حين ينجح مسلسل الدمقرطة داخل دول المنطقة ستبنى نواة الاتحاد المغاربي من الأسفل على شكل اتحادات شعبية، وغير حكومية، وموازية، ستشكل قاطرة موجهة لمسار توحيدي حقيقي عشنا، هذا الأسبوع، حدثين شكلا مفارقة عجيبة لها أكثر من دلالة. فالجزائر قررت، بشكل استثنائي، فتح حدودها البرية المغلقة مع المغرب للسماح بمرور قافلة المساعدات الإنسانية البريطانية التي يقودها النائب جورج غالوي لإغاثة سكان غزة. ومعلوم أن الحدود البرية بين البلدين مغلقة منذ 1994، أي منذ أكثر من 15 سنة، بسبب خلاف نشب بين البلدين على خلفية الاعتداء على فندق آسني بمدينة مراكش. أما الحدث الثاني فيتجلى في تزامن المبادرة الجزائرية مع حلول الذكرى العشرين لإنشاء اتحاد المغرب العربي، الذي تأسس في 17 فبراير 1989 بمدينة مراكش، تتويجا -هكذا اعتقد من أحسنوا الظن حينها- لعمل نضالي وكفاحي وتضامني ابتدأ منذ عهد الاستعمار الذي وحد آنذاك حركات التحرر الوطني في مختلف بلدان المنطقة. حينها، كان بناء اتحاد مغاربي حلما وأمنية وأملا، وكان ينظر إليه كإطار قادر على تجسيد وحدة التحديات والتطلعات والمصير. لم يتأسس الاتحاد في زمن الاستعمار وإن ظل التعاون والتنسيق ووحدة الفعل حاضرة بقوة ساهم فيها وطنيون كانوا مقتنعين بجدوى الاتحاد المغاربي. ومرت عقود من الزمن، وتأسس الاتحاد، ونص بيانه التأسيسي على الأهداف، ولخصها في تمتين أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها، وتحقيق تقدم ورفاهية مجتمعاتها والدفاع عن حقوقها، والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، ونهج سياسة مشتركة في مختلف الميادين، والعمل تدريجيا على تحقيق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال في ما بينها. وبطبيعة الحال، فقد توفر لهذا الاتحاد ما لم يتوفر لغيره من المبادرات التي نجحت، مثل وحدة الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والعرق والعادات؛ إضافة إلى ثروات طبيعية وموقع استراتيجي ومؤهلات مناخية ورأس مال بشري قوامه 80 مليون نسمة، أي ما يقارب%27 من سكان العالم العربي. اليوم وقد مرت على مبادرة التأسيس عشرون سنة، ماذا تحقق لتحويل هذا الحلم وتلك الأماني والآمال إلى حقيقة؟ بإلقاء نظرة سريعة وخاطفة، يستطيع المتأمل في هذا المسار استخلاص نتيجة الفشل؛ فالحدود مغلقة والخلافات عميقة والعلاقات بين بعض دول الاتحاد شبه مقطوعة وواقع التجزئة أكبر من أحلام الاتحاد، بل هناك تهديد بحرب يمكن أن تعيشها المنطقة في أي لحظة، وحجم المبادلات التجارية البينية ضعيف لا يتجاوز %3، والأجهزة التدبيرية والتقريرية للاتحاد شبه مجمدة وعديمة الفاعلية والجدوى، ومجلس الشورى المغاربي لم يرتق إلى برلمان مغاربي يتمتع بصلاحيات مماثلة لتلك التي تتمتع بها برلمانات التكتلات الإقليمية المشابهة، وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي. وحتى المعاهدات والقوانين التي يقرها تبقى حبرا على ورق، إذ من بين 37 معاهدة لم يصادق إلا على سبعة. ولا يخفى أن هذه النتائج تضعف هذا الاتحاد أمام تكتلات مماثلة، مثل مجموعة 5+5 التي تجمع دول الحوض الغربي للمتوسط العربية والأوربية، ودول الاتحاد من أجل المتوسط، وحتى الاتحاد الأوربي، وتضعف التنسيق بين دول الاتحاد وسط المجموعة العربية الإسلامية والإفريقية. وهذا ما جعل حلم اتحاد مغاربي عصيا على التحقق، وأملا ما زال كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. أما سبب الفشل والتعثر، فهناك من يرجعه إلى عوامل موضوعية تمثلها مصالح تكتلات منافسة ترى في قيام اتحاد مغاربي قوي تهديدا وإضعافا لها، وهناك من يرجعه إلى عوامل ذاتية، في مقدمتها النزاع حول الصحراء الذي يقف عائقا أمام تحسن العلاقات بين أكبر دولتين في الاتحاد، وينعكس بالتبعية على العلاقات بين مختلف بلدان الاتحاد. وهذا كله صحيح، ولكنه لا يمثل في الحقيقة إلا أعراضا لمرض خبيث ينخر المنطقة ويتمثل في تعثر مسلسل الدمقرطة في بلدان الاتحاد التي ما زالت ترزح تحت نيران أنظمة مستبدة تغيب آراء شعوبها وتستفرد بالقرارات المصيرية. وتكفي الإشارة فقط إلى أن قرار تأسيس الاتحاد، وفق معاهدة مراكش، لم يخضع للاستفتاء رغم أن إنشاء الاتحاد المغاربي مطلب شعبي وضرورة استراتيجية وحلم تاريخي. ويمكن جرد تجربة الاتحاد الأوربي في هذا الصدد، حيث تم الاتفاق على معاهدة ماستريخت في ديسمبر 1991 من قبل المجلس الأوربي- وليس الرؤساء فقط- وتم توقيعها في فبراير 1992، أي أنهم أخذوا وقتهم الكافي، ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في نونبر 1993 بسبب تأخر قبول الدانماركيين للمعاهدة وشروطها، وبسبب قضية دستورية ضدها أقيمت في ألمانيا. وجميعنا يعرف حصيلة هذا المسار التوحيدي الذي بني على أساس احترام إرادة الشعوب المعنية به وبهدف خدمتها وتلبية رغباتها. حين ينجح مسلسل الدمقرطة داخل دول المنطقة ستبنى نواة الاتحاد المغاربي من الأسفل على شكل اتحادات شعبية، وغير حكومية، وموازية، ستشكل قاطرة موجهة لمسار توحيدي حقيقي بعيدا عن الخطابات الرسمية لحكام المنطقة الذين يؤكدون على التشبث بالإطار فارغا من أي محتوى وخاليا من أي مضمون. حين تعطى الكلمة للشعوب وتحرر إرادتها وحركتها سيبنى تجمع مغاربي قوي ومنسجم ومنفتح ومواكب يستحضر عمقه العربي والإسلامي وانتماءه الإفريقي وجواره الأوربي ليجعل من الاتحاد رقما فاعلا في المعادلة الإقليمية والدولية، مستفيدا من كل عوامل النجاح ومتغلبا على كل الإكراهات ومستحضرا كل التطلعات. حينها فقط، يمكن أن نحتفل بذكرى ميلاد الاتحاد، وحينها فقط، يحق لنا أن نتشرف بأن لنا اتحادا مغاربيا صنعناه بأيدينا وبنيناه بإرادتنا الحرة وشيدناه بجهودنا.