ظلت مسألة التعلق بالزوايا وما يصاحبها من طقوس غرائبية مرتعا خصبا للباحثين في علمي النفس والاجتماع. أستاذ التعليم العالي محسن بن زاكور، واحد من المهتمين بهذه الظواهر ودلالاتها وكذا ارتباطها بمكونات المجتمع ونفسيات مواطنيه. في الحوار التالي يتصدى بن زاكور لمختلف الجوانب المرتبطة بهذا الموضوع. - بماذا تفسرون الدعم الذي تقدمه السلطة إلى هذه المواسم؟ وهل وراء ذلك أهداف غير معلنة؟ < لنسم الأشياء بمسمياتها، الأمر لا يتعلق بالدعم بل ب«إستراتيجية» يمكن وضعها في إطار نوع من التسيير لفسيفساء التركيبة الاجتماعية المغربية، وهو أيضا اعتراف ضمني بأصالة هذه الزوايا، ودورها في (استقرار) المجتمع حسب اعتقاد السلطة، إنه استثمار السياسة للأساطير من أجل تكوين الإيديولوجيات التي تخدمها. حاليا الدور الذي تلعبه الطرقية هو امتصاص الفراغ الذي تعاني منه فئات من المجتمع، وبالتالي فإن السلطة تتعامل مع هذه المواسم مثل «السكاتة» التي تمنح للطفل الرضيع، ونوع من التخدير الطقوسي الذي تسد به بعض الأبواب التي يمكن للريح أن تأتي من خلالها، الأمر الذي يساهم في تكريس المعتقدات السائدة التي ترى في الولي فلان أو الزاوية الفلانية مصدر رزق، إلى درجة تجعل البعض يعتقد بأن الحل الوحيد يكمن في الحصول على البركة، وبالتالي يتم تغييب المبادرة الشخصية ويتم ترسيخ الضعف والجبن لدى آلاف المغاربة. -المواسم التي يتم تنظميها تعرف طقوسا لا تخلو من الغرابة بما فيها طقوس «الجذبة» وأكل اللحم النيئ، هل الأمر مرتبط بعادات قديمة للمغاربة؟ < حين نتحدث عن هذه الطقوس، فلا بد من الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بمسألة مركبة، إن لم نقل معقدة، يتداخل فيها ما هو اجتماعي ونفسي وتكويني وثقافي. في ما يتعلق بالجانب الثقافي، وهو الركن الأساسي، يمتزج فيه الدين بالعادات والتقاليد، ليفرز سلوكات خطيرة وشاذة يتشبث بها المريد إلى درجة الاعتقاد. تاريخيا، الفكر الطرقي بدأ بالمغرب مع عهد الأدراسة، وتفرع بعد ذلك بحكم ارتباطه بمفهوم السلطان، مما أعطاه صبغة مقدسة، وحضور الطرقية كان يتقوى أو يخفت حسب الظروف السياسية العامة، ونعطي مثالا المرحلة التي كان فيها السلاطين يؤدون الجزية مقابل المرور بالطرق التي تحكمها الزوايا، أو يخفت كما هو الشأن بالنسبة إلى بعض الزوايا التي وصلت حد الخيانة والتعامل مع الاستعمار، وبين مرحلة القوة والضعف، وقع تكريس لبعض الممارسات والطقوس التي يصعب تغيير العقليات المؤمنة بها. من الناحية الاجتماعية والنفسية، معظم الذين يلجؤون إلى الطرقية لم ينشؤوا في أحضان هذه الزاويا، وهو ما نسميه بالانتساب. وحسب بعض الدراسات التي تطرقت للموضوع، فإن الانتساب يكون إما بدوافع شخصية أو سياسية. كما أن الانتساب يكون، من جهة أخرى، مظهرا من مظاهر الانتماء والاحتماء بحكم الطابع القبَلي الذي ميز المغرب. من الناحية السياسية، فإن الطرقية كانت تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على استقرار بعض المناطق المغربية، وكان لها دور كبير في اختيار الأعيان، وهي حقيقة لا يمكن فصلها عن بعدها الاقتصادي، لذا كنا نجد بعض الطرقيين من كبار التجار بالمغرب، أو من المنتمين إلى العائلات الكبيرة. - البعض لا يتردد في إيذاء نفسه بالسواطير والسكاكين، هل يدخل هذا في إطار الشعائر؟ < يجد المريد في الانتساب طريقة للهروب من المشاكل التي يعاني منها، والتي لا يملك القدرة على مواجهتها، وبالتالي يحتمي بمثل هذه السلوكات التي ليست لها أية علاقة بالإسلام بل هي شرك وشعوذة، وهو ما تؤكده النصوص الدينية في كثير من المناسبات، فليس كل ما هو طقس ديني إسلاما بالضرورة. وتنطلق الذهنية المميزة للشخصية السلوكية «للمتحيرين» والممارسين للطقوس من قناعة بوجود حالات غير طبيعية تعتري الفرد، وجلب بركاتها يتم باتباع طقوس نابعة كشرط مسبق من الاعتقاد بوجود قوة خفية (إمكانيات الشيخ الخارقة، مثلا) لا بدَّ من استرضائها كشرط مسبق لحصول الرضى. وقد لاحظت مدى تجذر هذه القناعات في ذهنية الممارسين. وهو ما يذكرنا بقول جيمس فريزر: “لا يستطيع البدائي التفرقة بين الطبيعي وفوق الطبيعي، فكل شيء في عالمه يشخص”. إن هذه الممارسات في الحقيقة هي سحق للإنسان وإخراج له من دائرة اتخاذ القرار. - كيف تفسرون القوة التي يتمتع بها «المجذوبون»؟ < من الناحية النفسية، الذي يمارس الطقوس الطرقية كمن يرقص في ملهى ليلي ليخلد بعد ذلك إلى النوم، فالأمران متشابهان من حيث التأثير النفسي، «الجذبة» تبقى فضاء لتصريف الطاقة التي من المفترض أن يتم استغلالها في الإنتاج، وهدر هذه الطاقة لن يساهم في تقدم المجتمع. فالممارسة الطقسية تقوم دعاماتها على البنية الأساسية لشخصية «المريض» التي هي نتاج لثقافته، حيث يستجيب الفرد للسلوك الذى تعلمه والذي يرى فيه طرقاً للإشباع في مواقف معينة: إن السلوك المنحرف يخضع لمبادئ التعلم الاجتماعي. - هل هناك لوبيات اقتصادية وسياسية تستغل هذه المواسم من أجل تحقيق مكاسب؟ < المواسم فرصة سانحة لبعض السماسرة الذين يراكمون ثرواتهم على حساب الآلاف من المريدين من خلال ممارسات اقتصادية غير قانونية، وغير مؤدى عنها، وهو الأمر الذي تتساهل معه السلطة، فالمهم عندها هو أن يمر الموسم بسلام. في ما يتعلق بالاستغلال السياسي، يمكن القول إن السياسة فشلت أمام الطرقية، فإذا كان الطرقي يخاطب الجانب الروحي للمريدين ويستغل أوضاعهم النفسية والاجتماعية، فإن السياسي في الوقت الراهن افتضحت (خطبه)، ولم يعد بإمكانه الاختباء وراء الكاريزمية أمام الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم والذي عرى أوراقه. يمكن القول إن هناك عودة قوية للطرقية بسبب فشل السياسة في إنجاح العلاقة بين الأجيال، وتصحيح الوضع العام بالبلاد، وبالتالي فكلما «تخلف العقل نجحت الخرافات والطرقية». السياسة كما هو معلوم «بقاء وقوة»، وبالنسبة إلى البعض ممن خسروا أوراق اللعبة فإن المواسم مرحلة ظرفية يجب استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية، إما عن طريق التمويل أو الانتماء. - موسم سيدي علي بنحمدوش تحول إلى قبلة للشواذ الذين يرون في عيشة قندشية رمزا، كيف تفسرون الأمر؟ < في غياب بحث ميداني، يمكن الجواب عن هذا السؤال بطرح أسئلة تبقى ضرورية وجوهرية أولها: من قام بتأويل أسطورة «عيشة قنديشة» وأضفى عليها طابعا شاذا، علما بأن قنديشة في التراث المغربي كانت توظف كأسلوب للتربية المبنية على التخويف قبل أن تصبح منذ مدة قصيرة رمزا للشواذ؟ ثانيا: هل يمكن اعتبار توظيف الشواذ لهذا الموسم نوعا من الذكاء للدفاع عن حضورهم الاجتماعي ولفت الانتباه؟ ثالثا: هل وصل الشواذ في المغرب من الدقة والتنظيم والتنظير إلى حد استغلال مثل هذه المواسم؟ رابعا، وهو السؤال الأساسي: من رخص لهؤلاء بالتجمع في مثل هذه المناسبات؟ - بعض الفتيات بالرغم من أنهن متعلمات لا يترددن، خلال هذه المواسم، في ممارسة طقوس غريبة، مثل تعليق ثيابهن الداخلية على الأشجار طمعا في عريس، بماذا تفسرون الأمر؟ < السؤال الذي ينبغي طرحه هو: لماذا وصل بعض أصحاب الشواهد إلى درجة ممارسة هذه السلوكات؟ هل هذا ما يمكن أن نسميه بازدواج الشخصية؟ أم إن الأمر يتعلق بتعبير عن «جبن» زادت سنوات القمع والرصاص التي عرفها المغرب من وشمه في نفسية الشباب ليصبح جزءا لا يتجزأ من شخصية المتعلم المغربي، والذي يتمثل في عدم إيمانه بقدرته على مواجهة المشاكل وتغيير الأوضاع، ومن ثم يتم اللجوء إلى بعض الممارسات؟ إذا كانت الخرافة نتيجة خطأ في الإدراك أو الذاكرة أو الحكم فإن إصلاح هذا الخطأ يكون ممكناً؛ ولكن هذا النوع من الناس لا يهجرون مثل هذه الأخطاء بسهولة إثر مناقشة عقلانية. إن الخرافة قد صممت بفعل ضغوط اجتماعية ولا يمكن أن نتوقع زوالها إلا بانتهاء الضغوط المسببة لها. المجتمعات التي عرفت نوعا من التقدم لم تصل إلى ذلك إلا بعد معاناة وصدامات، ومن لا يؤمن بمنطق التاريخ سيبقى معزولا عن الواقع، وهنا نتحدث عما يسميه الإسلام بالجهاد الحقيقي، أي جهاد النفس.