شهدت الساحة الإسرائيلية خلال الأسبوعين الماضيين عاصفتين سياسيتين على درجة من الأهمية سيكون لها تأثيراتها الداخلية على الأوضاع الداخلية بعدما دفعا سريعاً إلى حل الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة قبل الربيع القادم، في ذات الوقت الذي سيكون لها تأثيرها المهم على الفلسطينيين، وبخاصة على كل ما يتعلق بملف التسوية السياسية. العاصفة الأولى والمهمة التي أصابت المجتمع السياسي الإٍسرائيلي هي تلك المتمثلة في انتخاب عمير بيريتس لزعامة حزب العمل، وهو يهودي شرقي، من أصل مغربي، فيما يعرف الجميع أنها المرة الأولى التي يتزعم فيها يهودي شرقي حزب العمل، موئل النخبة الاشكنازية الغربية، وفي حين لا يشير ذلك إلى انقلاب واضح في المزاج العام داخل الحزب، إلا أن عدم القناعة بشيمون بيريس الذي وضع الحزب في جيب شارون وأفقده لونه ونكهته هو الذي أدى إلى فوز عمير بيريتس، فيما تم ذلك بحوالي 42% من الأصوات لا أكثر، تبعاً لوجود منافس ثالث، اشكنازي بالطبع. كان برنامج بيريتس هو استعادة حزب العمل الذي سرقه شارون، إثر نجاحه في استقطاب بيريس، وبالطبع من خلال قرار مسبق بالخروج من الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، لكن الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية في برنامج الرجل هو ذلك المتمثل في رؤيته الاقتصادية المختلفة في مواجهة برنامج نتنياهو (وزير المالية في حكومة شارون) بأوضاع الفقراء في الدولة، فيما يأمل زعيم العمل الجديد في تبني برنامج يقترب من نظيره في حزب العمال البريطاني الذي يوائم بين حرية السوق وبين مصالح الطبقات المتوسطة والفقيرة. التطور الثاني يتعلق بخروج شارون من حزب الليكود وتأسيس حزب وسطي جديد (المسؤولية الوطنية)، وقد جاء هذا التطور بعدما عانى الرجل الأمرين منذ شهور طويلة من جراء عجزه عن ترويض صقور حزبه بزعامة نتنياهو، على رغم تفوقه عليهم في جميع الجولات الانتخابية، فيما يبدو أن فوز بيريتس بزعامة العمل والمخاوف من زيادة رصيده من مقاعد الكنيست كما دلت استطلاعات الرأي قد ساهم في التعجيل بقراره الخروج وإعلان حزبه الجديد. وفيما يعتمد بيريتس على البرنامج الاقتصادي الاجتماعي في تسويق نفسه، فإن شارون يعتمد البرنامج السياسي، أو ما يسميه تحقيق أهداف إسرائيل الوطنية في تسوية تقوم على مبدأ الدولتين، كما يفهمه هو بالطبع، وما من شك أن برنامجاً كهذا لا بد أن يستقطب المجتمع الإٍسرائيلي الذي يدرك محورية عملية التسوية في بناء حاضره ومستقبله. هكذا تغدو الساحة الحزبية الإسرائيلية بثلاثة رؤوس هي الليكود، حزب العمل، إلى جانب حزب شارون الجديد، إذ تشير الاستطلاعات إلى تراجع حصة الليكود إلى ما بين عشرين وخمسة وعشرين مقعداً، مقابل ما يزيد عن خمسة وعشرين لكل من العمل وحزب شارون، والنتيجة أن القوى الثلاثة ستحظى بحوالي ثلثي مقاعد الكنيست. يبقى الثلث الثالث من نصيب مجموعات الأصوليين وعلى رأسها حزب شاس، والتي ستحظى بأقل من عشرين مقعداً، إلى جانب أحزاب اليسار والعلمانيين وعلى رأسها شينوي وميريتس، ما يعني أن شارون سيكون في حاجة إلى التحالف مع العمل وشينوي واليسار لكي يتجاوز نتنياهو واليمين المتطرف والأصوليين، الأمر الذي يبدو متوقعاً في ضوء اقتراب شارون من الوسط بحسب التصنيفات الجديدة، وتبعاً لإمكانية تجسير الخلاف مع برنامج شارون السياسي مقابل اقترابه هو من برنامج العمل الاقتصادي والاجتماعي ما يمكن قوله في ضوء ما جرى، تحديداً فيما يخص عملية التسوية التي تعنينا نحن في الواقع الفلسطيني والعربي، هو أن المجتمع الإسرائيلي لا يبدو جاهزاً للموافقة على تسوية تحقق الحد الأدنى من طموحات الفلسطينيين، وفيما ثبت ذلك منذ مشروع أوسلو الذي انتهى في كامب ديفيد، صيف العام 2000 أيام كان حزب العمل في السلطة بزعامة باراك، إلا أنه يبدو أكثر وضوحاً الآن، بل إن نتيناهو نفسه على سبيل المثال لم يكن بذات المستوى من التطرف الذي يبديه الآن، وإن قال البعض إن ذلك هو محض مزايدة هدفها العودة إلى زعامة الليكود. لا خلاف على أن ثمة عوامل أخرى، اقتصادية واجتماعية وتناقضات سياسية وعرقية ما زالت تساهم فيما يجري من حراك سياسي في الساحة الإسرائيلية، وليس فقط فيما يخص عملية التسوية، إلا أن ذلك لن يخفي بحال من الأحوال محورية هذه العملية في ذلك الحراك، ما يؤكد أن التسوية لن تشهد نقلة مهمة خلال العامين القادمين، لأن شارون الذي بالكاد تمكن من تمرير الانسحاب من غزة، لن يتمكن بسهولة من تمرير انسحابات أخرى من الضفة إلا إذا كانت مشفوعة بتنازلات فلسطينية واضحة على صعيد التسوية النهائية عنوانها القبول بمشروع الدولة المؤقتة الذي يطرحه شارون منذ مطلع العام 2001، أي بعد شهور قليلة على اندلاع انتفاضة الأقصى، وربما قبل ذلك، أيام وجوده في المعارضة. خلاصة القول هي أن أزمة الشريك ليست أزمة الفلسطينيين، بل أزمة الإسرائيليين، لأن الفلسطينيين منذ أيام ياسر عرفات لم يطالبوا بأكثر من دولة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، بل كانوا على استعداد لتقديم بعض التنازلات أيضاً، إلا أن ما قدمه الإسرائيليون بزعامة العمل أيام باراك، وما يطرحه شارون الآن، فضلاً عما يطرحه نتيناهو لا يمكن أن يكون مقبولاً، لا من الفلسطينيين، ولا من العرب حتى لو كانوا في وضع بائس بسبب الخوف من الولاياتالمتحدة في ظل المحافظين الجدد، الأقرب إلى شارون ومن هم على شاكلته، بل ربما الأكثر قرباً من نتنياهو.