبيرة مستطيلة تشغل الوسط. ومرافق صحية تتكون من مراحيض وحمامات لتخلص العاملين من عوالق الأرشيف ماداموا بهذه المصلحة سيقضون يومهم كله رهن المكان. بين “غرفة العمليات” وصالة المعالجة الفكرية تحتل “قاعة الانتظار” حيزا متوسطا. في هذا الفضاء سيتم الاحتفاظ بالأرشيف، الذي لم يحلَّ بعد أجل الإفراج عنه. يُصان في درجة حرارة خاصة خوفا عليه من التلف. ويُصنَّف حسب تواريخ “إطلاق السراح” النهائي لكل ملف على حدة. أما الجزء الآخر من الأرشيف النهائي المعالج فسرعان ما يجد طريقه إلى المستودعات. هناك، حيث يصير في متناول الباحثين والمهتمين. أربعة مستودعات كبرى تبلغ مساحتها الإجمالية 835 مترا مربعا، وتحتل جناحا مستقلا هو الأكبر في المؤسسة. الأشغال لم تكتمل بعد في ثلاثة منها تشغل الطابق الأرضي وجزء من العلوي. هنا ينقص تبليط الأرضية وطلاء الجدران ثم تجهيز المستودعات بالحوامل والأرفف. حتى مكان المصعد، الذي سيوصل الأرشيفات من قسم المعالجة إلى قمطراتها في الطابق الأول، تم إنشاؤه في انتظار رصد ميزانية من الحكومة لاقتنائه والاستجابة للحاجات التجهيزية الأخرى التي تتطلبها المؤسسة. “أعول على زيارة رئيس الحكومة كما وعدني بذلك وزير الثقافة” يقول جامع بيضا. “سيقف بنفسه على واقع حال المؤسسة ويرى أنها تحتاج إلى دفعة لتقف على قدميها.. إنها صورة الإدارة المغربية في الأخير، ويجب الاعتناء بها”. في المستودع الرابع بالطابق الأول تكمن مفاجأة صغيرة. أرفف منتظمة بإتقان وملأى بملفات قديمة. 2000 متر خطي من الأرشيف الكولونيالي تركه الفرنسيس بعد أن أخذوا معهم ما يعنيهم منه. “جزء مهم من هذه السجلات اعتمده الباحثون والمؤرخون الفرنسيون. ومنهم هنري دوكاستر في مؤلفه المعروف : المصادر الغميسة لتاريخ المغرب”. سجلات ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وتمتد إلى سنة الإعلان عن استقلال البلاد. في أماكن أخرى أكداس من الرزم المرمية في الأركان وقد علاها الغبار. “المشكل يكمن في غياب وضع إداري (Statut) خاص برجل الأرشيف يأخذ بعين الاعتبار الأخطار المحيقة بهذه المهنة”. يوضح بيضا. لذلك سرعان ما يترك المستخدمون العمل في هذه المصلحة في اليوم الثاني من التحاقهم. جنب جناح المستودعات تنفسح صالة وسيعة من 200 متر مربع مغمورة بضوء الخارج عكس باقي الفضاءات الأخرى الداخلية. هنا كانت تقطن ابنة وزير سابق. تركت هذا الملك العمومي لأصحابه ليتحول إلى قاعة للزوار تطل على نادي سطاد المغربي. الطاقة الاستيعابية للصالة تبلغ 60 زائرا ستوضع رهن إشارتهم حواسيب وطاولات زجاجية للاطلاع على ما يحتاجونه من أرشيفات. غير أن الولوج إلى هذه القاعة القائمة في الطابق الأول يحتم على الزائر المرور عبر أربعة مكاتب من دون السماح له باصطحاب سوى قلم رصاص وآلة تصوير بدون «فلاش». كما ستكون مفتوحة في وجه ثلاثة أنواع من الضيوف. زائر عادي تُمنح له بطاقة مرور مدتها 3 أيام. نفس الأمر بالنسبة للزائر الأجنبي. أما المتردد الدائم فعليه أن يحصل على بطاقة انخراط. في الطابق الأرضي من نفس الجناح شبه المستقل عبر باب خارجي كبير يوجد رواق للعروض مساحته 161 مترا مربعا. الفضاء مصمم بشكل جمالي يليق باسمه. أقواس كبيرة ونوافذ مستطيلة تشغل الجدران كلها وسقوف عالية. هنا سيتم عرض كل شيء له علاقة بالأرشيف. صور قديمة للمدن المغربية. وثائق عدلية. ظهائر سلطانية. رسائل دبلوماسية… “إن الأرشيف مكان معتم. ربما بسبب الخوف من أن يبهت لون الأوراق ولا يعود بالإمكان قراؤتها إذا ما تعرضت لنور الشمس. أو ربما لكي تصبح الوثائق في طي النسيان وهي تقبع في مغلفاتها الصفر في قبور رمادية”. يقول أحد أبطال كارلوس فوينتس في روايته الجميلة “كرسي الرئاسة”. الأرشيف في عمل فوينتس مثوى أبدي للأسرار ومدفن لفظاعات وجرائم النظام المستبد، والوصول إليه شبه مستحيل إن لم يكن انتحارا ورحلة إلى الجحيم. بيد أن هذا الذي يجري التهييء لاستقباله هنا أرشيف يريد الخروج إلى الضوء، إلى الناس. توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة والقانون الصادر في 30 نونبر 2007 على الأقل يفصحان عن هذا السعي. لكن، كم من قوانين كانت مقبرة لطمر الحقائق. السؤال الذي يواجه من يزور “أرشيف المغرب” وهي تستعد لفتح أبوابها هو : هل هناك فعلا إرادة سياسية لتحرير الأرشيف العمومي وإطلاع الناس على السير الذاتية السرية للمؤسسات التي صنعت مصائرهم طيلة خمسة عقود من الاستقلال؟ في الواقع، من يرى الإكراهات التي يكابدها هذا المولود لا يملك إلا أن يردد ما قاله الراحل محمود درويش مع بعض التحريف “ما أكبر الفكرة. ما أصغر المؤسسة”. **************************************************************************************************************** المؤسسة العسكرية وحدها المستثناة جامع بيضا : القانون يخول لنا الإشراف على أرشيف المخابرات والداخلية والأمن * ما معنى أن تحمل “أرشيف المغرب” صفة مؤسسة استراتيجية ضمن 20 مؤسسة أخرى بالمغرب؟ ** كل بلد يحترم نفسه ويعي أهمية الأرشيف كعماد لمفهوم الدولة ولاستمراريتها لا يمكنه إلا أن يضع هذا القطاع في خانة القطاعات الاستراتيجية. لماذ؟ لأن صلاحياته تتجاوز المراحل الزمنية لحكم فريق سياسي دون الآخر. وبالتالي فوضع هذا القطاع بين أيدي جهة سياسية معينة دون غيرها قد يجعله موضع رهانات غير التي وضع من أجلها. الأرشيف يجب أن يكون منزها عن كل التيارات المذهبية كيفما كانت. هذا من حيث المبدأ. من جهة أخرى لدي قراءة أخرى أتفاعل معها من حيث موقعي كمؤرخ، وهي أن إضفاء الطابع الاستراتيجي على المؤسسة يمثل إشارة سياسية في قطاع طال انتظاره. لما استرجع المغرب استقلاله سنة 1956 أهمل هذا القطاع إهمالا فظيعا، إلى درجة أنه كان بمثابة الموقع الهش جدا في مسلسل بناء الدولة المستقلة الحديثة. وربما – وهذه قراءة فقط – تنبهت الحكومة بعد كل هذه العقود، وبعد توصيات هيأة الإنصاف المصالحة التي جاءت هذه المؤسسة كإحدى ثمراتها، إلى الأهمية القصوى للأرشيف في البناء الديموقراطي للدولة الحديثة. إن صحت هذه القراءة، فإن من شأن ذلك أن يساعدنا – معنويا على الأقل- في رفع بعض التحديات والإكراهات التي عاينتموها في زيارتكم لهذه الدار (انظر الروبورتاج) من حيث التنظيم والمؤهلات البشرية والوسائل المادية وحقيقة الشروط المتعارف عليها دوليا في حفظ الأرشيف وصيانته ووضعه رهن إشارة عموم الناس. * أشرت إلى هيئة الإنصاف والمصالحة ودورها في انبثاق هذه المؤسسة. هل سيكون أرشيف سنوات الرصاص، الذي حصلت عليها الهيئة، رهن إشارة عموم الناس؟ ** هناك فعلا أرشيف تم جمعه من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة أثناء عملها، ولم نطلع عليه بعد. وهو يوجد اليوم بين أيدي المجلس الوطني لحقوق الإنسان. وبما أن هذا الأرشيف جُمع في سياق جبر الضرر، فالتعامل معه يفترض أسئلة إشكالية، خصوصا إذا تعلق بأرشيف خاص يهم الحياة الشخصية للأفراد. ومهما يكن من أمر فمصيره النهائي هو أن يودع في مؤسسة “أرشيف المغرب” وأن نفرزه ونصنفه ونرى إذا لم تكن هناك أي عرقلة قانونية لوضعه رهن إشارة الباحثين. ومع هذا، أظن أننا نعيش مرحلة انفتاح، ولم تعد هناك تشنجات كما كان عليه الأمر في السبعينيات تقضي بحرمان الناس من الاطلاع على هذا الأرشيف. ومن جهة أخرى، ليست مؤسسة أرشيف المغرب هي الثمرة الوحيدة لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ، بل هناك أيضا القانون المنظم لأرشيف المغرب الصادر في 30 نوفمبر 2007. فأثناء مهمة هذه الهيئة التي دامت 23 شهرا، اصطدمت، وهي تحقق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الفترة بين 1956 و 1999، بغياب الأرشيف أحيانا، وعدم تنظيمه أحيانا أخرى. وأنت تعلم أنه عندما تكون أمام ركام من الوثائق الأرشيفية غير المنظمة، فإن هذا الأرشيف هو في الحقيقة غير موجود. لذلك، فالهيئة عانت من هذا الواقع الذي عرقل عملها. هذا فضلا عن كونها أحيانا في قطاعات حكومية معينة لم يُسمح لها بالاطلاع عليه. ذلك أن المحتفظ على الأرشيف لم تكن له أرضية قانونية تلزمه بالسماح للهيئة بالاطلاع عليه. ومن ثمة، ألحت في توصياتها العديدة على وضع قانون منظم للأرشيف. وبما أننا في هذا البلد العزيز علينا جميعا نعتبر «العجلة من الشيطان» انتظرت الحكومة حتى 31 مارس 2011 لتسمي عبد ربه مديرا للأرشيف، وانتظرنا شهرين آخرين لقص الشريط الرمزي، لأجد نفسي بعدها في مقر لا يتوفر ولو على كرسي أجلس عليه، بدون سيارة ما عدا سيارتي الخاصة، وبدون موظف واحد إلى جانبي. لكن وزارة الثقافة قامت مشكورة ببعض الواجب عندما هيأت لي مكتبا ووضعت رهن إشارتي هاتفا من أجل إجراء اتصالاتي. هذا مع العلم أن القانون يقول أن مؤسسة أرشيف المغرب مؤسسة مستقلة ماليا وذات شخصية معنوية. وبناء على أني معين من طرف جلالة الملك ذهبت إلى وزارة المالية لأصطدم بغياب أي ميزانية مخصصة لمؤسسة “أرشيف المغرب”، وأُفاجأ بمن يطلب مني الانتظار حتى 2012، أي قضاء سنة بيضاء. وهو شيء غير مقبول بالطبع. وبعد مفاوضات ، تم تخصيص ميزانية استثنائية هزيلة، والسماح بتوظيف 6 مستخدمين برسم 2011. وقد تحسنت الأحوال شيئا في ميزانية 2012 التي بلغت سبعة ملايين درهم، وتم في إطارها تعزيز مواردنا البشرية التي وصلت آخر هذه السنة إلى 24 نفرا، بما فيها منصب المدير. أما في إطار ميزانية 2013 ، فإننا نتطلع إلى ترجمة معنى “مؤسسة استراتيجية” إلى أفعال أكثر تشجيعا. * لكن، ما هو الأرشيف الموجود بين أيديكم الآن؟ ** لا يوجد أرشيف جديد بين أيدينا الآن. فما رأيتموه في المستودعات هو بعض الأرشيف الموروث عن فرنسا إثر حقبتها الاستعمارية للمغرب. ونحن ننتظر المصادقة على المراسيم التطبيقية لتحديد أعمار الأرشيف في المؤسسات العمومية والوزارات، والشروع في تدبير الأرشيف “الجاري والوسيط”. فالجاري هو ما تنتجه كل إدارة يوميا أو تتوصل به، وتدبير عمره يختلف من مؤسسة إلى أخرى. أما الأرشيف الوسيط، فهو ذلك الذي ينتهي عمره الجاري ويتحول إلى وسيط، بمعنى أن الإدارة محتاجة إليه من حين إلى آخر، ولكن يجب تدبيره تحت نظر “أرشيف المغرب”، لأنه هو الذي سيتحول إلى أرشيف نهائي ويُحال إلي هذه المؤسسة. فهناك منشور، ولكن صيغته عامة جدا، كان قد أصدره رئيس الحكومة السابق السيد عباس الفاسي، وأنا الذي حررت مضمونه، وهو مؤرخ في 6 أكتوبر 2011، ومفاده أنه في انتظار أن تتوفر “أرشيف المغرب” على المكان اللائق بحفظ الأرشيف يتحتم على جميع الإدارات العمومية الاعتناء الكبير بأرشيفها الجاري وحفظ الأرشيف الوسيط وذلك تحت إشراف شخص مؤهل تمام التأهيل لذلك وفي أماكن معدة خصيصا لهذا الغرض. وهذا حل وسط في انتظار أن تصدر المراسيم التطبيقية، التي يتطلب إنجازها في دول أخرى أحيانا سنوات (تونس سبع سنوات)، مع العلم أن هذه المراسيم بطبيعتها تعدل باستمرار. ولكننا نتمنى أن نتدارك ما فاتنا من وقت وأن نقطع أشواطا ونستفيد من الأخطاء التي تخللت التجارب الأخرى. * في انتظار المصادقة على المراسيم التطبيقية ما مدى سلطتكم على أرشيف المؤسسات العمومية والوزارات؟ ** القانون المنظم يعطينا حق الإشراف على أرشيفات هذه المؤسسات بتنسيق معها. لكن، عندما ستتم المصادقة على المراسيم ، سنسعى إلى تشكيل ما يسمى بالبعثات، بمعنى أنه في كل مؤسسة سيكون هناك مخاطب، هو الذي يشرف على أرشيف تلك المؤسسة وتوابعها، وهو الذي سينسق معنا. وسيكون من حقنا معاينة وضع هذا الأرشيف وحالته. * وفي حالة امتناع مؤسسة ما أو وزارة على التعاون معكم وإقفال أبواب أرشيفها في وجهكم، ما الإجراء الذي ستتخذونه؟ ** نرفع تقريرا إلى رئيس الحكومة. وللحكومة أن تتصرف وفق القانون الذي يعاقب على إتلاف الأرشيف سواء تم ذلك بشكل إرادي أو غير إرادي. وأضيف أننا سنعمل مستقبلا، وبتنسيق مع المؤسسات العمومية، على إنجاز ما يسمى ب”الأرشفة المسبقة” في كل مؤسسة على حدة. هكذا عندما يُحمل الأرشيف إلينا في حالته النهائية سيكون شبه جاهز ولن يحتاج منا إلا إلى فهرسته وتصنيفه ووضعه رهن إشارة الباحثين. * بتقديرك، ما هي الأعمار المتوقعة لأنواع الأرشيف في بلد يتطلع إلى الديموقراطية مثل المغرب؟ ** هناك ثلاثة أصناف قانونية تتراوح بين 30 سنة، و60 سنة، ثم 100 سنة. وهذا العمر الأخير يتعلق بأرشيف الأشخاص وحياتهم الحميمية. والمشرع حدد 100 سنة بعد ميلاد الشخص المعني بالوثيقة. ودائما في ضوء القانون، فإن أرشيفا أنتجته مؤسسة معينة يجب أن يكون بعد 30 سنة أرشيفا نهائيا. لكن الأرشيف الذي قد يمس أمن الدولة يُرفع سقف السماح بالاطلاع عليه من 30 إلى 60 سنة، وهذا لسلامة البلاد الداخلية أو الخارجية. * ما الجهة والمعايير التي تحدد أن هذا الأرشيف يدخل في خانة تهديد سلامة الدولة.؟ ** هذا نقاش آخر. فالمتعارف عليه هو أن المسؤول الذي أنتج ذلك الأرشيف عليه أن يبرهن على وجاهة تصنيفه هذا الأرشيف أرشيفا وسيطا يؤدي رفع القيد عنه إلى المس بأمن وسلامة الدولة ولذلك يمدد عمره إلى 60 سنة. * بمعنى أن منتج الأرشيف هو صاحب سلطة تصنيف عمره الوسيط قبل أن يتحول إلى أرشيف نهائي من حق الناس الاطلاع عليه. ** تماما. لكن، كلما رسخت قدم “أرشيف المغرب” في البلاد، كلما أصبح من الضروري التنسيق معها في كل ما هو متعلق بالأرشيف. * ألا يفتح هذا الباب واسعا لمزيد من تقييد الأرشيف..؟ ** لا يوجد أرشيف في جميع بلدان العالم غير مقيد. وهذه مسألة تقديرية. فالأرشيف الذي حددنا نحن عمره في 30 سنة قلصت دولة مثل فرنسا عمره إلى 25 سنة. والحال أنه كلما تقدمت الدولة في الديموقراطية والحداثة والولوج إلى المعلومة إلا وقلت أعمار الأرشيفات المحفوظة. نحن مازلنا في مرحلة التأسيس، ولم نصل بعد حتى إلى المرحلة التي يقتنع فيها المواطن العادي أن من حقه أن يطلع على أرشيف مؤسساته العمومية. * هل يُفهم من حديثك أن كل المؤسسات العمومية لكم سلطة الإشراف على أرشيفها بدون استثناء؟ ** هناك استثناء واحد هو المؤسسة العسكرية، أما باقي المؤسسات العمومية والوزارات فلنا سلطة على أرشيفها. * بما فيها المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ووزارة الداخلية والإدارة العامة للأمن الوطني؟ ** نعم، كل هذه المؤسسات سيكون أرشيفها تحت إشرافنا. فقط سيكون هناك نقاش في تحديد أعمار أرشيفها الوسيط. * هل سيفرط المغرب في أرشيفه بالخارج، بفرنساوإسبانيا؟ ** القانون الصادر في 30 نوفمبر لم يهمله. في نفس الوقت لا أجعله اليوم في لائحة الأولويات. لكن، هذا الأرشيف الذي أشرت إليه يبقى ابن هذا البلد، أُخذ من هنا وتم إخراجه إلى فرنساوإسبانيا. هذا الأرشيف في بعد آخر هو تراث مشترك بيننا وبين هاتين الدولتين. بالنسبة لي أنا واع بهذا الأرشيف لأني أعرفه بحكم مهنتي كمؤرخ. وقد تعاملت معه لأكثر من ثلاثين سنة كباحث. وقد اشتغلت على الأرشيف العسكري بقلعة فانسان بضواحي باريس، والأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانط والأرشيف الدبلوماسي بكيدورسي والذي تم تحويله الآن إلى لاكور نوف. فيما يتعلق بالقوتين الاستعماريتين، من الضروري على المدى المتوسط أن ندخل معهما في نقاش، إما لاسترداد هذا الأرشيف أو لتصويره. وأغلب الظن أن ما يمكن فعله هو التصوير. وقد تحدثت مع مسؤولين فرنسيين في وزارة الخارجية ووجدتهم لا يمانعون نظرا لأنه لم تعد هناك قضايا شائكة جدا بيننا وبين فرنسا. فهم فقط يقولون: من يدفع ثمن الفاتورة؟ الأرشيف متاح للعموم، إلا أن تكلفة التصوير باهظة، وما أرجوه هو أن تضع الحكومة المغربية أرضية تضمنها الحجج التي تثبت إخراج هذا الأرشيف من المغرب مع ما يعنيه ذلك من تحمل الدولة التي أخرجته مسؤولية إرجاعه عبر تحمل تكلفة تصويره، على الأقل كتعويض على حمله خارج بلده الأصلي ما أدى إلى حصول ضرر للمغرب وللباحثين الذين تقع على عاتقهم تكاليف ومشاق الانتقال إلى فرنسا أو إسبانيا قصد الاطلاع عليه. لكن تبقى الأولوية بالنسبة لي هي الأرشيف الموجود بالمغرب الذي قد يضيع إذا لم نهتم به، أما أرشيفنا في الخارج فهو محفوظ ومصان في ظروف جيدة، واسترداده مسألة وقت ليس إلا. * كلمة أخيرة ** يجب أن نعمل جميعا على التوعية بأهمية الأرشيف، إذ هو لا يعني حفظ ماضينا وذاكرتنا وهويتنا فقط، بل إنه إلى جانب ذلك يعكس شفافية الإدارة. وهذه نقطة مهمة جدا تجعل مسألة الأرشيف ذات علاقة بالحاضر والمستقبل أكثر من الماضي كما هو شائع لدى عموم الناس. حاوره : عبد العالي دمياني