إن التسوية التي لم تتحقق مع رابين وبيريز وباراك و-إلى حدّ ما- أولمرت، لا يمكن أن تتحقق مع نتنياهو يؤكد المجتمع الصهيوني منذ ثلث قرن، وفي كل انتخابات للكْنيسيت، ميله الحثيث نحو اليمين والتطرف الديني. منذ نجاح حزب «حيروت» وكتلة «ليكود» في الوصول إلى السلطة في النصف الثاني من السبعينيات بزعامة الإرهابي مناحيم بيغن، يتكرر المشهد نفسُه. لم يحكم «حزب العمل» إلا لماما في هذه الفترة، وباستثناء حكومات قصيرة الأجل رأسها شمعون بيريز وإسحق رابين وإيهود باراك، ظل الحزب شريكا في حكومات «وحدة وطنية» شكلها اليمين (إسحق شامير، أرييل شارون، إيهود أولمرت). حتى إن «العمل» خرج تماما من تصنيف «اليسار الصهيوني» الذي عُرف به طويلا، وبات أكثر المحللين يعتبره حزب الوسط، وخاصة بعد التماهي الذي حصل بينه وحزب «كاديما» في السنوات الأربع الأخيرة والذي كان شمعون بيريز أدرك مآله سلفا فاختار الانسحاب من الحزب والالتحاق بشارون وحزب «كاديما» الجديد. انتهت تماما ثنائية اليمين و»اليسار» في «إسرائيل» منذ زمن، وخاصة منذ منتصف عقد التسعينيات غداة اغتيال إسحق رابين، وباتت الدولة العبْرية محكومة بقوى اليمين والتطرف الديني (ولا يغيّر منها استثناء عابر مثّله تشكيل إيهود باراك حكومة أعقبت حكومة بنيامين نتنياهو في الهزيع الأخير من القرن العشرين). لكن المثير في الصعود المدوّي لقوى اليمين الصهيوني والتطرف الديني في «إسرائيل» أنه لم يَجْر على نَحْو يتركز فيه التمثيل في قوى اليمين التقليدية («ليكود»، «الحزب الوطني الديني»،..)، أو على نحو ترث فيه هذه القوى «اليسار» المنهار وتضاعف تمثيلها، وإنما أتى في صورة ميلاد حركات صهيونية متطرفة جديدة نجحت في التوسع التنظيمي والاجتماعي في العشرين عاما الأخيرة إلى حد منافسة قوى اليمين التقليدية على مواقعها، وفرضت نفسها عليها شريكا في إدارة السلطة غداة كل انتخابات. ما كانت ظاهرة ميلاد الحركات الدينية المتطرفة جديدة على المشهد السياسي في المجتمع الصهيوني. فمنذ عقود، تكاثر خروج هذه الحركات إلى الوجود على مثال حركات «كاخ» و»غوش إيمونيم» و»هتحياه» وسواها من التنظيمات الإرهابية المتطرفة. غير أن هذه ما كانت تستطيع أن تزحزح نفوذ اليمين الصهيوني التقليدي ممثلا في كتلة «ليكود» ولا أمكنها أن تتحول إلى قطب يميني جديد، وإنما ظلت تدور في فلك «ليكود»، وظل الأخير يستخدمها فزّاعة في وجه خصومه ولابتزاز غريمه «حزب العمل» في مفاوضات تشكيل الحكومات. غير أن ظاهرة الحركات الدينية المتطرفة اليوم أخذت مدى جديدا مختلفا في المجتمع الصهيوني والحياة السياسية. فقوّتها الآن إلى تزايُد مثير، وتحوُّلها إلى أقطاب يأخذ مداهُ بوتائر متسارعة كما تدل الانتخابات الأخيرة والتي قبلها. أقوى حركات التطرف الديني والعنصري الصهيوني اليوم حركتا «إسرائيل بيتينو» بزعامة العنصري أفيغدور ليبرمان و«شاس». حصلت الأولى على 15 مقعدا في انتخابات الكنيست الثامنة عشرة –التي جرت يوم 10/2/2009- متجاوزة «حزب العمل» بمقعدين، وحصلت «شاس» على 11 مقعدا. وتُقارب مقاعد الحركتين عددا مقاعدَ «ليكود» الذي حصل على 27 مقعدا. بل إن «شاس» حصلت في انتخابات الكنيست السابعة عشرة على نفس المقاعد التي حصل عليها «ليكود» (12 مقعدا) على نحو هددته فيه بمنازعته صدارة التمثيل اليميني. وإذا كانت «شاس» قد خسرت اليوم مقعدا مما كان لديها في الكنيسيت السابقة، فقد زاد رفيقها في التطرف الصهيوني العنصري (حزب الإرهابي ليبرمان «إسرائيل بيتينو») من حصته السابقة أربعة مقاعد لتصير 15 ويصير معها ثالث قوة سياسية في المجتمع الصهيوني بعد «كاديما» (28 مقعدا) و»ليكود» (27 مقعدا). ما الذي يعنيه هذا التحوّل المتزايد في الخريطة السياسية وفي اتجاهات الرأي العام نحو اليمين والتطرف في المجتمع الصهيوني، وأية تأثيرات له على مستقبل ما يسمى بالتسوية في المنطقة وعلى صعيد الصراع الفلسطيني-الصهيوني خاصة؟ ليس يهمنا، في هذا المقام، البحث في أسباب هذا الميْل الجارف نحو اليمين والتطرف في المجتمع الإسرائيلي، وهي عديدة ومتنوعة (التربية الدينية المتزمتة، التنشئة الاجتماعية الصهيونية على فكرة كراهية الفلسطيني والعربي، تزايد مجتمع المهاجرين الفلاشا والروس، تنازلات «العلمانيين» للمتدينين في مسائل عدة كالمدارس الدينية، تزايد كتلة المستوطنين، المآل الطبيعي لمشروع «قومي» صهيوني قام على مبررات دينية... إلخ). يهمنا، أساسا، أن نطالع نتائج ذلك الميل على سياقات الصراع العربي والفلسطيني-الإسرائيلي ومستقبل ما سمي منذ «مؤتمر مدريد» بالتسوية. وهو سؤال لا تطرحه نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة إلا في اتصالها بالمتغير السياسي الدولي الجديد متمثلا في صعود إدارة أمريكية جديدة، وإلا ما كان من مبرّر -ولا من معنىً- أصلاً للتساؤل عن مستقبل «التسوية» في مثل هذه الحال. للمسألة وجهان: وجه إسرائيليّ بحت، ووجه أمريكي-دولي. مساحة التقاطع بينهما كبيرة، لكن مساحة التمايز موجودة وإن كانت محدودة. في الوجه الأول من المسألة، يمكن القول إن التسوية التي لم تتحقق مع رابين وبيريز وباراك و-إلى حدّ ما- أولمرت، لا يمكن أن تتحقق مع نتنياهو أو مع حكومة يكون فيها حزب نتنياهو وليبرمان. لا يتقن الإسرائيليون شيئا آخر سوى الحرب. لا يعرفون عن شيء اسمه السلام. حين حاول أحدُهم أن يفعل ذلك يوماً: (إسحاق رابين)، اغتالوه. وبعدها خاضوا حروبا ضدّ لبنان (1996-2006) وضد فلسطين (2008-2009). حتى التسوية التي دخلوا فيها مُجَبَِرين تحت وطأة الضغط الدولي أرادوها مناسبة لرفع العتب والتفرُّغ للاستيطان. وكذلك فعلوا محققين في ظل «أوسلو» مالم يحققوه قبلها. ولقد رفض الإسرائيليون «مبادرة السلام» العربية حين كان العرب «موحّدين»، فكيف يقبلون بها، والعرب متفرقون وموزَّعون على محاور؟! في الوجه الثاني للمسألة، تطمئن إسرائيل إلى أن إدارة أوباما لن تتخلى عنها. لكنها تخشى أن يكون في نية أوباما تفعيل عملية التسوية. وفي هذه الحال، ستُجْبَر على مجاراة الإدارة الجديدة مع التسويف والتعطيل لكسب الوقت مثلما فعلت مع إدارة بيل كلينتون. وعلى الجملة، سيتدفق حديث كثير عن استئناف التسوية والمفاوضات، إرضاءً للأمريكيين والأوربيين، لكن المفاوضات ستدور في الحلقة المفرغة. وقد لا يجد عندها أوباما من سبيل لتبرير فشله سوى أ نه لم يجد الشركاء المناسبين من الجانبيْن لإنجاز التسوية. أليست المرحلة القادمة مرحلة «حماس» واليمين الديني الصهيوني المتطرف؟