يحتل الحق في الشغل وتقلد الوظائف العامة مكانة سامية في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، لارتباطه الوثيق بحياة الإنسان وسُبل كسب معيشته والوفاء بجميع التزاماته المدنية، كالسكن والتدايُن والكراء والشراء، وتلبية معظم حاجياته وحاجيات أسرته الفيزيولوجية، من مأكل ومشرب وكسوة وتعليم وصحة وتنقل؛ فالشغل هو حجر الأساس في حياة الأفراد ووسيلة التنمية الإنسانية المستدامة أو هو الحق الذي تنشأ منه كافة التزامات الأفراد القانونية والمدنية والاقتصادية، وبالتالي فهو عامل محدد لوجود الإنسان يجعله يحس بمواطنته كاملة ويفتخر بانتسابه إلى الجماعة الاجتماعية، فالتمتع بحق الشغل يعتبر أمرا ذا أهمية لتحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للفرد، ويتيح له كشف العديد من المهارات والقدرات الباطنية والشعور بالقدرة على النجاح، فالشغل يعد مطلبا ضروريا للتحركات اليومية للفرد، بل إن كل تحركات الفرد ومعاملاته مع بني جنسه مرتبطة ارتباطا وثيقا بذمته المالية. فلا يمكن الحديث عن التنمية الإنسانية المستدامة في أي مجتمع من المجتمعات دون التشديد، وبشكل خاص، على ضمان الحق في الشغل وتقلد الوظائف، ومن خلالهما التصرف في ذمة مالية مستقلة عن ذمة أفراد الأسرة والعائلة. وبقدر ما تتسع دائرة تمتع المواطنين بحق الشغل تتسع دائرة التنمية والرفاه الإنساني، وحينما يُحرَم الأفراد من حق الشغل تضيق وتختنق دائرة التنمية أو يتعثر مسارها. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن حق الشغل لا يلغي باقي الحقوق أو يقلل من شأنها، بل إن كافة الحقوق متكاملة ومتلازمة، فلا تنمية بدون إنسان غير مكتمل الحقوق؛ فالإنسان، أينما وجد وبدون تمييز، يستحق حقوقا سياسية ومدنية تسمى حقوق الجيل الأول، وأخرى اقتصادية اجتماعية وثقافية تعرف بحقوق الجيل الثاني كحق الإنسان في أن يحيى حياة كريمة ولائقة وحقه في العمل والأجر الملائم، ويأتي الجيل الثالث مكملا للجيلين الأول والثاني، مثل الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة وصحية. وتستند الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان إلى قواعد قانونية تحميها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان والدساتير والقوانين الوطنية التي تفرض جميعها على الحكومات التزامات باحترام حقوق الإنسان وتعزيزها وحمايتها والوفاء بها، ومنها الحق في الشغل. فما يميز الإنسان عن باقي مخلوقات الطبيعة الأخرى، بعد أن زوده الله بالعقل وأمره بالعبادة، هو أن كرمه وجعله خليفته في الأرض وكلفه بأدوار في الحياة ومنحه من الحقوق ما يليق بمكانته المكرمة وبما يساعده على أداء الدور والوظيفة التي كلفه بها؛ وهذا الدور لن يتيسر للإنسان القيام به وهو عاجز ماديا وله إحساس بعدم القدرة أو المبادرة؛ وبفقدان روح المبادرة (يموت) الإنسان حتى لو عاش يأكل ويشرب ويسعى في الأرض كما هو حال جميع الدواب والأنعام، وخاصة إن كان هذا الفرد في مجتمعات تتفرد بطابع النظر إلى الفرد من خلال مكانته الاجتماعية وما راكمه من ثروات. ويشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من دجنبر 1948، الخلفية القانونية لكثير من المواثيق والاتفاقيات الدولية التي صدرت على المستوى الدولي لتصنيف وتفصيل الحقوق التي وردت فيه. ومن زمرة الحقوق التي وردت في هذا الإعلان نجد الحق في الشغل، حيث نصت المادة 23 منه على حق كل إنسان في العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة، وحق جميع الأفراد دون أي تمييز في أجر متساو عن العمل، وحق كل فرد يعمل في مكافأة عادلة تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة الإنسانية؛ أما المادة 25 من نفس الإعلان فقد نصت في فقرتها الأولى على حق كل شخص في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على صحته ورفاهية أسرته، بما في ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكل الخدمات الاجتماعية اللازمة، كما نصت على حقه في تأمين معيشته من حالات البطالة وغيرها من الحالات. هذا، ويتصدر الحق في العمل قائمة الحقوق التي أقرها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في عام 1966، فالمادة السادسة من هذا العهد تطرقت بتفصيل للحقوق الواجب توفيرها للأفراد، ومنها حق العمل الذي يشمل حق كل إنسان في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وأن تقوم الدول باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق وتوفير برامج التوجيه والتدريب للتقنيين والمهنيين، والأخذ بسياسات وتقنيات من شأنها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، وعمالة كاملة ومنتجة في ظل شروط تضمن للفرد الحريات السياسية والاقتصادية الأساسية. كما نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الصادر بتاريخ 1966، في الفقرة الثالثة من مادته ال25، على أن تكون لكل مواطن، دون أي تمييز، مجموعة من الحقوق، منها أن تتاح له، على قدم المساواة عموما مع سواه، فرصة تقلد الوظائف العامة في بلده. ومن جانبه، نص الإعلان العالمي للتقدم الاجتماعي والتنمية، الصادر عن الأمم المتحدة في 11 دجنبر 1969، في مادته السادسة، على أن الإنماء والتقدم الاجتماعي وكرامة الشخص الإنسانية يقتضيان أن يُكفَل لكل إنسان حق العمل وحرية اختيار العمل. وفي نفس السياق، نجد إعلان كوبنهاغن بشأن التنمية الاجتماعية، المنعقد بتاريخ (1995)، قد تضمن مجموعة من الالتزامات، يأتي في مقدمتها الالتزام الثالث الذي يدعم ويؤكد على ضرورة تعزيز حق العمل بوصفه أولوية أساسية تمكن الإنسان من الحصول على سبل العيش الكريم وتحقيق التنمية المستدامة. وتحقيقا لهذه الغاية، أوصى المؤتمرون بجعل "توفير فرص العمل والحد من البطالة" محورا لاستراتيجيات وسياسات الحكومات، وإيلاء عناية خاصة لمشاكل البطالة في صفوف الشباب والنساء وكافة المجموعات والأفراد المحرومين والمعوزين، وكل من هم في حاجة إلى الدعم والمساعدة الاجتماعية. وأخيرا وليس آخرا، إعلان فيلادلفيا الصادر عن المؤتمر العام لمنظمة العمل خلال دورته ال26 في ماي 1944، بمدينة فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يقر في مادته الثانية بحق العمل لجميع البشر، أيا كانت أعراقهم أو معتقداتهم أو أجناسهم، بهدف تحقيق رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وجعل توفير حق العمل هدفا أساسيا لكل السياسات الوطنية والدولية، ولاسيما في الميدان الاقتصادي والمالي، ودعا إلى التشغيل الكامل ورفع المستوى المعيشي للأفراد. وقد أصدرت منظمة العمل الدولية، منذ تأسيسها عام 1919، العديد من الاتفاقيات والتوصيات في مختلف مجالات العمل، حتى بات يعرف هناك ما يسمى بالشرعية الدولية لحقوق العمل والعمال، والتي تكاد تكون ملزمة للجميع، حكومات وعمالا ورجال أعمال، "إذا أردت السلام فازرع العدل"، هكذا نقشت تلك الكلمات على حجرِ أساسِ بناءِ منظمة العمل الدولية. وقد حرص دستور المنظمة على تأكيد هذا المعنى، فجاء فيه: "لا سبيل إلى إقامة سلام عالمي ودائم إلا على أساس من العدالة الاجتماعية"، باعتبار أن العدل الاجتماعي مقرون بتوفير الشغل والحماية من البطالة وشرط لازم لاستقرار السلام الدولي، فالشغل شرط أساسي لاستمرار الحياة وتقدمها. هذا ويقضي منطوق الفصل 31 من الدستور المغربي لسنة 2011 بأن "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في: الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي". وإذا أخذنا بمعيار ترتيب المسؤوليات، فإن هذا الفصل جعل مسألة توفير مناصب الشغل مسؤولية عمومية ملقاة على عاتق الدولة ومرافقها العامة، فهي ملزمة بمقتضى نص دستوري صريح باتخاذ كافة الإجراءات والوسائل الرامية إلى تيسير طرق استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من حقهم في الشغل. فهذا الفصل يوضح بجلاء، إلى جانب الإعلانات الدولية الآنف ذكرها، أن قضية التشغيل تدخل في اختصاص السلطات الحكومية، بل يؤكد أنها من القضايا التي يجب أن تحظى بأولوية أثناء تسطير السياسات العمومية والبرامج الحكومية، لأن الحق في الشغل هو الذي يحقق للمواطن مواطنته الكاملة، ويصون له كرامة العيش ويوفر له الاستقلال الذاتي، ومنها يتحقق رفاه الأفراد الذي تسعى كافة دول المعمور إلى بلوغه، في إطار ما يسمى بالتنمية الإنسانية المستدامة. عبد الغني السرار باحث في العلوم السياسية كلية الحقوق الرباط