خلنا الرقاد قصيرا. تمنينا أن يكون حضن الغرفة 1331 دافئا. تمنينا أن تكون الكبوة زائلة، متجاوزة بقوة الإصرار والصبر والاستمرار. بيد أن القدر كان أقوى من كل التمني. كان القدر مصرا في طلته، وأبى إلا أن يُرحِّل ذاك الذي كان شامخا بعطائه إلى حيث تلتقي جميع الأرواح. عندما ابتسم عبد الكبير الخطيبي، وهو على فراش المرض، لم نكن نعرف أن الابتسامة كانت تخفي الألم العميق والداء القاسي، الذي حل بالرجل ليرحل به. كانت ابتسامة الكبار، الذين إن حل بهم ضيق الحال وأحسوا بالساعة تدنو، قالوا هذا قدرنا، لا مفر منه، فالأجدر أن نبتسم وإلا ما كنا كبارا أو كتبنا عن موت الآخرين. ذات زمن عربي جميل، قال خليل مطران شعرا يحمل كل معاني الأمل والحياة وهو في عز المعاناة. خال في الداء شفاءه من صبوته، فإذا بالبُرحاء تضاعفت. تأسف على حال استبد به الوهن والمرض والداء والعشق، فقال ليس «في الظلم مثل تحكم الضعفاء»... شعر الخطيبي كان ابتسامات وعبارات تحدى بها الموت إلى أن لم يعد في الجسد إلا الوهن. وفي هذا، ظل الرجل قويا كما كان دائما عبر مسار الحياة الخاصة والإبداعية. وشم الخطيبي الذاكرة العالمية بأعمال متعددة. ولولا تواضع الرجل لكانت الأضواء من حوله أكثر من كل الذين استحوذوا عليها بحق وبغير حق. فلم يكن الخطيبي ليلهث وراء الشهرة، ولا وراء المال... كما لم يتعقب معاناة الآخرين ليكسب مالا كثيرا من ورائها، بل كان المنطلق والنهاية عند الخطيبي هو الإبداع، ولا شيء غير الإبداع. في «الذاكرة الموشومة» جرب الحكي العاري، لكن بعمق المتمكن، وحكمة الفيلسوف. فبدأ من حيث ينتهي الآخرون. ولا غرابة في أن تكون السيرة هي المبتدأ... فربما كان الخطيبي الناشئ متنبئا بما هو صائرُه الخطيبي المتمرس. كذلك كان. وكما لو أن ابن مازاغان كان يدرك أن الحياة ما هي إلا لمح بصر عند المبدعين، انتهى مبكرا من تلك المهمة لكي يتفرغ إلى كل الركام المعرفي الذي ألف لاحقا. ناصر الرجل التعدد الثقافي والفكري والإثني. وكان نموذجا أول له. تعلق بالفرنسية حد أنها صارت لسان التأليف الأول عنده. وربما كان في هذا الأمر اختيار متعمد وعيا منه بأن المعارف لا يمكن أن تتجاوز حدود الخليج والمحيط إلا عبر بوابة لغة الآخر. كانت له بصمته في السوسيولوجيا وفي الأدب وفي النقد وفي الصورة والخط والسينما... فكان الإنسان المتعدد، الذي يكاد لا ينتهي من رفع قلمه عن هذه الصفحة، حتى يضعه على الموالية، في حقل معرفي موال. رصينا كان الخطيبي في كل شيء. في تأليفه الإبداعي، في حياته، في علاقاته مع الآخرين، في صمته البليغ... وبين بحث الدكتوراه حول الأدب المغاربي بالسوربون العريقة و«الذاكرة الموشومة»، مرورا بأعمال كثيرة فاقت الخمسة والعشرين عملا، وانتهاء عند جني عمر الحكمة والمكافآت، بقي ابن مازاغان متمسكا بذلك الخيط الرفيع، الجسر بين كل عمل وعمل. وليس احتواء خيط كهذا بالأمر الهين، السهل؛ بل هو السهل الممتنع. فتقرأ الخطيبي دائما في صيغة الرصانة، والثبات الفكري بعيدا عن لوثات الكتابة التي كثيرا ما تصيب المترنحين على مسار الكتابة. يرحل عنا الخطيبي بعد قليل استئذان. بين مطلع فبراير وتوسط مارس مسافة زمن لا تكفي للاستئذان ولا لإلقاء تحية الوداع. فالراحل كان كبيرا، والمودع لم نوقع معه وثيقة المغادرة. لكن للقدر أحكامه، وللمصير سلطته... دفء الغرفة 1331 لم يعد. نضب الأمل. تكلس الجسد. سي عبد الكبير غادرنا صامتا كما بدأ. لكنه باق في الذاكرة موشوما بذكرى الخلود.