- اتهمت في أحد المواقع الإلكترونية بالعلماني الزنديق، خاصة في حوار حول علاقة الإسلام بالنصرانية والأديان الوثنية. كيف تلقيت هذا الاتهام؟ فيما يخص موضوع الاتهامات، من شاء أن يقول فله أن يقول، ثم ما يتعلق بالعلمانية يجب أن نجيب أولا عن مفهومها قبل الحديث عنها، فإذا كانت هي عدم الانتماء إلى الإيديولوجية والبحث الموضوعي وغيرها، فالعلمانية جميلة ونحن نحتاج إليها من أجل تدبير الخلاف، وخصوصا الديني منه، حيث لا يمكن أن ندبره من أساس إيديولوجي كيفما كان. وهي كذلك لا تعني الإلحاد ولا الكفر، بل هي توجه تدبيري سياسي أكثر منه أي شيء آخر، ونحن لا نرى في الاتهام بالعلمانية أي عيب أو أي مشكلة. كما لا تعني كذلك عدم الانتماء الديني، فالدين والعلمانية يتضاربان عند الإيديولوجيين اللا دينيين أو الإيديولوجيين الدينيين. موضوع كلمة زنديق وغيرها من الأوصاف كثيرة، لكننا في النقاش العلمي نحتاج إلى نقاش الأفكار أكثر من نقاش الأشخاص. فالأشخاص لا تهمنا أمورهم الشخصية والذاتية ولا علاقتهم بالله، فالله هو الذي يحاسب الناس عما في قلوبهم، ولكن علاقتنا، نحن، يجب أن تكون علاقة أعمال، وإذا كنا نناقش أفكارا فعلى الرافض لها أن يسقط أدلتها أو أن يؤكدها، والحوار مفتوح للذين يريدون السب، وطبعا التاريخ سيحاسبهم على أي قول يصدر عنهم، ومن ثم فكيفية تلقي الاتهامات شبيهة بلعبة الروكبي: عندما تحمل الكرة لا بد أن يهاجمك الجميع. ثم إن كلمة زنديق تنتمي إلى سجال تاريخي، والذين يتفوهون بهذه الكلمة يحملون هذا السجال، ولكنهم لا يعرفون مصدره، لأنه فلسفي تاريخي من عصور قديمة ولا ينتمي إلى عصرنا هذا. للأسف في ظل الصراع الإيديولوجي، الأناني إلى حد ما، والذي يبسّط القضايا، لا يمكن أن تتوسع مداركنا لاحتواء الإنسان، لكن عندما نتنازل شيئا ما عن أنانيتنا يمكن أن نفهم الآخرين، وأن نستوعبهم، وأن نتدارس معهم، فنحن نرى أن باحثين وعلماء يصدرون أحكاما عن مقال أو عن كتاب بمجرد قراءتهم العنوان، أو يطلقون أحكام قيمة بمجرد سماعهم قولا. إذا كان هذا حال العالم أو الباحث فكيف سيكون حال الإنسان العادي. لذلك لا نعطي لأنفسنا الحق في المتابعة للوصول إلى نتيجة علمية، ولهذا فإن كثيرا من مشاكلنا صادرة عن كلام وليست مشاكل حقيقية، مما يجعلنا نختلف ونتعدد بشكل كبير، عوض أن نجتمع بهذا التعدد وهذا الاختلاف، وهذا هو المطلوب، وتاريخ الأديان يفرز لنا هذا عندما يُفهمنا بأن التجربة الدينية ليست مقدسة، بل تجربة بشرية يمكن أن تحدث لأي جماعة، ويمكن أن نستفيد منها في جانبها الإيجابي والسلبي. وعندما أتحدث عن الاستفادة من الجوانب السلبية عند الأنبياء أقصد بها أنهم لم يقدموا لنا جوانبهم الإيجابية فقط، وإنما جوانبهم السلبية أيضا حتى نستفيد منها لكي لا نقع في أخطائهم. وهذا يبين لنا أنه يمكن أن ندرس التاريخ بمشاكله وجوانبه السلبية، ولكن في إطار إيجابي، بينما إذا كانت هناك إيديولوجية معينة حاضرة، فأنت تبحث لتبرر الجوانب الإيجابية من وجهة نظرك، فيما تجعل كل رأي مخالف سلبيا، وهذه، في نظري، أنانية لا يمكن أن تؤدي بنا إلى نتيجة. - قمت بمقاربات عديدة، خاصة على مستوى الأديان، إلى أي حد استطاع هذا الاتجاه المنهجي أن يجد له مكانا في المنظومة العلمية المتعلقة بالبحث، وخاصة في علم الأديان؟. هناك تياران على مستوى البحث أو العلم الذي يمس الأديان: تيار ديني، أو لنقل دعوي، يقوم بتمجيد الدين والبحث عن الجوانب النيرة في التاريخ الديني ومحاولة تقديم إيديولوجية ما، أو تسفيه أي إيديولوجية مخالفة قد تكون دينية أو لا دينية، فيدخل الدين، بالتالي، في موضوع الدعوة والتبشير أو التنفير والاتهامات. وهناك تيار آخر معاكس تماما للأول، لكنه يسير في نفس الاتجاه، وهو تسفيه الدين والبحث فيه عن الأشياء القبيحة والسلبية بشكل عام، بما فيها العثرات والعيوب وغيرها، وهو لا يؤمن بأن النص الديني أو الأديان بصفة عامة قادرة على تقديم شيء نافع، ومن ثم لا يتعامل معها تعاملا موضوعيا بقدر ما يختار منها ما يقدم به صورة سيئة عنها. أما تاريخ الأديان فهو شيء آخر مختلف. إنه علم يتوسل بكل التخصصات من تاريخ وطبيعة وأنثربولوجيا وأركيولوجيا ولغة وكل العلوم الأخرى من أجل فهم الإنسان في جوانبه العاطفية والفكرية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والفلكلورية والصناعية... وكل ما يقوم به الإنسان. لذلك عندما نتحدث عن تاريخ الأديان نقصد به علم الإنسان في علاقته بالطبيعة والمعتقد، وبالتالي نتحدث عن تجارب الناس، وبالخصوص تجربة العقل، الذي خاض في مجال الغيب والاجتماع والحاجات اليومية، وأجاب عنها مع معتقده، ولذلك يكون الدين حاضرا. ولفهم هذه الأشياء لا بد من تجرد كبير، ومن عدم الركون إلى الأحكام المسبقة غير العلمية، فكثير منها متداول، وهي في نفس الوقت غير علمية. لذلك فإن تاريخ الأديان هو علم يتوسل، كما قلت سابقا، بكل العلوم الطبيعية والإنسانية، حسب الأساطير والنصوص الدينية باعتبارها وثائق، لكنه يحتاج إلى تحليلها ودراستها. - في كتابيك «أكثر أبو هريرة» و«نحن والقرآن» قمت بعملية تحليلية من وجهة نظرك الخاصة، وكأنك تدعو إلى إعادة قراءة التاريخ الإسلامي من جديد. ما هي المراجع التي اعتمدت عليها في تحليلك بخصوص هذين الكتابين؟. في الحقيقة، كثير من المراجع والمصادر تكرر وتعيد منظومة ثقافية قائمة. أما اليوم فنريد أن نقوم بخلخلة هذه المنظومة. كتاب «أكثر أبو هريرة» هو كتاب بسيط، لكنه يراجع الأحاديث التي يتداولها كثير من الناس بشأن راوٍ من الرواة كأبي هريرة على مستوى المقارنة، ويترك للأحاديث فيما بينها أن تبين أن هذا ليس من الدين، وإنما هو من السياسة والثقافة، وأنه أمر ناشئ في التاريخ، وأننا عندما سنفهم هذه الأمور سوف نفهم التاريخ بشكل أفضل، مما سيدفعنا لا محالة إلى انتزاع القداسة عنه. أما كتاب «نحن والقرآن» فهو كتاب سميته «مقدمات في أصول التدبر»، وهو يدعو إلى الرجوع مباشرة إلى القرآن الكريم من أجل بناء الفكر والتصور الديني. ولذلك كان دراسة تحليلية نقدية لأصول التفسير التي هي من صناعة الناس، فنحن صنعنا تفسيرا وعلوما وعبدناها مثل من يصنع آلهة ويعبدها، فبدل أن نرجع إلى القرآن أصبحنا نرجع إلى هذه العلوم التي تكبل القرآن وتحنطه ولا تتركه يتحرك، ولا تتركنا نتواصل معه، لأننا نصبح أمام أوصياء بأسماء سموها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك فهو كتاب نوعا ما بسيط، لكنه ثوري، يعيد النظر فيما يسمى بعلوم القرآن، حتى يمكن أن نقول إنها علوم تحريف القرآن وليست بعلوم تفسيره. - قلت في بعض حواراتك إن القرآن الكريم لا يعتبر معجزة لغوية، مع العلم أن هناك من يؤكد ذلك بقوة، فما رأيك في هذا، بناء على ما يجري في الساحة الثقافية والتربوية المغربية من سجال حول الاستغناء عن اللغة العربية، واستبدالها بالدارجة؟ موضوع الاستغناء عن اللغة العربية واستبدالها بالدارجة مثله مثل من يريد الاستغناء عن لغة معيارية علمية بما تؤول إليه عندما تصبح دارجة، ولكن أية دارجة؟ هذه مشكلة كبيرة بالنسبة لمن لا يفهمون، لأن تدريس الدارجة يجب أن يستند إلى المعيارية، ثم أية دارجة سنلقن؟ فكل منطقة مغربية لها دارجتها، فهناك اختلاف في اللهجات، إضافة إلى الاختلاط باللغات الأجنبية كالفرنسية والإسبانية. ولهذا فإن الدارجة ليست علمية. الأمر الثاني هو أننا إذا كنا ندرس بالعربية فإننا ندرسها بالدارجة حتى في الجامعات. إذن ما الغاية من هذه الدعوة؟ الظاهر أن لها علاقة بالظهير البربري أو بظهير آخر فرنسي قديم، وطبعا لو ذهبنا إلى فرنسا لن يقبل الفرنسيون تدريس الدارجة، ولذلك حين نتحدث في التدريس وفي العلم عن دارجة فيجب أن تكون معيارية أولا لكي نناقش أمر تدريسها. أما موضوع الإعجاز، فأنا أرى أنه كثر النقاش حوله دون أن يسمح الناس لأنفسهم بالقراءة وبعد ذلك يحكمون، فبمجرد ما يقرؤون عنوانا يصدرون أحكاما مباشرة، فلا يليق بعالم أو بباحث أو رئيس جماعة معينة بأن يصدر أحكاما لا تكون عن طريق القراءة، بل فقط عن طريق السمع، وقد تصل هذه الأحكام حد السب والشتم واللعنة والتكفير. وهذا غير مقبول، في نظري. الحديث عن لغة القرآن هو حديث عن لغة أي كتاب مقدس آخر أو نبي أرسل إلى قومه، والله لا يرسل أنبياءه إلا بلسان قومهم، إذ يقول الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»، فالعربية جاء بها القرآن لأن الناس يتكلمون بها، لكن هذه العربية هي لغتهم وليست لغة مقدسة أو عجيبة، فلغة القرآن ليست إلا شكلا من أشكال اللغة العربية العادية، لا تدخل إطار مسابقة ما فيما يخص المقارنة بين اللغات المتداولة، فالقرآن يناقش قضايا فكرية وفلسفية تتعلق بالإنسان وبموضوع التوحيد والبعث وطريقة العيش وتحريم أشياء أحلها الله وأخرى حرمها...، لكن بلغة القوم الذين أنزل فيهم. فلماذا، إذن، ننقل القداسة من الوحي إلى اللغة؟ وبأي حق نقوم بذلك؟. ولذلك نقول إن القرآن وحي من الله والمتكلم به عليم، وقوة هذا القرآن فيما يعرضه من أدلة وبراهين سماها «آيات»، وهي ليست أدلة لغوية، بل أدلة من الواقع والكون لعلهم يتفكرون، ومن ثم أرجو أن يفهم الناس بأن آيات القرآن ليست مقاطع لغوية، بل أدلة كونية واجتماعية وتاريخية يمرون عليها بالليل والنهار، ولكنهم لا ينتبهون إليها، فيأتي النبي أو الكتاب المقدس أو القرآن الكريم لينبههم إلى هذه الأشياء التي كانوا يغفلون عنها، وعندما ينتبهون إليها يجدون فيها آيات الله ويتفكرون فيها، ولذلك لا علاقة لإعجاز القرآن بلغته وإنما بمضامينه وأدلته. - لكن هناك من يقول إن الإعجاز في القرآن هو التركيبة اللغوية في حد ذاتها، والتي صعب على الشعراء والخطباء أن يأتوا بمثلها. لا. المشكلة المطروحة بالنسبة إلي الآن هي كيف يمكنني أن أنتقل بالناس من هذا النقاش اللغوي، الذي لم يكن في الأصل نقاشا نبويا، لأن النبي ليس أستاذ لغة، ولم يأت ليدرس أو يصحح اللغة، وإنما هو معلم الدين والتصور والسلوك وتصحيح الأفكار، فليست هناك أصلا مشكلة اللغة، التي اختلقها الذين لم يكن لهم شغل إلا اللغة كالمفسرين واللغويين والنحويين. معنى ذلك أنه في تاريخ العارف للإسلام كانوا يناقشون قضايا خلافهم اللغوي والفكري... عندما نتحدث عن إعجاز اللغة القرآنية نصنع كاهنين: كاهن لغوي يسمى المفسر، وكاهن للأحكام يسمى الفقيه، لأن الأول سوف يقول أنا الذي أستطيع أن أفسر لكم القرآن لأنه صعب ومعجز ولا تقربوه، بل اقرؤوه لتأخذوا منه ألف ولام وميم لتحصلوا على ثلاثين حسنة، ولكن أنا الذي أشرح لكم المعاني. فيما يقول الثاني: اقرؤوه من أجل البركة بسبب الحروف والكلمات، ولكن أنا الذي يستخرج لكم الأحكام، فما تفعلونه وما تفهمونه لا بد له من سادنين:سادن لغوي وسادن أحكام. لكننا نريد أن نقول بدورنا إن هؤلاء السدنة بدل أن يقربونا من القرآن أبعدونا عنه، فلا بد أن نزيلهم ونقترب من القرآن لأنه كتاب مبين وبيان للناس، وهو ليس عسيرا، بل هو يسير، فالله تعالى يقول: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر». بمعنى: يا أيها الناس اقرؤوا القرآن بدون هؤلاء الوسطاء. ولذلك يغضب الكثيرون مما أقول، لأنهم يعرفون أننا نسقط السدنة عن كتاب الله ونجعل الناس يصلون إليه بدون هؤلاء. - وما هو تقييمك لمخططات الحكومة الحالية في إصلاح الوضع التربوي بالمغرب؟ حسب علمي المتواضع، ليست هناك مخططات، من منطلق أنني لست سياسيا، ولكن لا نرى شيئا يبشر به من أجل برامج تربوية أو تثقيفية، ولم أر إلى حدود الآن مشروعا مغربيا ثقافيا استراتيجيا، فهناك تيار ديني ينهل من التاريخ الثقافي الديني ويكرس ثقافة دينية قائمة مقابل تيارات أخرى لا دينية تردد وتعيد ما كانت تقوله منذ عقود، وهناك وزارات تصرح بأنها تريد مذهبا واحدا، وهذا يعني أنه ممنوع التفكير إلى جانب وزارة التعليم المنهمكة في اليومي وفي تصريف برامج تاريخية تكرر نفسها وتنتقل من تجربة إلى أخرى بدون أي مشروع وطني حقيقي. ربما لا أعلم، لكنني لم أر شيئا.