في الأيام القليلة الماضية برزت العديد من المؤشرات الدالة على استمرار ملامح الدولة التسلطية في تأطير مجموعة من القرارات السياسية تاريخيا شكل نظام الحكم المخزني المعتمد في المغرب قبل الحماية أسلوبا متفردا لإدارة السلطة في العالم العربي والإسلامي، واعتمد في جوهره على أحادية مصدر القرار السياسي. فباستثناء السلطان الحاكم لم يكن هناك وجود لمؤسسات فعلية لممارسة السلطة، ولكن كانت جميع الهيئات المشكلة لجهاز المخزن كالجيش والأعيان والعلماء وغيرها في خدمة السلطان الذي اعتمد على قانون الطاعة لتكريس سلطته الواسعة، كما عمل على إعادة تنظيم مؤسساته وتوزيعها إلى أجهزة مركزية وأخرى محلية، خصوصا بعد ظهور بوادر التهديد الأوربي للنظام المغربي ووحدة أراضيه. ولكن مع توقيع المغرب على معاهدة 30 مارس 1912، حصلت فرنسا على حرية إقامة نظام جديد وبناء مؤسسات جديدة تتضمن «الإصلاحات» الإدارية والقضائية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي تراها فرنسا ضرورية، بينما اكتفى السلطان بمهمة المحافظة على الحالة الدينية، والتزمت فرنسا باحترام هيبة السلطان التقليدية وحرية ممارسة الشعائر الدينية والمحافظة على المؤسسات الدينية وخاصة مؤسسات الأوقاف. قبل النصف الثاني من القرن ال19 كان المخزن المغربي على المستوى المركزي يتميز بالبساطة وقلة التعقيد، يتجلى ذلك في قلة عدد الوزراء (الوزير الأعظم، وزير المالية، وزير البحر، وزير الحرب، وزير الشكايات)، وبالموازاة مع هذا التنظيم على المستوى المركزي، تمثل الحضور المخزني على الصعيد المحلي في العمال الذين استطاعوا أن يمدوا سلطاتهم على العمالات، حيث عمل السلطان على تقسيم البلاد إلى عمالات، وعمل على تعيين عدد من القواد الكبار يمتد نفوذ الواحد منهم إلى أقاليم شاسعة... وهكذا تمثل التنظيم المخزني على المستوى المحلي في السلطات الحضرية (الباشا والمحتسب والأمين والقاضي)، وفي السلطات القروية (القائد والشيخ والقاضي)، ولكل منهم مهامه واختصاصاته. غير أن هذه المؤسسات المخزنية، سواء كانت محلية أو مركزية، لا تعني توزيع السلطة أو مأسستها، بحيث ظل السلطان يتربع على هرم السلطة ويحتكر جميع الوسائل الضرورية لها. لكن السلطان المغربي كان عبارة عن مؤسسة حقيقية لها هياكلها النشيطة داخل القصر الملكي، ولها آلياتها التي تقوم بدور الوساطة بينه وبين باقي المؤسسات، ومن أهمها: وظيفة الحاجب الملكي الذي كان يتولى تبليغ أوامر الملك إلى الوزراء وكبار الموظفين، كما كان يشرف على القائمين بالخدمة اليومية داخل القصر الملكي (العبيد). كما كان الحاجب يتدخل في بعض القضايا التي تعود من حيث المبدأ إلى اختصاص الوزراء، وإلى جانبه برز قائد المشور، وهو من موظفي القصر الذي يأتي في الدرجة الثانية, ومهمته الإشراف على شؤون المراسيم، ويعمل تحت إمرته موظفون يعملون خارج القصر، وقد كان رموز المخزن يستغلون وضعية القرب من السلطان ويوظفون وضعيتهم الاعتبارية لإطلاق أيديهم في ثروات الشعب واستغلالها بغير وجه حق، وتصريف العديد من القرارات التي كانت تتم –في كثير من الأحيان- بعلم من السلطان، الذي كان يتغاضى عن تجاوزات المقربين منه، في إطار اتفاق ضمني، يلتزمون بمقتضاه بخدمة هيبة السلطان وإضفاء طابع القداسة على شخصيته وعلى قراراته، والحرص على طاعته وإظهار الولاء له في كل المناسبات... ويصف عبد الله العروي هذه الوضعية بالقول: «يعلم الجميع أن المغرب إلى حدود 1956 كان له سلطان محاط بمخزن، وليس ملك تساعده حكومة». لكن وجود دستور ومؤسسات تمثيلية وحكومة «يقودها» وزير أول، هل ألغى نظام المخزن العتيق وامتداداته السياسية؟ في بداية حكومة «التناوب» اعتقد البعض أن تعيين الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي المعارض على رأس الحكومة المغربية هو مؤشر على نهاية عهد الدولة التي يهيمن عليها المخزن ويسير جميع أجهزتها بطريقة سلطوية، وخرج محمد اليازغي، القيادي البارز آنذاك في الاتحاد الاشتراكي، ليعلن بشكل واضح عن «موت المخزن» في المغرب.. وصدق الجميع أننا بصدد مرحلة سياسية جديدة، هي مرحلة الانتقال الديمقراطي التي ستنقلنا من عهد الغموض الذي يكتنف مركز صناعة القرار إلى عهد المسؤولية في ممارسة السلطة، ومن عهد الانتهاكات الماسة بحريات المواطنين وحقوقهم الأساسية، إلى العهد الذي تحترم فيه حقوق الأفراد والجماعات، ومن العهد الذي يتم فيه الانتقال من اعتبار الأحزاب السياسية بمثابة مؤسسات شكلية يتم التدخل في شؤونها الداخلية، وإفراغها من وظائفها الطبيعية إلى العهد الذي يتم فيه الاعتراف بالأدوار الكاملة للأحزاب وإقرار حقها الطبيعي في التداول السلمي على السلطة بناء على الإرادة الحرة للشعب وحقه في اختيار من يحكمه وحقه في مراقبته ومساءلته ومحاسبته.... في الأيام القليلة الماضية برزت العديد من المؤشرات الدالة على استمرار ملامح الدولة التسلطية في تأطير مجموعة من القرارات السياسية الأخيرة، وهي امتداد «حديث» لنظام المخزن العتيق، من ذلك على سبيل المثال: الطريقة التي تم التعامل بها مع أسبوعية «الأيام» في شخص مديرها نور الدين مفتاح ورئيسة التحرير مرية مكريم بسبب صورة فوتوغرافية. يتعلق الأمر بصورة للأميرة للا لطيفة أم الملك محمد السادس، تتوفر «الأيام» على نسخة منها، وقد سبق لمسؤولي الجريدة أن التمسوا بكل لباقة من الجهات المعنية، وفي إطار قواعد الاحترام المرعية، الإذن بنشر الصورة المذكورة، فكان الجواب بالرفض بعد ستة أشهر من الانتظار. كان من الممكن أن يكون هذا الجواب هو نهاية القصة، مادام ناشرو الجريدة يقدرون مسؤولياتهم بشكل جيد، ولم يقدموا على نشر الصورة... لكن أدوات المخزن العتيق تحركت بطريقة فجة، لم تحترم فيها قواعد القانون ولا قواعد الأخلاق، بل وصل الأمر إلى استخدام تقنية G.P.S للعثور على المدير المسؤول، وكأننا أمام مجرم محترف تتوفر فيه أقصى درجات الخطورة! أدوات المخزن تحركت خلال الأسبوع الماضي لإفشال التحالف الذي كان من المفترض أن يسير بلدية مكناس بعد القرار التعسفي الصادر عن وزارة الداخلية والقاضي بعزل الرئيس السابق للمجلس (بوبكر بلكورة). وفي انتظار قرار منصف من القضاء يعيد قضية بلكورة إلى حجمها الحقيقي، تشكل تحالف جديد يضم مجموعة من الأحزاب إلى جانب حزب العدالة والتنمية الذي كان يترأس المجلس، هذا التحالف ظل قائما إلى حدود يوم الأربعاء ليلا، حيث كان من المقرر أن تنعقد جلسة انتخاب الرئيس وتشكيل المكتب الجديد يوم الخميس صباحا. لكن الذي حصل هو أن هناك ضغوطات قوية مورست على الأحزاب المشكلة للتحالف، وخاصة على حزب الاستقلال الذي كان مرشحا لرئاسة المجلس الجديد، هذه الضغوطات اضطر معها الأمين العام لحزب الاستقلال إلى عقد اللجنة التنفيذية للحزب ليلة الأربعاء، ليستصدر منهم قرارا بالانسحاب من التحالف المذكور، بعدما كان الحزب مرشحا لرئاسة المجلس بدعم من حزب العدالة والتنمية وأحزاب أخرى وبعض المستقلين.. هذه الضغوطات اضطرت حزب الاستقلال إلى التراجع عن التزام سابق قطعه على نفسه وبمباركة من عباس الفاسي شخصيا... المثير في واقعة مكناس، هي هذه القدرة التي يتوفر عليها المخزن/الدولة، في التعامل مع الأحزاب السياسية كأدوات وظيفية، بل وفي قدرته «الخارقة» على تحوير خطاب بعض الأحزاب السياسية المتضررة من سلوك المخزن/الدولة، والتي تلجأ إلى البحث عن مخارج ديماغوجية غير مقنعة قصد إخفاء الوجه القبيح للدولة.. وهكذا فقد طلعت جريدة العلم بعد يوم من واقعة مكناس لتبرر ما حصل بأنه «قناعة راسخة» لدى اللجنة التنفيذية يرفض معها التحالف مع حزب يوجد في المعارضة باعتبار حزب الاستقلال يوجد في الأغلبية البرلمانية، وأن كل ما قيل عن الضغوطات هو بمثابة أضاليل لا أساس لها من الصحة! (إنه منطق سياسي يتطلب من أعضاء اللجنة التنفيذية أن ينتشروا في المغرب في الأيام القليلة المقبلة لفك الارتباط مع أحزاب المعارضة داخل المجالس الجماعية المعنية، بدءا بالرباط وتمارة والدار البيضاء والقصر الكبير وغيرها من المدن...). بكل صراحة، ليست المشكلة فقط في الدولة/المخزن التي أبانت عن ارتباك فظيع في تدبير بعض القضايا، تصل في بعض الأحيان إلى طرق صبيانية، تكشف في الواقع عن الجذور العميقة لطبيعة النموذج السلطوي المتبع في المغرب، ولكن المشكلة في الأحزاب السياسية أيضا التي تفقد يوما بعد يوم مناعتها السياسية وقدرتها على تحمل مسؤولياتها إلى النهاية. مظاهر المخزن العتيق يعاينها سكان الغرب الذين يعانون من كارثة الفيضانات هذه الأيام، ويلاحظون أن الدولة حريصة على شيء واحد، هو مراقبة حركة الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني ورجال الأعمال وعرقلة نزولهم إلى الميدان، وإطلاق إشاعات الاستغلال السياسي لكل من حاول تقديم يد العون والمساعدة إلى المتضررين، وذلك لحسابات سياسوية قصيرة لا تصمد أمام هول الكارثة وفداحة الأضرار المترتبة عنها. من قال إن المخزن قد مات؟