أعترف صراحة أنني لم أعد أفهم شيئا في هذه البلاد. في الوقت الذي غرقت فيه فاس بسبب الأمطار الأخيرة، وتساقطت فيه بيوت كثيرة على رؤوس سكانها، يقترح شباط عمدة المدينة إطلاق مشروع زرع مليون وردة سيكلف دافعي الضرائب بالمدينة 17 مليون درهم. وهذا المشروع الكبير الذي يريد شباط إطلاقه يوجد في المكان نفسه الذي سيحتضن البحر الاصطناعي المنتظر. فكأن البحر «ديال سيدي ربي» الذي أغرق أحياء فاس لا يكفي فكان ضروريا إضافة مليون وردة. «ما قدو فيل زادوه فيلة»، كما يقول المغاربة. أحد الفاسيين علق ساخرا على مشروع مليون وردة وقال «شباط جاب ليه الله بحال إلى ولينا بوفرطوطو». أما أعضاء المجلس الاتحاديون فقد جمعوا «قلوعهم» وغادروا اجتماع دورة المجلس الجماعي لفاس، فاتهمهم شباط بالنصب والاحتيال، وقال أن المكان الذي كان يجب أن يكونوا فيه ليس مجلس الجماعي لفاس وإنما سجن بولمهارز. فشباط يهدد هؤلاء الأعضاء الاتحاديين بالكشف عن ملفات النصب والاحتيال التي تورطوا فيها. وإذا كان شباط لم يفضح هؤلاء الأعضاء الاتحاديين من قبل فلأن فترة التناوب التي تعايش فيها كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي كانت تفرض عليه أن يغطي عليهم، حرصا على التماسك الحكومي خلال فترة التراضي. أما اليوم فقد انقضى زمن «التغاضي» (يعني التراضي باللكنة الفاسية)، وجاء الزمن الشباطي. والخطير في ما قاله شباط بخصوص «التغاضي» عن نصب واحتيال الأعضاء الاتحاديين في المجلس الجماعي لفاس، هو أنه يعترف صراحة بأنه كان على علم بهذا النصب والاحتيال، (إن وجد حقا). أي أنه كان شريكا بصمته وتواطئه. والأفظع من ذلك أن يبرر هذا التواطؤ بالانسجام الحكومي. يعني أن الحلفاء في الكتلة كانوا يغطون على بعضهم البعض حفاظا على الانسجام فيما بينهم. أما الانسجام مع الشعب الذي أوصلهم إلى مقاعدهم الحكومية الوثيرة فكان آخر ما يهمهم. لكن شباط، عندما أطلق فكرة مشروع مليون وردة، لم يكن يعرف أنه يقدم لخصومه في الاتحاد الاشتراكي خدمة العمر. فربما نسي الزعيم النقابي الجديد أن الرمز الحزبي للاتحاد الاشتراكي هو الوردة، ما يعني أن مليون ملصق حزبي سيتم توزيعه على حدائق فاس في شكل ورود من جيوب دافعي الضرائب. هكذا ففي الوقت الذي يريد شباط تقديم الاتحاديين للعدالة سينتهي بتقديم خدمة انتخابية مجانية للاتحاد الاشتراكي. اللهم إذا كانت مليون وردة التي سيزرعها شباط في واد فاس كلها تحمل اللون الوردي المميز لحزب الاستقلال. تماما كما صنعت ياسمينة بادو عندما وافقت على صبغ حيطان بعض المستشفيات العمومية باللون الوردي، مع العلم أن اللون الصحي الذي ينصح الأطباء باستعماله في كل مستشفيات العالم هو اللون الأبيض، نظرا لخصائصه المهدئة. ولعل السؤال المحير الذي يطرحه الجميع اليوم هو من أين يستمد شباط قوته وجبروته لكي يتهم تارة قضاة المجلس الأعلى للحسابات وحزب العدالة والتنمية بالإرهاب، وتارة أخرى أعضاء من الاتحاد الاشتراكي بالنصب والاحتيال. أعترف أنني لم أعد أفهم شيئا. وليس فقط بسبب ما يقوله شباط، بل أيضا بسبب ما يقوله بعض المسؤولين كوزير الداخلية الذي أوقف المساعدات الإنسانية إلى المنكوبين في منطقة «الخنيشات» بسبب أن الدرك الملكي ضبط سيارة استعملت في نهب المساعدات. وحجم المساعدات المنهوبة هي كالتالي (اربطوا أحزمتكم رعاكم الله) : 30 كيلوغرام من السكر، ثلاث قنينات من الزيت، سبعة أكياس من الدقيق وأربعة كيلوغرامات من الشاي. هذه هي حصيلة المساعدات المنهوبة التي بسببها توقفت عملية إمداد المنكوبين في منطقة «الخنيشات» بالمساعدات الغذائية. كيف يمكن أن نستوعب أن وزارة الداخلية توقيفها لتوزيع المساعدات على آلاف الجائعين لمجرد أن حفنة من المشاغبين تسرق بعض الكيلوغرامات من السكر والشاي والطحين. المفروض في المساعدات أن لا تتوقف حتى في حالات الحرب. وقد رأينا كيف ظلت المساعدات الإنسانية تتدفق على غزة تحت وابل من القنابل والرصاص المتطاير. لم أعد أفهم أيضا تصريحات بعض المسؤولين كالمندوب السامي للتخطيط، الذي يدعو المغاربة إلى التخفيض من استهلاكهم حرصا على الوضعية الاقتصادية الهشة للمملكة، رغم أن أطرافا حكومية أخرى دعت في وقت سابق إلى ضرورة الرفع من الاستهلاك الداخلي لتحقيق الإقلاع الاقتصادي. واضح أنهم في الحكومة والمندوبية السامية للتخطيط «كلها يلغي بلغاه». وأحيانا داخل الحكومة نفسها «كلها يلغي بلغاه». ففي الوقت الذي تنادي فيه الحكومة بتشجيع سياسة الجهوية نرى كيف أن وزارة التعليم تطبق سياسة المركزية. وعوض إعطاء أكاديمياتها الحق في صرف ميزانياتها لبناء المؤسسات التعليمية التي تحتاجها، «كوشت» الوزارة في الرباط على 37 مليار درهم لكي تصرفها بمعرفتها على بناء المؤسسات التعليمية واقتناء ما تحتاجه المؤسسات من «عتاد» بيداغوجي. وفي الوقت الذي يؤسس فيه الوزير الأول ووزارة الاتصال لجنة مهمتها هي التواصل مع الصحافة والرأي العام، نرى كيف يرفض وزير الاتصال الإجابة على سؤال طرحه عليه صحافي من جريدتنا وأقفل الخط في وجهه، كما رفض إعطاء موقف في ما حصل لزملائنا في «الأيام» الذين تم اقتحام مقر جريدتهم واقتيدوا إلى التحقيق مثل مجرمي منتصف الليل. إن المغرب هو البلد الوحيد الذي يمكن أن تجتمع فيه المتناقضات وتتعايش بسلام. وفي الأسبوع الماضي احتضن مطعم «كابيسون» الراقي في كورنيش عين الذياب عشاء غريبا أطلق عليه أصحابه «عشاء مجاملة»، نظمه رئيس جمعية المعشرين بالدارالبيضاء على شرف المدير الجهوي بميناء الدارالبيضاء. والمفروض في المدير الجهوي للميناء أن يخلق المسافة الضرورية مع جمعيات المعشرين، لأن وظيفته الأساسية هي أن يراقب البضائع التي يدخلوها ويخرجوها المعشرون عبر الميناء الذي يتولى سعادة المدير المحتفى به مسؤولية تسييره. أما أن تقيم جمعية المعشرين عشاء مجاملة على شرف المدير الجهوي للميناء الذي يشتغل فيه جميع هؤلاء، فهذا يطرح أكثر من علامة استفهام. خصوصا وأن ما يجمع مبين رئيس جمعية المعشرين وبين المدير الجهوي للميناء هو أنهما معا لديهما سوابق مع القضاء. فالأول صدر في حقه حكم قضائي بتهمة إصدار شيك بدون رصيد ومع ذلك يترأس جمعية المعشرين رغم أن الفصل العاشر من قانون هذه الجمعيات ينص على منع الرئاسة على أصحاب السوابق القضائية، والثاني كان محكوما في حملة التطهير الشهيرة ولم يغادر السجن إلا بعفو. وليس رئيس جمعية المعشرين وحده من يقيم لمدير الميناء حيث يشتغل عشاء مجاملة، فحتى شباط عمدة فاس أقام مؤخرا عشاء مجاملة على شرف أعضاء المجلس الوطني للنقابة الوطنية للصحافة التي عقدت مؤتمرها في فاس. وقد أكل الصحافيون ونقيبهم الاتحادي يونس مجاهد «المشوي» و»البصطيلة» على حساب شباط الاستقلالي في أحد أرقى فنادق المدينة. ولا نعرف ما إذا كان نقيب الصحافيين والصحافي في جريدة الاتحاد الاشتراكي سيهب لنصرة رفاقه في المجلس الجماعي الذين اتهمهم شباط بالنصب والاحتيال، أم أنه سيصمت خوفا من أن «تبرك» له في «الركابي» تلك الوليمة التي نظمها شباط على شرف نقابته. في كل بلدان العالم التي تحترم فيها الصحافة والصحافيون أنفسهم، هناك دائما مسافة ضرورية بين الصحافي ورجل السلطة. أما في المغرب فلدينا صحافيون يأكلون من موائد العمدة رغم أن هذا الأخير يشتم رفاقهم ويتهمهم بالنصب والاحتيال. أكثر من ذلك، لدينا في أكادير صحافيون اجتمعوا في تعاونية من أجل الاستفادة من بقع أرضية وضعتها مؤسسة العمران رهن إشارتهم. أما في تيزنيت فقد منحت السلطات المحلية ناديا للصحافيين خمسة بقع شاطئية مخصصة للفيلات، وقد استنكر بعض الصحافيين هذه «الهدية المسمومة» وأعلنوا صراحة عن رفضهم لها، في الوقت الذي قبل بها البعض الآخر. رئيس جمعية للمعشرين يجامل المدير الجهوي لأكبر ميناء في المغرب بعشاء فاخر، وعمدة فاس يجامل لنقابة الصحافيين بوليمة في أفخم فندق، ومؤسسة العمران بأكادير تجامل الصحافيين تضع بقعا أرضية رهن إشارة تعاونيتهم، والسلطة في تزنيت تجامل نادي للصحافة بخمس بقع أرضية مخصصة للفيلات على الشاطئ. وبزاف على المجاملة...