حاولت أن أحاوره مرارا، لكنه رفض، وتوارى مؤثرا صمته وسكوته، إذ ما عاد يجدي الكلام. أطرقت مليا حائرا في أمر هذا النورس العراقي، على أجد حيلة تدفعه إلى الكلام ومحاورتي لكن دونما فائدة، فقررت الانصراف يائسا من محاولاتي. وعندما لجأت إلى دواوينه التي اجتازت العيون بصعوبة حتى وصلتني وجدته يحاورني: أسأله فيجيبني، وفاض سيل الكلام حتى كان الحوار التالي: قبل أن نبدأ.. أريد أن أعرف أحمد مطر الإنسان؟ الفرد في بلادنا مواطن.. أو سلطان ليس لدينا إنسان! وماذا عن لافتاتك؟ سبعون طعنة هنا.. موصولة النزف تبدي.. ولا تخفي تغتال خوف الموت في الخوف سميتها قصائدي وسمها يا قارئي: حتفي! كم مضى من عمرك؟ لا أدري هل أعرف وجهي؟ لا أدري كم أصبح عمري؟ لا أدري عمري لا يدري كم عمري! كيف سيدري؟! من أول ساعة ميلادي وأنا هجري! أنت مقيم في المهجر.. أليس كذلك؟ قلمي يجري ودمي يجري وأنا ما بينهما أجري الجري تعثر في إثري! وأنا أجري والصبر تصبر لي حتى لم يطق الصبر على صبري! وأنا أجري أجري، أجري، أجري.. أوطاني شغلي.. والغربة أجري! غريب أمرك أيها الشاعر، تشكو البعد والغرب ولا تعود إلى بلادك؟!! رب طالت غربتي واستنزف اليأس عنادي وفؤادي طم فيه الشوق حتى بقي الشوق ولم يبق فؤادي! أنا حي ميت دون حياة أو معاد وأنا خيط من المطاط مشدود إلى فرع ثنائي أحادي كلما ازددت اقترابا زاد في القرب ابتعادي! أنا في عاصفة الغربة نار يستوي فيها انحيازي وحيادي فإذا واجهتها زاد اتقادي ليس لي في المنتهى إلا رمادي! وطنا لله يا محسن حتى لم يحلم.. أكثير هو أن يطمع ميت في الرقاد؟! أخبرني، كيف تقسم يومك مع بداية كل نهار؟ هكذا أقسم يومي: ست ساعات.. لهمي ست ساعات.. لغمي ست ساعات.. لضيمي ست ساعات.. لهمي ولغمي ولضيمي! لحظة واحد من اليوم التالي.. لكي أبدأ في تقسيم يومي! ترتاد عيادة الطبيب مرارا.. فما هي علتك؟ جس الطبيب خافقي وقال لي: هل ها هنا الألم؟ قلت له: نعم فشق بالمشرط جيب معطفي وأخرج القلم! هز الطبيب رأسه.. وما وابتسم وقال لي: ليس سوى قلم فقلت لا يا سيدي هذا يد.. وفم رصاصة... ودم وتهمة سافرة... تمشي بلا قدم! لو أنك هجرت الشعر لما أوقعت نفسك في المتاعب وجلبت عليها المشقة والعنت، فلماذا الشعر يا مطر؟ لماذا الشعر يا مطر؟!! أتسألني لماذا يبزغ القمر؟ لماذا يعطل المطر؟ لماذا العطر ينتشر؟ أتسألني: لماذا ينزل القدر؟! أنا نبت الطبيعة طائر حر... لا نرى منك سوى الكلام.. تماما كحكامك الذين تهجوهم، كلاكما لن يعيد لنا القدس. يا قدس معذرة ومثلي ليس يعتذر ما لي يد فيما جرى فالأمر ما أمروا وأنا ضعيف ليس لي أثر عار علي السمع والبصر وأنا بسيف الحرف أنتحر وأنا اللهيب.. وقادني المطر فمتى سأستعر؟! هزي إليك بجدع مؤتمر يساقط حولك الهدر: عاش اللهيب ... ويسقط المطر! أجدك مهموما حائرا وأخشى ألا يشجعني ذلك على الاسترسال في الكلام، ما الذي يجعلك شارد الذهن كهائم في صحراء التيه؟ أصابعي تفر من أصابعي وأدمعي حجارة تسد مجرى أدمعي وخلف سور أضلعي مجمرة تفور بالضرام تحمل في ثانية كلام ألف عام لكنني بيني وبيني تائه فها أنا من فوق قبري واقف وها أنا في جوفه أنام وأحرفي مصلوبة بين فمي ومسمعي ما أصعب الكلام ما أصعب الكلام يا ليتني مثلي أنا أقوى على المنام يا ليتني مثلي أنا أقوى على القيام حيران بين موقفي ومضجعي يا ليتني.. كنت معي! صدقت، ما أصعب الكلام.. هذا هو حال الدنيا يا مطر،وكأني أرى فيك ذاك الرابض وسط الحمى تماما كالشهيد ناجي العلي الذي أنطقت رسمه شعرا.. عفوا، فلا تروي أساي قصيدة إن لم تكن مكتوبة بدمائي عفوا، فإنني إن أرثي فإنما أرثي بفاتحة الرثاء رثائي عفوا فإني ميت يا أيها الموتى، و"ناج" آخر الأحياء! "ناجي العلي لقد نجوت بقدرة من عارنا، وعلوت للعلياء اصعد، فموطنك السماء، وخلنا في الأرض، إن الأرض للجبناء من لم يمت بالسيف مات بطلقة من عاش فينا عيشة الشرفاء ماذا يضيرك أن تفارق أمة ليست سوى خطأ من الأخطاء فمدامع تبكيك لو هي أدركت لبكت على حدقاتها العمياء ومطابع ترثيك لو هي أنصفت لرثت صحافة أهلها الأجراء تلك التي فتحت لنعيك صدرها وتفننت بروائع الإنشاء لكنها لم تمتلك شرفا لكي ترضى بنشر رسومك العذراء ونعتك من قبل الممات، وأغلقت باب الرجاء بأوجه القراء