لحظة تاريخية بامتياز عاشها فضاء المكتبة الوطنية بالرباط، مساء يوم الجمعة الماضي، كان عنوانها البارز استكمال بناء المسار المؤسساتي الديمقراطي الحداثي للمغرب، وذلك من خلال تدشين مؤسسة «أرشيف المغرب»، التي ستتولى مهمة صيانة الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيفات عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الإطلاع عليها لأغراض علمية، اجتماعية وثقافية، ومن خلال كذلك، تسليم ظهير التعيين لأول مدير لها جامع بيضا. فمنذ يوم الجمعة تأسست ملامح مرحلة جديدة تقطع مع ما تبقى من سلبيات الماضي الذي كانت تسوده فقط الذاكرة الرسمية، وما يروج شفويا ،وذلك عبر أجرأة قانون الأرشيف 69-99 الذي مر على إقراره أكثر من ثلاث سنوات-2007 هذا، وتميزت المناسبة بحضور حكومي وازن، إذ حضر الأمين العام للحكومة إدريس الضحاك ومؤرخ المملكة عبد الحق المريني، والناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الناصري، إضافة إلى وزيرالعلاقات مع البرلمان إدريس لشكر والرئيس السابق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أحمد حرزني وعدد من السفراء بالرباط ومجموعة من الشخصيات. وقال وزير الثقافة بنسالم حميش، باعتباره الجهة الوصية على هذه المؤسسة، في كلمة ألقاها بالمناسبة «إن إحداث هذه المؤسسة التي يستحقها المغرب كل الاستحقاق نتيجة عمقه التاريخي وثقافته وحضارته، تندرج ضمن تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وهي استنادا إلى قانون 69-99 ستناط لها مهام جسام». وأكد في هذا الصدد على الإرادة السياسية القوية والتي تتجسد في الإرادة الملكية بجعل المغرب يتملك أرشيفه، قائلا «إنه سيتم العمل على تدارك الوقت الضائع عبر تطبيق القانون السالف الذكر والعمل على إخراج المراسيم التطبيقية الخاصة به إلى حيز الوجود، فهذا البلد يستحق أن يمتلك أرشيفا يهم ماضيه ويهم حاضره ومستقبله». وأبرز المسؤول الحكومي، الذي لجأ إلى صفته الأكاديمية لإبراز الأهمية التي يضطلع بها الأرشيف، مشيرا في هذا الصدد إلى مدرسة «الحوليات/الأنال»والتي كان من بين مؤسيسيها لوسيان لوفيبر والتي تعتمد في دراستها للتاريخ ليس فقط على الماضي بل على مجموع البنيات، إذ تتيح الإمكانية بالانتقال من عالم السياسة إلى الظاهرات الاقتصادية والاجتماعية، قائلا «إن الأرشيف ليس أمرا يهم فقط حفظ الذاكرة، ولكن يعد أيضا مفتاحا يمكن من خلاله محاولة فهم الآليات والميكانيزمات التي انبنى عليها عمل هذه المؤسسة أو تلك، سواء انتمت إلى المجال السياسي أو المدني أو المجال التنظيمي أو الثقافي أو الصحافي...». وأوضح أن أهداف مؤسسة «أرشيف المغرب» تتحدد في صيانة الذاكرة الوطنية والحفاظ على التراث الأرشيفي للمغرب الذي يوجد ما تبقى منه مشتتا وفي أحيان كثيرة يوجد في حالة غير سليمة. وأعلن أن المؤسسة ستقوم بإجراء مختلف عمليات معالجة الوثائق الأرشيفية التي تخص المغرب، سواء منه الموجود بالداخل أو بالخارج، وتيسير الإطلاع عليها «إذ ستتولى عمليات التجميع ،ثم الانتقاء والاختيار والترتيب والوصف والمحافظة والوقاية والترميم وتحميله في وسائل رقمية». ومن جانبه أكد رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان إدريس اليازمي، أن المغرب بإحداثه لهذه المؤسسة التي أوصت هيئة الإنصاف والمصالحة، بها أضحى يتوفر على إحدى أهم المؤسسات التي يحتاجها كل بلد ديمقراطي حداثي، من أجل كتابة معقلنة وتعددية لتاريخه وكذا لحفظ ذاكرته. وأشار إلى السياق الوطني الذي تم فيه الإعلان عن إحداث هذه المؤسسة بالمغرب الذي يعرف انخراط وتعبئة كل الفاعلين بالمجتمع في دينامية الإصلاح الدستوري ،مضيفا أن هذا الإصلاح يستند كما جاء في الخطاب الملكي للتاسع من مارس 2011، على «ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، لاسيما، دسترة توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب». ومن جانب آخر أقر اليازمي بأهمية قانون الأرشيف الذي تم وضعه سنة 2007: إطار تشريعي يعد شرطا ضروريا لإعداد وتنفيذ سياسة وطنية للأرشيف، وأردف بالقول بأن هذا القانون يجب أن يتطور ليتطابق مع توصية هيئة الإنصاف والمصالحة وليتلاءم مع المعايير الدولية في المجال، مشيرا إلى أنه في انتظار القيام بذلك وجب التسريع بإصدار المراسيم التطبيقية الخاصة بهذا القانون من أجل تفعيل تنفيذه. داعيا إلى القيام بالمزيد من الجهد لجعل «أرشيف المغرب» مؤسسة فعالة تتوفر على كل التكنولوجيات الضرورية وقادرة على الاستجابة للحاجيات الوطنية مع احترام المعايير الدولية. أما المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان، المحجوب الهيبة، فقد أشار إلى تزامن تأسيس مؤسسة أرشيف المغرب، مع ذكرى وفاة إدريس بنزكري، أحد بناة مسار دولة الحق والقانون، مبرزا أن إحداث هذه مؤسسة يعد مؤشرا على دخول المغرب الفعلي إلى مرحلة متقدمة في مسار بنائه الديمقراطي «هذا البناء الذي ينبني على ثلاث عناصر أساسية كانت محاور لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتتمثل في التاريخ والأرشيف وحفظ الذاكرة والدول الديمقراطية هي التي تلك انخرطت في تأهيل هذه المجالات الثلاث» يشير المتحدث، مؤكدا،على ضرورة تملك كل المواطنين وكل الفاعلين للأرشيف، مشيرا، إلى ضرورة تجميع مختلف الوثائق التي تهم تاريخ المغرب، خاصة المعاصر، سواء منه الرسمي، أو تلك التي توجد لدى عدد من الفاعلين كبعض المحامين الذين لعبوا دورا مهما وترافعوا في قضايا سياسية في مراحل تاريخية معينة. ومن جهته، أبرز مدير مؤسسة أرشيف المغرب «جامع بيضا، الأهمية التي يضطلع بها الأرشيف في تاريخ البلد، والصعوبات التي قد يواجهها في حالة عدم توفره على رصيد وثائقي، مشيرا في هذا الصدد، إلى سنوات السبعينات حينما أراد المغرب رفع ملف الصحراء أمام محكمة العدل الدولية واضطر إلى إرسال بعض الموفدين إلى الخارج للبحث عن بعض الوثائق لضمها إلى الملف، وكذا الصعوبات التي واجهت عمل هيئة الإنصاف والمصالحة. وذكر مدير المؤسسة الذي كان يشغل إلى حدود صباح نفس اليوم االجمعة، أستاذا للتاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ الأرشيف بالمغرب انطلاقا من المرحلة الاستعمارية إلى الآن، موضحا أن ما يوجد حاليا هو ما يهم المرحلة الاستعمار أما ما يهم فترة الاستقلال فهو جد قليل. وأشار إلى نص القانون المنظم لهذه المؤسسة الجديدة والمهام المنوط بها، مؤكدا دقة المهمة التي تتطلب التوفر على اعتمادات مالية وبشرية مهمة، وكذا انخراط الجميع بما فيها السلطات العمومية وجميع الفاعلين، بل وتتطلب توفر وعي عميق لدى الأفراد والمصالح اعتبارا لما تمثله المؤسسة من رهانات كبرى على مستوى بناء الدولة العصرية». في حين أشارت أندري كولين في كلمة باسم مندوب الإتحاد الأروبي بالمغرب، إلى الدعم الذي أبداه الإتحاد الأروبي لمسار حقوق الإنسان بالمغرب، والذي تمت برمجته عبر إطلاق على الأخص برنامج لمواكبة تنفيذ التوصيات الخاصة بمجال الأرشيف والتاريخ والذاكرة بغلاف مالي يبلغ 8 مليون أورو، قائلة «إنه بدون الحفاظ على الأرشيف لن تكون هناك شهادات أو آثار، وبدون هذه الأخيرة لن يكون تاريخ».