ينبغي على الدبلوماسية التقليدية أن تكون قاطرة للدبلوماسيات الموازية، البرلمانية والحزبية وهيئات المجتمع المدني. ومن ثم وجب القول إن الدور الذي ينبغي أن تنهض به وزارة الخارجية مهم وحيوي وريادي، قائم على التنسيق، من جهة، وتحيين المعطيات، من جهة ثانية، عبر موقع إلكتروني لإبداء الرأي والمشورة، ويحتوي على كل المستجدات التي تواكب القضية الوطنية. وبموازاة ذلك، ينبغي السهر على خلق آلية للربط والتواصل بين وزارة الخارجية وباقي مؤسسات الدبلوماسية الموازية، وذلك من خلال اجتماعات دورية هدفها بالأساس مواكبة التطورات ورصد تحركات المناوئين ووضع استراتيجية استباقية لمحاصرة أعداء وحدتنا الترابية. لا شك في أن المرحلة التي تجتازها قضيتنا الوطنية اليوم بالغة الأهمية والتعقيد، وبالتالي لا تنبغي مواجهتها بالطرق التي دأبت على سلكها دبلوماسيتنا من قبيل "الفعل ورد الفعل". وليتسنى لنا ذلك، لا بد من اعتماد مقاربة جديدة، وهذه بدورها تستدعي فتح نقاش موسع تشارك فيه كل الفعاليات الوطنية، من سياسيين وأكاديميين ورجال أعمال ونقابيين وغيرهم، ترعاه وزارة الخارجية على شكل أيام دراسية بعنوان: "الدبلوماسية المغربية: واقع وتحديات"، مع ما يلزم ذلك من تحديد دقيق لمحاور هذه الأيام الدراسية طبقا لما تقتضيه المرحلة الراهنة، وعلى ضوء ما يحتفظ به خصومنا من تحركات في المرحلة القادمة. حقوق الإنسان والاقتصاد وجهان لدبلوماسية واحدة - دبلوماسية حقوق الإنسان: واحدة من مستجدات القضية الوطنية، وهي أن المواجهة بيننا وبين الجزائر عادت لتفتح من جديد على الساحة الإفريقية بعد الفشل الذي مني به هذا الجار في إحداث اختراق نوعي على صعيدي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي لم تتجاوز حدود اجترار التوصيات السابقة. ومن المؤكد أن هذه الوضعية لم ترض عنها الجزائر، مما دفعها إلى إعادة طرح قضية وحدتنا الترابية على المحفل الإفريقي بمناورات مختلفة. ولعل الإتيان برمطان لعمامرة كوزير للخارجية يندرج في سياق هذا الهاجس الجزائري لما له من خبرة ودراية بالشأن الإفريقي وشبكة واسعة على صعيد القارة. كما أن رسالة الرئيس بوتفليقة إلى اجتماع أبوجا دليل آخر على فقدان القيادة الجزائرية لصوابها بعد أن اختارت مواجهة المغرب من خلال رهان حقوق الإنسان، وهو آخر ما يمكن أن تتحدث عنه الجزائر التي تضرب بكل الحقوق والقيم عرض الحائط. ومادام الأمر كذلك، فإن المخطط الجزائري -كما يبدو- من وراء هذا التحرك يرمي إلى استخدام ورقة حقوق الإنسان في عملية التفاف للتشويش على الوجود المغربي الشرعي في أقاليمه الصحراوية من خلال محاولات الجزائر اليائسة إقحام المينورسو في هذا الملف، وذلك للوصول إلى ما لم يتيسر لها عبر باطل أريد به حق تقرير المصير. إنها قراءة ينبغي استحضارها في مجال حقوق الإنسان لأن الجزائر تريد اليوم أن تجعل منها مشجبا ومطية في معركتها ضد المغرب من أجل تحقيق مآرب سياسية من قبيل إظهار بلادنا كبلد لا يحترم ولا يراعي أبسط الحقوق، ولا يفسح المجال أمام سكان الصحراء كي يمارسوا حرياتهم ويعبروا عن إرادتهم. وهنا يكمن سر الجزائر وتختفي خيوط لعبتها. تلكم هي الصورة المشوهة التي تحرص القيادة الجزائرية على إلصاقها بالمغرب لتأليب المنتظم الدولي عليه، وتفريغ مبادرة الحكم الذاتي من محتواها بعد أن أخذت تنظر إليها كعقبة تحول دونها وإحداث اختراق نوعي في هذا الملف. وإذ النية المبيتة للجزائر باتت واضحة ولا يعتريها شك، فإن ما ينبغي القيام به، والكلام موجه إلى السيد الوزير، هو إعداد العدة لذلك ضمن تصور شامل ومعمق لمساومة الجزائر في مجال نتميز عليها فيه؛ فالجزائر قد اختارت معتركا لنا فيه سبق كما لنا فيه رصيد. لكن يجب علينا معرفة كيفية استخدام هذا الرصيد، والوسيلة المثلى لذلك هي التكوين المستمر لأطر الخارجية عبر المعهد الدبلوماسي من خلال برنامج مكثف وعقلاني تراعى فيه: أولا، المبادئ العامة والمواثيق ذات الصلة بحقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا؛ ثانيا، الاتفاقيات الدولية والالتزامات التي صادق عليها المغرب بخصوص هذا المجال؛ ثالثا، تنزيل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة في تشريعات وطنية؛ رابعا، الممارسة المغربية للمنظومة الحقوقية وترجمتها على أرض الواقع إلى هيئات ومجالس من قبيل ما تميز به المغرب إفريقيا وعربيا كهيئة الإنصاف والمصالحة وغيرها من المجالس المتصلة بحقوق الإنسان؛ خامسا، التأكيد على أن المغرب موطن للتسامح والتعايش بين مختلف الأجناس والديانات في الماضي والحاضر، وبين مختلف الثقافات الأمازيغية والإفريقية والحسانية، والتركيز على الجهد المغربي المبذول في مجال تمكين العنصر الإفريقي من تسوية وضعيته داخل المغرب بعد أن تحول من بلد عبور إلى بلد استضافة. هذه هي روح الثقافة الحقوقية السائدة في المغرب والتي يجب على الدبلوماسي المغربي، كل من موقعه، أن يتسلح بها ليس فقط في مواجهة المغالطات الجزائرية ، وإنما من باب التعريف بالإشعاع المغربي في هذا المجال، ولعلنا في ذلك نكون في خدمة ما نتوخاه من دبلوماسية استباقية. - الدبلوماسية الاقتصادية: لا شك موضوع حقوق الإنسان صار ينطوي على أهمية أكبر من تلك التي كان يحظى به من قبل، فبعد أن كان شأنا داخليا للدول أصبح واحدة من القضايا التي تعنى بها العلاقات الدولية، سواء بين الأمم أو المنظمات العالمية. ومن هنا تأتي أهمية توظيف الإنجازات التي حققها المغرب على هذا الصعيد في مواجهة خصومنا. وبقدر ما لهذا الموضوع اليوم من مكانة في أولويات الدبلوماسية المغربية، فإن ذلك سيبقى إنجازا لكنه بحاجة إلى قوة دفع لضمان ديمومة واستمرارية دبلوماسيتنا كما نتطلع إليها؛ فكل محرك بحاجة إلى بنزين، وبنزين السياسة الخارجية المغربية هو دبلوماسيتها الاقتصادية، ذلك أن العلاقات بين الدول قائمة على المصالح، وليس كافيا أن تقنع الدول بعدالة قضيتك، بل عليك، لخدمة هذه القضية على الدوام، أن تجعل من هذه الدول شريكة لك في مصالح متبادلة عبر نسيج من العلاقات تغطي مختلف أوجه التعاون الاقتصادي والتجاري وقطاع الخدمات المصرفية والمالية والاستثمارية. وفي هذه الدبلوماسية الاقتصادية، ينبغي للدولة أن تلعب دور الموجه والمؤطر والضامن، بينما أدوات التنفيذ لهذه الدبلوماسية ينبغي أن تناط أساسا بالقطاع الخاص حيث رجال المال والأعمال والمؤسسات شبه العمومية العاملة في القطاع الاقتصادي. ومن المؤكد أن الممارسة في هذا الحقل ستفضي إلى مكاسب سياسية مضمونة على المدى البعيد بفضل لوبيات اقتصادية يتم إنشاؤها من داخل الدولة الشريكة، وتتحول تلك اللوبيات إلى مدافع عن قضيتك لدى سلطة القرار في بلدها بعد أن باتت مصالحها جزءا لا يتجزأ من مصلحة المغرب. فالماكينة الدبلوماسية الناجحة لا تدور على رحى واحدة، بل هي بحاجة ماسة إلى تعدد الوظائف، وهذا يتطلب بدوره العمل في تناغم بين جميع القطع المكونة لذلك المحرك. وبالتالي، فإن دبلوماسيتنا ينبغي أن تكون متعددة في أوجهها ومؤسساتها وفي وظائفها، وموحدة في أهدافها ومكاسبها. والدبلوماسية الناجحة التي نريدها اليوم ينبغي أن تكون دبلوماسية استباقية وفاعلة، ومن ثم لا بد لها من أن تكون معززة بأطقم على درجة عالية من الكفاءة والمواكبة، وهي غير مفقودة والمطلوب فقط هو فتح المجال لها بدلا من أن يظل حكرا على فئة معينة. لحسن الجيت