بعد إعلان النتائج الرسمية للانتخابات الإسرائيلية التي جرت في 10 فبراير 2009 حصل حزب «كاديما» برئاسة تسيبي ليفني على 28 مقعدا، مقابل 27 مقعدا لحزب «الليكود» بزعامة بنيامين نتنياهو. ونال حزب «إسرائيل بيتنا» لليهود الروس المتشددين بزعامة ليبرمان 15 مقعدا، وحزب العمل برئاسة باراك 13 مقعدا، وحزب «شاس» لليهود الشرقيين المتشددين 11 مقعدا، وحزب «يهدوت هاتوراه» لليهود الغربيين المتشددين خمسة مقاعد. وحصل حزب «الاتحاد الوطني» على أربعة مقاعد، وحزب «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة حداس» على أربعة مقاعد، وحزب القائمة العربية الموحدة على أربعة مقاعد، وحزب «ميريتس» اليساري على ثلاثة مقاعد، وحزب «التجمع الوطني الديموقراطي» على ثلاثة مقاعد، وحزب «البيت اليهودي» على ثلاثة مقاعد. ليست هناك مفاجأة جدية في تلك الانتخابات الصاخبة سوى تفوق حزب «كاديما» على حزب «الليكود» بفارق صوت واحد، وذلك خلافا لكل التوقعات واستطلاعات الرأي. لكنها مفاجأة شكلية لأن المرتبة الأولى قد لا تسمح لزعيمة الحزب، تسيبي ليفني، بتشكيل الوزارة وإدارة دفة الحكم في برلمان (كنيست) يهيمن عليه اليمين المتطرف. علماً بأن حزب «كاديما» لا يقل تطرفاً عن أي من الأحزاب اليمينية المتشددة كالليكود، و«إسرائيل بيتنا»، و«شاس» وغيرها. لكن المفاجأة الحقيقية هي تدني مرتبة «حزب العمل» إلى أدنى مستوى له في تاريخه. فقد تراجع عدد نوابه من 19 إلى 13 وبات في المرتبة الرابعة. وتراجعت معه جميع القوى الوسطية واليسارية مقابل تزايد حدة خطاب التطرف في إسرائيل، بما يوحي بأن مخاض الحكومة الإسرائيلية الجديدة سيكون صعبا للغاية لأن الجامع المشترك بين المتنافسين على السلطة هو إعلان الحرب على الفلسطينيين، في قطاع غزة والضفة الغربية، وداخل مناطق الاحتلال لعام 1948 . وتتراوح حدة الخطاب الشعبوي بين الأحزاب المتصارعة ضمن مستويات ثلاثة: 1 خطاب الهلوسة الجنونية الذي ينادي بترحيل جميع العرب، مسيحيين ومسلمين، من داخل إسرائيل بهدف تحويلها إلى دولة يهودية نقية لا مكان فيها لغير اليهود. 2 خطاب القبول بالعرب ضمن مفهوم الأمن الإسرائيلي، أي كمواطنين من الدرجة الثانية، ومجردين من كل أشكال التسلح أو الاحتجاج على التدابير الإسرائيلية التعسفية. 3 خطاب الدولتين المتجاورتين شرط أن تكون مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية مجردة من السلاح ومحرومة من التسلح، مع عدم الاعتراف بحق العودة لفلسطينيي الشتات، بل توطينهم في مناطق وجودهم. لكن تحقيق تلك الأهداف دونه صعوبات كبيرة، لأنه يصدر عن دولة مأزومة بعدما تعرضت إسرائيل لثلاث هزائم متكررة خلال أقل من عشر سنوات، في أعوام 2000 و2006 في لبنان، و2009 في غزة. كما أن الانتخابات الأخيرة لم تخرج إسرائيل من دوامة الأزمة السياسية التي تعيش فيها منذ سنوات طويلة، والتي تميزت بعدم الاستقرار السياسي، وفساد الإدارة السياسية، وانعدام الثقة بالقيادات الحالية. فرئيس الوزراء أولمرت يستجوب للمرة الرابعة عشرة بتهم الفساد والرشوة. وليفني فشلت في تشكيل حكومة جديدة فقررت إجراء الانتخابات العامة. والناخب الإسرائيلي خذل نتنياهو، وكذب صدقية استطلاعات الرأي التي أكدت مرارا نجاحه الساحق. وقاد باراك «حزب العمل» إلى كارثة حقيقية بحيث يكثر الحديث بعد الانتخابات عن إمكان دمجه بحزب «كاديما» لتشكيل جبهة ما يسمى تجاوزا «يسار الوسط واليمين». ليس من شك في أن نتائج الانتخابات الحالية تركت صدمة عميقة في أوساط الإدارة الإسرائيلية. فارتفعت بعض الأصوات التي تطالب بتغيير نظام الانتخاب الحالي لأنه بني على النسبية التي تعزز التعددية الحزبية والتمثيل الشعبي السليم. إلا أنها، في حالة التأزم الراهن الذي تعيشه إسرائيل اليوم، تضعف الكتل البرلمانية الكبيرة وتجعلها عاجزة عن تشكيل حكومة قوية قادرة على ممارسة السلطة. فهي مشلولة اليدين، وبحاجة إلى كسب ود الأحزاب الصغيرة التي باتت تلعب دورا أساسيا ومتزايدا في إسرائيل. على جانب آخر، أظهرت الانتخابات الأخيرة أن تضخيم دور القادة العسكريين في السياسة الإسرائيلية أمر مبالغ فيه. فهم يقدمون أنفسهم ذراع إسرائيل الضاربة ضد القوى المسلحة التي تهدد أمن إسرائيل ووجودها. لكن الحملات العسكرية التي خاضوها طوال السنوات العشر الأخيرة كانت مخيبة لآمال الشعب الإسرائيلي الذي فقد الثقة بالقيادتين السياسية والعسكرية معا.لكن القيادة العسكرية باتت تمثّل خطرا حقيقيا على مستقبل الدولة اليهودية. فهي تعارض كل الحلول السلمية والعقلانية والعادلة مع عرب فلسطين من جهة، ومع الدول العربية مجتمعة من جهة أخرى. وبسبب كثافة الحضور الطاغي للقادة العسكريين في الحياة السياسية، بات الحديث عن دولة إسرائيل كواحة للديموقراطية في الشرق الأوسط مجرد كلام فارغ لأنها دولة معسكرة بالكامل، وتستخدم أسوأ أساليب العنف الفاشي والنازي ضد الشعوب العربية. نتيجة لذلك تراجعت قوى الاعتدال ودعاة الحلول العقلانية إلى الحد الأدنى لدى الجانب الإسرائيلي في المرحلة الراهنة وباتت جميع السيناريوهات المطروحة أمام الحكومة الجديدة تبشر بإعلان الحرب على العرب، داخل فلسطين وفي جوارها. وقد أراد صغار القادة ممن يديرون دفة الحكم في إسرائيل اليوم أن تعطيهم الانتخابات الأخيرة تفويضا شعبيا لإعلان الحرب على العرب. وهم ينتظرون استكمال تشكيل الحكومة، ووضع الخطط الملائمة للتفجير. فالقوى التي تقرع طبول الحرب تريد التعويض عن هزال التمثيل الشعبي بإطلاق العنان لأكثر السيناريوهات العسكرية دموية في ظل خوف حقيقي لدى المواطن الإسرائيلي من مستقبل مجهول بات ينتظره بعد الحروب الفاشلة التي قادتها العسكرتاريا الإسرائيلية بأساليب عنصرية أثارت غضب العالم بأسره، كما أثارت غضب أوساط واسعة من اليهود. أخيرا، بعد الانهيار الكبير الذي لحق بحزب «العمل» خاصة، وباليسار الإسرائيلي عامة، لم تعد هناك قوى إسرائيلية قادرة على إقامة حوار عقلاني مع العرب بهدف إيجاد حلول سلمية لصراع تاريخي تجاوز المئة عام. مما يطرح علامات استفهام كبيرة على مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أفرد له رئيس الدولة الإسرائيلية الحالي شمعون بيريز كتابا خاصا منذ أكثر من عشرين عاما. فكيف يبنى هذا المشروع على قوميات دينية وعرقية تتبادل العداء والكراهية وترفض الاعتراف بالآخر كإنسان قبل الاعتراف بحقوقه السياسية المشروعة التي كفلتها له الأديان السماوية وشرعتها حقوق الإنسان، وجميع الأعراف الدولية؟ وهل بإمكان العرب الاعتراف بإسرائيل ضمن مجموعة الدول الشرق أوسطية في وقت يرفع قادتها شعارات «الترانسفير» أو الترحيل الجماعي للعرب، وحجرهم ضمن جدار عازل، ومصادرة أملاكهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم العامة والخاصة؟ ختاما، ليس من شك في أن التشنج الديني والعنصري يقود بالضرورة إلى تشنج مضاد يمنع ولادة أي حل دائم وعادل للصراع العربي الصهيوني. كما أن استمرار مسلسل الحروب هو أقصر الطرق لتدمير منطقة الشرق الأوسط على رؤوس شعوبها. وهو يهدد السلام العالمي، كما يهدد مصالح الدول الكبرى في هذه المنطقة الغنية بالنفط. فهل تتحرك الإدارة الأميركية الجديدة للجم التطرف الإسرائيلي وردع الرؤوس الحامية والعاجزة عن تشكيل حكومة قوية في إسرائيل من ارتكاب حماقات عسكرية جديدة تهدد منطقة الشرق الأوسط بأكملها؟ أم أن تلك الإدارة ستستخدم نتائج الانتخابات الإسرائيلية لتوظيف قادتها الصغار في المشروع الأميركي الكبير الممتد من فلسطين إلى العراق وأفغانستان؟ مؤرخ واستاذ جامعي