عندما أطلقنا مجلة "نيشان" في نهاية 2006، كان الزميل أحمد بنشمسي يستسهل مسألة إدخال "الدارجة" إلى الكتابة الصحفية، في الوقت الذي كان فيه إدريس كسيكس يعرف أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو. الفرق بين الاثنين أن كسيكس كان يعرف العربية بينما بنشمسي لا يكاد يفرق بين الألف و"الزرواطة"، لكنه استطاع أن يطور مستواه بشكل استثنائي، جعله في النهاية يكتب افتتاحيات بالعربية دون مساعدة من أحد، للأمانة والتاريخ. كان بنشمسي متحمسا جدا لعمود ب"الدارجة"، تقرر أن يكتبه فنان "الرابّ" -الصاعد وقتها- توفيق حازب، الذي كان يسمي نفسه ب"الخاسر". بعد بضعة أعداد، تبين أن "الخاسر" الحقيقي في العملية هو "نيشان" إذا ما استمرت في نشر عمود لا أحد يستطيع قراءته، وانتهينا بأن أوقفنا خربشات "البيغ"، لأن المسافة بين الشفاهي والمكتوب هي المسافة بين الحلم والواقع. كثير من الأوهام حول "الدارجة" تسقط بمجرد أن ندخلها حيز التطبيق. ومادمنا نتحدث عن المرحومة "نيشان"، التي كانت سباقة إلى طرح مشكلة "الدارجة" والفصحى في الإعلام، اِسمحوا لي أن أعيد ما كتبته في أحد الأعداد عن عبد الله العروي، الذي نزل بثقله في النقاش الدائر حاليا حول "الدارجة" والتعليم: "أكثر واحد أتحسر على مصيره في المغرب هو عبد الله العروي: بدل أن يولد في "الجابّون" التي سكن في "دارها" أيام الدراسة بباريس أو ألمانيا ليكمل رسالة جده ماركس أو "الطليان" ليبدأ من حيث انتهى صديقه مكيافللي أو حتى في أندلس ابن خلدون كي يجد من "يقرقب معه الناب" حول "علم العمران" و"الانحطاط وأسبابه"... رماه القدر الأعمى إلى مغرب عزيز الحبابي وغيثة الخياط! منذ أكثر من نصف قرن والسيد "كيكب الما فالرملا": يؤرخ للسقوط ويقول ل"عريبان راكم داخلين فالحيط"، ما يحرك العالم "ليس الحق بل المنفعة"، دون أن يسمعه أحد. أفنى حياته يحارب "التقليد"، فاكتشف في النهاية أنه مثل "سراق الزيت"، كلما قتلت واحدا يولد من دمه عشرة. منذ أكثر من نصف قرن والرجل يكلم نفسه، ويقدم إلينا "المفاهيم" كما يقدم "سكين جبير" لقطيع من الغنم. من كثرة اشتغاله على مجتمعات جامدة مثل الأحجار، سيتحول العروي من مؤرخ إلى عالم "جيولوجيا"!... ويبدو أن صاحب "السنة والإصلاح" تحول فعلا إلى "جيولوغ"، لأن الرؤوس التي يخاطبها هي تشكيلة من الأحجار "الكريمة": الغرانيت والحديد والفولاذ والرصاص والنحاس وغيرها من المعادن الصلبة... هكذا فكرت وأنا أتأمل بعض ردود الفعل التي أعقبت الخروج الإعلامي للمفكر المغربي، الذي أحس بمسؤوليته التاريخية، وأخرج "الخشيبات" كي يشرح للناس كيف يمكن أن يؤدي الجهل إلى إبادة ثقافة وحضارة استغرق بناؤها مئات السنين، ويقذف بلادا بكاملها إلى الهاوية. لكن الجاهل يستسهل كل شيء، وتعرفه بثقته الزائدة في النفس. ولعل من مآسي عصرنا الحديث أن الجهل أصبح "علميا" و"رقميا" و"افتراضيا"... لقد سمع "أبو جهل" عن النقاش حول اللغة والتعليم، ورغم أنه غير متأكد مما إذا كان العروي كاتبا أو منطقة جغرافية، فإنه لا يتردد في التعبير عن رأيه في الموضوع، لأنه هو أيضا "لديه ما يقول" ويكتب على صفحته في الفيسبوك: "أنا أختلف مع عبد الله العروي" و"شكون هو كاع هاد العروي؟"... ولعل من فوائد هذه "المعادن النفيسة" أنها تدفعك إلى الغوص في "الربيرتوار" الرائع الذي تركه أجدادنا عن "عباقرة الجهل الأولين"، وعلى رأسهم صديقنا المتنبي وبيته الشهير، الذي برع في وصف السعادة التي "يتمرغ" فيها بعض "المحظوظين": "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله / وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"! أما الخليل بن أحمد فقد كان يقول إن الناس أربعة: "رجل يعلم ويعلم أنه يعلم فكلّمه، ورجل يعلم ويرى أنه لا يعلم فكلّمه، ورجل لا يعلم ويرى أنه لا يعلم فكلّمه، ورجل لا يعلم ويرى أنه يعلم فلا تكلّمه"، أو قل له "سلاما"، كما كان يصنع أحد الرفاق أيام الحي الجامعي في مكناس، حين كانت النقاشات الطلابية تنزل إلى الحضيض، كان يردد في وجه مخاطبيه بصوت مسموع: "سلاما"، دون أن يضيف أي شيء، وأكثرهم لم يكن يفهم أن هذا "الماركسي" العنيد إنما كان يتيمّن بالآية الكريمة: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"... سلاما إذن لرؤوس "الأحجار الكريمة" والجباه التي تصلح لتكسير اللوز!