تحل اليوم ذكرى اليوم العالمي للغة العربية والنقاش محتد حول قدرة هذه اللغة السامية الباقية على الانتصار على التحديات التي تواجهها في التكيف مع التطورات التي يعرفها العالم على كافة المستويات، ومدى قدرتها على مواكبة هذه التطورات والتفاعل معها واحتضانها كي تسري في وعي الناطقين بها، وبالتالي تكذيب المقولات الرائجة حول محدوديتها في هذا المجال، والتي تظهر هنا وهناك إلى حد الدعوة إلى استبدالها بالدارجة كما حدث في المغرب. النقاش حول اللغة العربية نقاش قديم جديد كان يظهر كلما طرح السؤال حول "نهضة العرب"، فكانت العربية هي "الحائط القصير" الذي يقفز عليه البعض عن جهل. وقد أدلى الأدباء والشعراء واللغويون، كل من زاوية نظره، بدلوه. لكن حلول الذكرى تدعو إلى مراجعة ما قيل ويقال حول لغة يتوقع لها الخبراء أن تكون لغة المستقبل، حيث إن إمكانياتها ومرونتها تجعلان منها اللغة القادرة على احتلال المواقع الأولى كلغة اتصال وتواصل، في حين أن لغات أخرى ستتراجع إلى الوراء أو ستصبح مهددة بالانقراض. لكن هذا لا يمنع من الإقرار بوجود مشاكل أصبحت تعاني منها هذه اللغة ويستدعي الأمر الوقوف عليها ووضع الخطط المفكر فيها من أجل تجاوزها. أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية تلبية للنداء الذي أطلقه المجلس التنفيذي لليونسكو في دورته ال190 في أكتوبر 2012، وهو اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، الذي تقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. مخاطر وأخطاء يجب تجاوزها أكد الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية أهمية العناية باللغة العربية وتحديث تدريسها وتعزيز مكانتها، والدفاع عنها في مواجهة ما يهددها من مخاطر التغريب. وأضاف الاتحاد، في بيان له الأحد الماضي، بأن لغتنا العربية صمدت -وماتزال- أمام موجات متتالية من التغريب والغزو الثقافي، عبر الموجات الاستعمارية المتلاحقة، التي جاءتها من مناطق وبلدان أوروبية مختلفة، استهدفت نزع اللغة العربية من صدور أبنائها، وإحلال لغة الاحتلال الغازي محلها، على حد قول البيان، تمهيدًا لمحو الوطنية ذاتها التي تعد اللغة أول مظاهرها. وأضاف البيان ذاته أن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب يلاحظ خطورة حركة التغريب النابعة من الداخل، خلال الأربعين سنة الماضية، والتي صاحبت ما أسماه بحالة الانفتاح الاستهلاكي ومحاولات التشبه بالنموذج الغربي في الحياة بمظاهرها المختلفة، وقد انعكس ذلك على انتشار الأسماء الغربية للمحلات التجارية في شوارع المدن العربية، والتوسع في استخدام المصطلحات الأجنبية في الدعاية التجارية والإعلانات، رغم وجود بدائل عربية مألوفة، فضلاً عن شيوع الحديث باللغات الأجنبية بين الشباب، مقابل انزواء اللغة العربية، وشيوع الأخطاء اللغوية والإملائية بين المتخصصين، وفي دواوين الشعر والكتب الأدبية والصحف والمجلات المتخصصة، وخاصة بين العاملين في القنوات الفضائية والإعلام العام والخاص، حتى إن خطب المسؤولين السياسيين الكبار لم تخل من الأخطاء الواضحة. وأضاف الاتحاد أنه إذ يضع يديه على هذه الأخطاء الظاهرة، فإنه ينبه إلى ضرورة سعي الوزارات والهيئات والاتحادات العربية المعنية باتخاذ التدابير العاجلة لمنع تفاقم الأمر. ولم يفت الاتحاد من دعوة كافة اتحادات وروابط وأسر وجمعيات الأدباء والكتاب العرب، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، وجميع أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية لإقامة أنشطة وفعاليات تثقيفية واحتفالية باللغة العربية، والخروج بتوصيات توضع أمام المختصين والمسؤولين، حتى يضطلع كل واحد بدوره. فتاوى الأدباء في مستقبل اللغة العربية سبق لدار الهلال القاهرية في سنة 1923 أن أصدرت كتاباً تحت عنوان «فتاوى كبار الكتاب والأدباء»، طرحت فيه على عدد من الأدباء والمفكرين المعروفين آنذاك سؤالين: الأول حول مستقبل اللغة العربية، والثاني حول نهضة الشرق العربي وموقفه من المدنية الغربية. وكان الهدف من الكتاب في طبعته الأولى التأمل في تأثير التطور العام في اللغة العربية، والإحاطة بموقف الشرق العربي الناهض إزاء المدنية الغربية الحديثة، وما يمكن أن يقتبس منها، إلى جانب عدد من القضايا التي تهم هؤلاء الكتاب بالنسبة لهذه اللغة ومواجهتها للتحديات. وهذه الأسئلة التي طرحت في الماضي ما يزال يعاد طرحها وكأن الزمن لم يتحرك. ولاشك أن إعادة طبع الكتاب ضمن سلسلة كتاب مجلة «الدوحة»، وبتقديم الباحث المغربي سعيد بنكراد، فيه رمزية للنقاش الدائرة في المغرب وفي العالم العربي الذي يخلد اليوم العالمي للغته . التلهيج» يقلص من الطاقة التعبيرية للعربية يعتبر الباحث المغربي سعيد بنكراد في توطئته أن الكتاب يتحدث عن اللغة والتمدن عموماً وعن حال اللغة العربية في العشرينيات من القرن الماضي تحديداً، مشيرا إلى أن الكتاب يتحدث فيه مجموعة من كبار الأدباء والنقاد والمفكرين من مشارب متنوعة عن قدرة اللغة العربية أو عجزها عن الاستجابة لتحديات العصر العلمية والفكرية عموماً، وعن قدرتها على التقاط التحولات التي لحقت بنمط العيش، وما أفرزته من حاجات جديدة في السياسة والاجتماع وانفعالات النفس. ويضيف بنكراد أن الموضوعات التي ألفتها العين تصبح بفعل تعدد التسميات وتنوعها أو غيابها غريبة في الوجدان، ذلك أن وقع الاسم أقوى دائما في الوعي من خطاطات الشيء في الذاكرة. فقيمة الكلام الإنساني ليست مودعة في موروث قدسي ثابت لا ينال منه الزمن، رغم أهمية هذا الموروث في بناء الهوية وغناها، بل يجب تلمسها في قدرة هذا الكلام على تجديد النظر والفكر داخله، وفي قدرته على تغطية ما يتم اكتشافه من تجديد النظر والفكر داخله، وفي قدرته على تغطية ما يتم اكتشافه من مناطق وأشياء في الذات وفي الوجود. ذلك أن طبيعة المدنية الحديثة لا تدعو إلى «تحصين» الذات بما يفتي بانزوائها داخل زمنية تتحرك خارج التاريخ الكوني، بل تقتضي تأهيلها بما يمكنها من استيعاب ما يأتيها من خارجها استناداً إلى ممكنات اللغة وخصوصية ما أنتجته من إرث حضاري داخلها. ويضيف بنكراد بأنهم تحدثوا أيضاً عن علاقة الفصيح بالدارج، فثمة خطر يمثله «التلهيج» المتزايد للحياة العامة والحياة الخاصة. ولن يقود «التلهيج»، في عرف كثيرين من هؤلاء، وفي عرف نظرائهم المعاصرين أيضاً، إلا إلى التقليص من الطاقة التعبيرية التي تتوافر عليها اللغة العربية في طابعها الأدبي الراقي، أو إلى التشويش على المعاجم العلمية المتخصصة باعتبارها لغة خاصة بالعلماء ولا دخل «للشعب» فيها. فهذه اللهجات لم تكن في كل الحالات تعبيراً عن ميل «اقتصادي» تقتضيه دينامية الممارسة الحياتية (بلورة ما أطلق عليها قديماً وحديثاً «اللغة الثالثة»، بل هو إفراز من إفرازات احتكاك المواطن العربي بلغات أخرى ضمن شروط تبعية ثقافية صريحة أو ضمنية، أو هو في الغالب الأعم حاصل انتشار الأمية وتفشيها في أوساط الشعب. ويؤكد بنكراد أن هناك شبه إجماع على تراجع اللغة العربية، إذ يقول: «والحاصل من ذلك كله أن ثمة ما يشبه الإجماع في الماضي والحاضر، رغم اختلاف شروط «النظر» وتطورها، على تراجع العربية في الاستعمالات كافة وتخليها عن مواقعها في الحياة العامة. لقد خرجت أو أُخرجت من الشارع والمنزل والحوار اليومي، وتخلت عن دورها في تدبير قطاعات المال والأعمال والتربية والتعليم، بل أصبحت هامشية في قطاعات مركزية كالإعلام المرئي». ويضيف بأن هناك موازين قوى جديدة أفرزها تخلف الأقطار العربية، اقتصادياً وسياسياً، كما ساهمت فيها حالات التمازج والتداخل بين الشعوب والثقافات، وأفرزها الإيقاع الجديد للحياة الذي جاء به الغزو الأجنبي قديماً، وعملت على توسيعه ونشره الوسائط الجديدة حديثاً. وقد حدت هذه الوسائط، في واقع الأمر، من سلطان كل اللغات. فكلما ازداد نفوذها تراجع دور اللغة لصالح تواصل «تخطيطي» يكتفي «برسم» العواطف من دون التعبير عنها. العربية قادرة على استيعاب معطيات العلم الحديث ويلاحظ بنكراد أن اللغة العربية، قد تكون، في مطلق الأحكام الأدبية والعلمية، مالكة للمقومات كافة التي تجعلها قادرة على إنتاج المعرفة وتداولها، فلا شيء فيها وفي الواقع يمكن أن يحد من قدرتها على ولوج عالم المعرفة والاستئناس بمصطلحاته ومفاهيمه. ويضيف بأن موروثها الفلسفي والأدبي والعلمي واسع جداً، وإمكاناتها كبيرة في تغطية كل مناطق الوجود الإنساني الطبيعي، وهي ليست لغة معيش يومي يشكو من خصائص في المفاهيم، وليست لغة شفهية تحتفي بالانفعال أكثر من احتفائها بالتحليل المنطقي. ففي تراثها المكتوب من «العتاد المفهومي والمصطلحي» ما يمكنها من استيعاب معطيات العلم الحديث في كل فروعه. وهو أمر يؤكده حوارها الذي لم ينقطع أبداً مع كل اللغات، ويؤكده أيضاً الانتقال السلس لكثير من المفاهيم العلمية إلى معجمها واستيطانه ذاكرتها، بل إن كثيراً من مفاهيم العلوم الحديثة مستعارة من العربية نفسها. ومع ذلك، يضيف الباحث، فإن واقع الحال يكشف، من بداية الغزو الخارجي إلى عصر العولمة والتكنولوجيات الحديثة، عن كثير من القصور في قدرتها العلمية وفعاليتها في التواصل اليومي والإعلامي،على حد سواء، بسبب شدة منافسة اللغات «القوية» (القوية اقتصاديا وسياسيا لاذاتيا)، ونتيجة انتشار مجموعة من اللهجات «الهجينة»، التي حدت من طاقتها على الابتكار، يضيف بنكراد، مشيرا إلى أن الوتيرة السريعة للتطور العلمي الذي يعرفه العالم الحديث قد يهددها بالكثير من المخاطر، لعل أبسطها احتمال تخليها النهائي عن موقعها كأداة طبيعية لإنتاج المعرفة وتداولها، واكتفاؤها بدور الحافظ ل»هوية تاريخية» لا نستحضرها إلا في الأمداح وحفلات التأبين والحديث عن مآثر الموتى. وهذا، يلاحظ بنكراد، أمر نعاين بعض مظاهره في سياسة بعض الدول العربية التي تحرص على فصل المعاهد والمؤسسات الخاصة الموجهة لتلقين العلوم الحديثة بلغات أجنبية(فرنسية،إنجليزية)، وعن مؤسسات عمومية تحمي»أصالة» البلد وتحافظ على قيمه الروحية. ويضيف بنكراد أن الأمر لا يتعلق بقصور ذاتي، كما يروج لذلك المعادون لها في كثير من الحالات، هؤلاء الذين يسميهم جبران خليل جبران «سفراء الدول التي يتكلمون لغاتها»، بل هو حاصل انقضاء قصدي بحكم الهيمنة الاستعمارية قديماً، أو بحكم النفوذ الثقافي والاقتصادي الأجنبي، أو هو حاصل حالات «اللهاث» وراء «نماذج حضارية» جاهزة، لا تكلف مؤسسات الدولة كثيراً من المال والجهد والطاقات البشرية. فيكفي أن نستورد «الوصفات» التامة، فيما يشبه «التمائم والتعويذات» بلغاتها الأصلية كي نحل معضلة النمو الاقتصادي والتقني، وننتشي باستنبات هجين لمظاهر التحديث في حياتنا. والحال أن ما لا يدركه كثيرون، أو يتجاهلونه عن قصد، أن ما سيوضع للتداول في هذه الحالة هو مجموعة من الآلات الباردة التي يمكن التخلص منها دون أن يختل وجود الحامل لها، أو يتغير وضعه الحضاري. حقيقة الإنسان في لغته ويرى بنكراد في هذا التقديم الهام أن كل لغة لها طريقتها في الكشف عن مضامين محيطها: «هذه الكونية لا تنفي أن تكون لكل لغة طريقتها في الكشف عن مضامين محيطها، وطريقتها في صياغة مظاهره وفق تحديدات تخص»الفوق» و»التحت» و»المذكر» و»المؤنث» و»اليمين» و»اليسار»، والتمييز بين الألوان. إن حقيقة الإنسان في لغته، وليست في شيء آخر غيرها، فقد يستطيع المرء تعلم ما يشاء من اللغات، لكنه لن يستطيع التصرف في العوالم الحسية التي تأتيه من لغته الأم. فنحن نتعلم اللغات الأجنبية لكي نوسع من الرؤى التي تتوافر عليها اللغة الوطنية. فلم تستطع فرنسا في الجزائر، بعد قرن ونصف من الاحتلال، من»استيطان» وجدان الجزائريين. لقد ظلوا، داخل لغتها، خارج سلطة مخيالها. ويضيف بأن ما يجب محاربته في نهاية المطاف وبدايته هو النظرة «الأداتية» للغة. فلن تعمل هذه النظرة إلا على إفراغها من حمولتها الحضارية وتحويلها إلى «مطرقة» أو «منجل» أو أي آلة أخرى، أو تحولها في أحسن الحالات إلى مستودع لمفاهيم ومصطلحات بلا ذاكرة وقابلة للاستعمال في استقلال عما يقوله تاريخها ضمن العلم وخارجه (المعجم التاريخي الذي ينادي به الكثير من المفكرين لأنه يحفظ ذاكرة الكلمات، لا مردوديتها في التواصل الحالي قط). ومن هنا يرى بنكراد أن التواصل الفعلي بين الأفراد تتحكم فيه مسألتان: نمو الوعي والرصيد الحضاري، والقضاء على الأمية أولا، ويتحكم فيه ما يسمى «الاقتصاد» الذي تقتضيه الحاجة التواصلية ثانيا. والخلاصة التي ينتهي إليها الباحث أن اللغة ستظل دائما هي النافذة الوحيدة الممكنة على عالم خارجي لا يمكن أن يستقيم وجوده إلا عبر ما تقدمه ممكنات المفهمة فيها. فاللغة قدر لا يمكن رده إلا بالامتثال لقضائه. إننا لا نتخلص منها بعد استعمالها. لذلك، يضيف بنكراد، لا نختار لغاتنا، تماما كما لا نختار آباءنا ولون بشرتنا. ومن هنا، فإن الباحث يخلص إلى «أننا لن نعيد للغة العربية بهاءها ودورها الفعلي في المجتمع إلا بتأسيس المجامع اللغوية وتكوين النحويين والبلاغيين وجهابذة اللغة. علينا أن نفعل ذلك من خلال إعادتها إلى الشارع، إلى وجهات المتاجر وإلى الحدث اليومي، ليس من خلال ملفوظات مسكوكة شبيهة بصكوك الغفران، ولكن من خلال الاعتراف بتفاوت السجلات اللغوية، وتباينها من فئة إلى أخرى ومن قطاع معرفي إلى آخر ومن حالة تواصلية إلى أخرى. أصوات من الماضي في هذا الكتاب كان مصطفى صادق الرافعي من الذين تحدثوا عن اللغة العربية ومستقبلها، فعبَّر عن إعجابه بالذين يتكلمون بهذه اللغة: «هم من أبعد الشعوب أعراقاً في تاريخ المدنيّة، وذهاباً في عصورها وتغلغلاً في طبقات الميراث الإنساني. وذلك أصل عظيم في الاحتفاظ بها، بعد أن صارت قطعة من تاريخهم، وكأنها عناية إلهية بهذه اللغة ألا تستفيض إلا في تلك الشعوب.» وبعد ذلك نظر إلى المسألة نظرة فيها حصافة السياسي وذكاء المفكر، قال: «والظاهر أن لكل لغة قوية وجهاً سياسياً، كما أن لكل سياسة قوية وجهاً لغوياً. فالشعوب قائمة على الاختلاف والتنازع. وهنا موضع الضعف والقوة. فإن نهض أهل العربية وكتبت لهم السلامة من تحكم المستعمرين وجنَّبهم الله هذه المحن التي هي فضائل السياسة، فتلك نهضة العربية نفسها. وإن ضعفوا فذلك ضعفها، وما أراها إلا ستنهض في مصر وسورية نهضة من يستجمع». وكان محمد كردعلي متفائلاً بمستقبل الفصحى، إذ قال : «إن استفتاءكم في مستقبل اللغة العربية مهم للغاية. وأظن التطور السياسي الأخير يزيدها استحكاماً وانتشاراً. فإن التركية كادت تقضي عليها في دمشق وبغداد، بل.. في مكة والمدينة. وها هي الآن تنشط من عقالها، والنفوس ترغب في تحصيلها، والمتعلمون يفاخرون بإتقانها. وستدرس بها جميع العلوم العالية، فتحسن دراستها، وتزيد مرونة لقبول الأوضاع الجديدة، لأنها تتغاضى على ذلك، وهي في إبّان بعثتها، فكيف بها في هذا القرن، وهي ترى العلوم تزيد، والألفاظ والمسمّيات تكثر. ولعله لا يمضي قرن أو قرنان حتى تتوحد اللجهات العامية، لأن الفصحى آخذة بالتغلب عليها، على كل حال». ونظر جبران خليل جبران إلى مسألة الفصحى والعامية نظرة وسطاً، بدا فيها تأثره بنظرية «النشوء والارتقاء» لداروين التي كانت موضع أخذ ورد في الربع الأول من القرن العشرين. يقول «إن اللهجات العامية تتحرر وتتهذب، ويُدْلَكُ الخشن فيها فيلين. ولكنها لا ولن تغلب ويجب ألا تغلب لأنها -الفصحى- مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعده بليغاً من البيان. إن اللغات تتبع، مثل كل شيء آخر، سنَّة بقاء الأنسب. وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى، لأنه أقرب إلى فكرة الأمة، وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة. قلت: سيبقى، وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءاً من مجموعها».