ملفان كبيران كانا محوري هذا الاستجواب مع عبد الله ساعف، الأستاذ في كلية الحقوق أكدال الرباط، ومدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية. الملف الأول يتعلق بقضية الصحراء. في هذا الإطار يرى ساعف أنه مازال يتعامل مع الصحراء بمنطق سياسة نهاية الأسبوع، في حين أن الأمر يتطلب بناء ديمقراطية جذابة والقيام باختيارات دستورية متقدمة، وسياسات عمومية فاعلة، مع السماح ببروز مجتمع مدني حي. أما في ما يخص الوضع السياسي، فإن الحركية العامة، حسب عبد الله ساعف، تتجه نحو الدمقرطة، لكن هذا لم يمنع من حصول تراجعات. لذلك فالمغرب يعيش مخاضا سياسيا نعته ساعف بمحاولة الخروج من الاستبداد، مواضيع أخرى تطرق إليها الاستجواب، الذي يأتي مع صدور العدد العاشر من التقرير الاستراتيجي المغربي. وفي ما يلي نص الحوار: في رأيكم، ما هي الظروف التي صدر فيها التقرير الأممي الأخير والخاص بقضية الصحراء؟ جوهريا، العناصر التي كانت خلال هذه المدة لم تتغير، فالمعطيات مازالت ثابتة، وبقي خلالها التناقض موجودا بين مخططات بيكر والاتفاق الإطار، وهما الآليتان اللتان مازلنا أساسا نحوم حولهما. فهناك من يرفض، وهناك من يوافق بتحفظ، وهناك من يتظاهر بأنه متشبت بالاتفاق الإطار. ولا يوجد حاليا أي عنصر استثنائي أو جديد. كل هذا لا يجوز أن ينسينا أن الأطراف تتهيأ وتستعد لحركية جديدة، فوراء هذا الاستقرار في عناصر الملف المعروفة، المحلية والأممية والجهوية، الخاصة بكل فاعل فاعل في المغرب وفي محيطه الدولي، يمكن رصد تهيؤ الأطراف لجولة مقبلة، والمعروفة وجوهها. لكن الاتجاه الأكثر احتمالا والأكثر واقعية ينحو بنا إلى التشبث بالإطار الوطني للأقاليم الجنوبية، بالأشكال المختلفة لهذا الارتباط الوطني، مترجمة عبر مؤسسات معتمدة على اللاتمركز أوالجهوية الموسعة، مع وجود صيغ مختلفة للأمور الدستورية والإدارية والسياسية.. كمتتبع للملف، هل رصدت تغيرا ما في مقاربة ملف الصحراء في عهد الملك محمد السادس؟ يتبين لي أن هناك تحررا من المقاربات السابقة، هناك التقاط لبعض الأشياء التي برزت خلال المقاربات السابقة، خاصة منذ 1996 عندما قررت الدولة، وعبر خطاب ملكي، بأن المغرب قد بنى صحراءه، الآن هناك وعي على أن عملية الإدماج الوطني للأقاليم الجنوبية أكثر تعقيدا، وليست بالمهمة التي ستنزل علينا من السماء، بل تلزمنا سياسات عمومية فاعلة، واستعداد سياسي جريء، كما يلزمها تأطير دستوري ومؤسساتي وقانوني مكثف. وعندما أقول التأطير الدستوري، فأقصد وجود درجة ونوع جديد من الاستقلالية، ليس فقط في الصحراء. لأنه لا يمكن أن يكون هناك وضع خاص بالصحراء وحدها، من جهة أخرى القيام بإبداع خلاق على مستوى تدبير السياسات العمومية، وخلق حلول ناجعة على مستوى السكن، والتي تستجيب لتطلعات الشباب المغربي أينما وجد. وشيء أساسي آخر يتمثل في خلق جاذبية ديمقراطية مغربية مكتملة تتقدم، وتتخلص من العقد، سواء تجاه الماضي السياسي للبلاد أو في الصحراء، حيث يجب أن يبرز مجتمع مدني حقيقي، وتولد سياسة مدنية حقيقية. في إحدى مقالاتكم قارنتم بين تركيا والمغرب، وقلتم إن تركيا استطاعت تدبير أوراقها التفاوضية بشكل مثمر، ما هي المعوقات التي تحول دون أن يسير المغرب في المسار نفسه؟ يبدو أن هناك حالة بحث، والواضح أن المقررين المغاربة يبحثون عن صيغ التدبير الجديد، هناك حركية وتموقعات جديدة تجاه الولاياتالمتحدةالأمريكية، أيضا تجاه فرنسا والاتحاد الأوروبي، نلمس في الحركية الديبلوماسية المغربية نوعا من البحث عن صيغ وتوازنات جديدة، والبحث جار عن زوايا مفيدة لصالح قضايا المغرب. لكن يبدو أن المجال ما يزال مفتوحا، فهو لم يعط بعد ثماره، هناك شعور بأن هذا التحول تدريجي وبراغماتي. في المقابل الإرادة الجزائرية مبنية على نوع من الثقة في الذات، كأنهم يتمتعون بمكتسبات سابقة، نظرا للإمكانات المادية الهائلة بفعل مصادر الطاقة المتوفرة لديهم. قرأت في الصحافة أن بجاوي، وزير الخارجية الجزائرية الجديد، محترف ويعرف الملفات وخبير قانوني، ولكن أتساءل إلى أي حد هذا الشخص لن يدخل في تناقضات مع ذاته أولا، كيف كان العالم أمس، حيث حركة التحرر الوطنية والعالمثالثية والنظام الدولي الجديد، فكيف سيدبر علاقة الجزائر مع الحلف الأطلسي؟ والعلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقضايا العربية؟ وكذلك علاقات الجزائر مع الأجهزة الإسرائيلية مثلا؟ وأعتقد أنه كان من المفروض على جزائر اليوم أن تسير في هذا الاتجاه. الآن الجزائر تبحث عن التجذر، وهذا ليس هو الجانب الأقل إثارة في السلوك الجزائري في نهاية المطاف. وفي ما يخص الأداء المغربي، أستحسن هذا الأداء المفتوح، أؤاخد عليه عدم الحسم والبطء، مع أنني أعرف أنه يبحث عن ذلك التوازن الجديد، وأنا أفضل المقاربة المغربية هذه على سلوك مبني على معطيات متجاوزة تاريخيا وعمليا. على ذكر الديمقراطية، تتعدد التأويلات حول موقع المغرب من سيرورة الانتقال الديمقراطي، هناك من يجزم بأن المغرب في صلب الدمقرطة، هناك من يعتقد أننا بعيدون كل البعد عن إرهاصات الديمقراطية الحقيقية، ثم هناك من يقول بأن المغرب في حالة مخاض مفتوح على كل الاحتمالات. كيف تقرؤون هذا الموضوع؟ وأي محطة يتواجد فيها المغرب؟ في رأيي المغرب في حالة مخاض، بسيرورة تتحرك بوتيرة خاصة، لا يمكن وصفها بالانتقال الديمقراطي، أنا أستعمل كلمة انتقال أو هناك عبارة أخرى وهي أن المغرب في حالة خروج من الاستبداد، في بعض الأحيان يكون لدي ميل لاستعمال عبارة محاولة الخروج من الاستبداد. ملامح الديمقراطية تبرز في بعض الحالات، وفي بعض الأحيان تخرج السلطوية بمخالبها، والسلطوية لا يمكن أن تختفي هكذا كلية. أنا لا أبرر هنا منطق التسلط. ولكن كملاحظ أعتقد أنه ليس من السهولة التخلص من بنيات السلطوية. السلطوية ليست أناسا وأسلوبا فقط، السلطوية بنية مادية ومصالح وتكتل وثقافة، وطريقة معالجتنا لقضايا معينة. الحركية العامة في هذا المستوى تتجه نحو التفتح واللبرلة. أملي أن نصل إلى صيغة الديمقراطية المتوخاة ، ولكن هذا لا يمنع من حصول تراجعات. وفي خلاصة، الوضعية تتميز بالطابع ما بين المنزلتين الحاضر بقوة، ترددات تلاحظ هنا وهناك، سلوكيات لا ديمقراطية ما تزال تطل من حين لآخر، لكن كل هذا في سياق الاتجاه نحو الانفتاح.. كيف يمكن أن نصف الفضاء السياسي المغربي، حكومة تكنوقراطية، برلمان فاتر، أحزاب تتصارع...؟ أنا لدي عبارة من خلالها يمكن تشخيص الوضع، وهي المشاركة الانتظارية، لا أشعر بأن الفاعلين يبذلون جهدا. المشاركة الحالية ليست كالمشاركة السابقة إنها متحفظة، أو تحت سقف معين، هذه مشاركة يكتفي الفاعلون فيها بملء الكراسي (سواء كراسي الفعل الحكومي أو مواقع البرلمان بأغلبية ومعارضة) لكن دون مضمون، وكأن الحقل السياسي في حالة انتظار. الكل ينتظر. واضح أن الفاعلين غير مرتاحين. هذه هي الصورة العامة التي تؤثت الحقل السياسي المغربي الحالي. نحن في مرحلة انتظار: الناس مشاركون ولكنهم غير مشاركين بفعالية، أو يتظاهرون بالمشاركة، غير أنه في العمق، هم من المنتظرين رغم أن الوضع الحالي يحرج عددا من الساسة بحكم الحقائب الوزارية، وطبيعة المواقع البرلمانية التي يشغلونها في إطار ميزان قوى محدد. الحياة السياسية تعرف وتيرة بطيئة تختلف تماما عن وتيرة الحياة السياسية التي تفرضها الأوضاع والتي نحتاج إ ليها. الملاحظ أن الخطاب الرسمي يتوجه إلى نقد الأحزاب السياسية، في هذا السياق ما هو تقييمكم لمشروع قانون الأحزاب؟ المغرب لديه في اعتقادي أولويات أخرى من ناحية تقوية الديمقراطية، وإذا كان قانون الأحزاب في صيغته النهائية يظهر أنه يسعى إلى تقوية الحياة الحزبية. فهذا مرغوب فيه وجيد. ولكن إذا كان سيزيد الخريطة السياسية الحالية تشويشا وغموضا. ويشوش على الصورة وعلى الحركية العامة للسياسة في المغرب، والتي نود أن تتجه نحو المزيد من الديمقراطية فأظن أنه غير مقبول. وأنا لدي تحفظ جوهري على قانون الأحزاب السياسية من هذه الزاوية، رغم ما تحقق من مكاسب على مستوى مجال الحريات العامة كمعالجة صفحات الماضي الأليم، ورغم أن هناك عناصر جديدة على مستوى الحريات يجب أن تطرح مثل معالجة آثار أحداث 16 ماي ,2003. القوانين مثل قانون الأحزاب التي ستطرح عراقيل جديدة أمام النشاط السياسي، ولذلك فهي غير مقبولة، في الوقت الذي نجد مجتمعنا يشتكي من كونه لم يمر بشكل كامل إلى السياسة، مازالت هناك فضاءات شاسعة غير مسيسة.. نحن نريد من الناس أن يدخلوا إلى المجال السياسي، وفي الوقت نفسه نطرح قوانين الحد من عملية الولوج إلى السياسة. بالعكس في هذه المرحلة نحن نحتاج إلى تسييس المجتمع وهذ شرط أساسي للتقدم. لكن ألن يشكل تسييس المجتمع خطرا على بعض التموقعات والمصالح؟ التسييس يجب أن يكون معقلنا، ولكن العقلانية ليست كتابا مفتوحا يقرؤه الجميع باللغة نفسها. التركيز يجب أن يكون في نظري تجاه تعبئة المجتمع، ليس في الانتخابات فقط، الخطأ الكبير في المغرب أن التعبئة تحصل فقط في أيام الانتخابات، كأن الأساسي هو ذلك الوقت الذي تستغرقه الحملة الانتخابية، وبعد ذلك تنتهي الحياة السياسية لندخل في روتين مؤسسات تشتغل بشكل نمطي وشبه شكلاني. الحياة الحزبية هي التي من المفروض أن تتحكم في الحياة السياسية باستمرار. ولكن عندما تسطر عراقيل مثل ما يمثله هذا القانون، فهذا شيء غير مفهوم. هناك أمور يمكن أن تطلبها من مجتمعات هي تاريخيا كان من المفروض أن تتعبأ سياسيا، أي قامت فيها ثورات كبيرة أو حروب تحرير عبأت الجموع الكبيرة من الجماهير. ولكن في بلد كلنا يعرف كيف تطور، فإن موجات التعبئة التي حصلت إلى الآن، سواء من فوق أو من تحت، محدودة. أنا أخاف أن يأتي قانون الأحزاب ويزيد في عرقلة هذه السيرورات من التسييس في المغرب الذي نحن في حاجة ماسة إلى جرعاتها. في نظركم ما هي الأقطاب أو التحالفات السياسية التي يمكنها أن تقوم بمثل هاته الموجات من التعبئة، وتطرح مشاريع مجتمعية كفيلة بإعادة التنافسية إلى الحقل السياسي المغربي؟ أولا، لنقر بأن القطبية لا تبنى هكذا بقرار أو بشكل إرادي محض، يمكن اعتبار أن هناك محاور كبرى، كالمحور الإسلامي مثلا، أو اليميني، أو اليساري، أو المحور الأمازيغي. ولكن الخريطة الحقيقية هي التي ترسم الأقطاب ونمط التحالفات بشكل طبيعي، وكذلك الطابع المنتظم والقار للتحالفات هو الذي يبني المحاور. الأمر لا يكمن في ما يتداول حاليا من كون أحزاب سياسية متقاربة إذن فمن الممكن أن تشكل محورا. لا، الواقع أكثر عنادا من مثل هذه الخطط الجاهزة. أنا في رأيي هناك محور يساري ولكن في حدود، ولا يتعلق الأمر باليسار بأكمله. هناك أيضا أحزاب غير منتظمة ولم تدخل إلى أي محور، وكل الخيارات مفتوحة أمامها. هناك المحور الحركي مثلا، ولكن قد يستجيب لمرحلة أو لمحطة معينة، ويمكن أن يتكيف مع صياغات سياسوية كالمشاركة في الحكومة، ولكن كمحور أساسي فاعل فإلى حد الآن ليس هناك دليل على أنه يمكن أن يتجه نحو هذا المسار. المحاور يجب أن تستقرأ في الساحة السياسية، على أساس معطيات وليس على أساس انتظارات ومؤشرات عامة وغامضة. حاوره: علي الباهي