جعلت أحداث 11 شتنبر 2011 الولاياتالمتحدةالأمريكية تخرج قوتها العسكرية إلى دول تعتبر قاصية عنها لردع من اتهمتهم بالتورط في تلك الأحداث. بقية القصة معروفة لدى الجميع: غزو لأفغانستان وتدخل عسكري في العراق وتنسيق في اليمين لضرب معاقل قاعدة اليمن، قبل أن يوضع حد لحياة زعيم القاعدة أسامة بن لادن في أواخر الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما. وإذا كانت وسائل الإعلام الدولية عملت على تأمين تغطية، أحيانا حية، للتدخلات العسكرية الأمريكية الرامية إلى ردع منظمات وأشخاص مصنفين في قائمة الإرهاب، فإن صحافيي التحقيقات في بلاد العم سام لا يزالون يواصلون النبش في خبايا تلك التدخلات العسكرية في محاولة لرسم صورة مقربة لتداعياتها على بلادهم، ورصد ما أدخلته على الخطط العسكرية الأمريكية من تغييرات. وفي هذا السياق، يندرج كتاب «طريق السكين» لمؤلفه مارك مازيتي، أحد أشهر صحافيي التحقيقات في الولاياتالمتحدةالأمريكية. لماذا السكين؟ طريق السكين ليس سوى الشق الأول من عنوان عريض للكتاب يتضمن أيضا شقا ثانيا أكثر تفصيلا وتدقيقا: «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الجيش السري، والحرب في أقاصي الأرض». وقد حظي هذا الكتاب الذي صدر قبل بضعة أشهر باهتمام ونقاش كبيرين في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ونال عنوانه جزءا غير يسير من هذا الاهتمام وصل حد الجدل. ذلك أن حروب الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت تتم عبر التدخل بعتاد عسكري مهيب وتقنيات عالية واستخدام أسلحة بالغة التقنية من آخر ما توصلت إليه مختبرات صناعة الأسلحة. ومن هذا المنطلق، كان بديهيا أن يطرح السؤال عن دلالات استخدام السكين، وسلك الطريق إليه من أجل القضاء على المستهدفين من هذه الحروب. وهذا السؤال نفسه يقود إلى طرح أسئلة كثيرة عن دلالات استعارة لفظ السكين هنا. وعملت الصحف الأمريكية، التي واكبت حدث صدور الكتاب باهتمام بالغ، على كشف أسرار السكين في هذا العنوان الصادم بالنظر إلى إيحائه باستعمال أداة دفاعية، تعتبر بدائية، للدفاع عن دولة تعد القوة الأولى على الصعيد العالمي، ليس فقط في المجال العسكري، بل في جميع المجالات. غير أن تحليل الشق الثاني من العنوان يجعل أوله أكثر وضوحا. فإذا كان السكين يعني المواجهة المباشرة، فإن الشق الثاني من العنوان، وقد سبقت الإشارة إليه، يكشف الأجهزة التي عملت على تنفيذ هذه المواجهة، وهي الاستخبارات المركزية، كما يحدد أيضا المكان الذي تمت فيه المواجهة بنعته ب«أقاصي الأرض»، بمعنى أن هذه المواجهة تمت بعيدا عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، في إشارة إلى دول أفغانستانوباكستان والعراق واليمن وباقي الدول التي توجد بها منظمات أو أشخاص مصنفون في خانة «الإرهاب» في سجلات الولاياتالمتحدة المريكية. ويعلن الصحافي مارك مازيتي منذ البداية أنه لن يرصد المعالم البارزة للعيان من القوة العسكرية الأمريكية، بل سيكشف أسرارها الخفية وأسلحتها الجديدة، التي قد تكون أكثر فتكا من المعلنة للجميع، وإن وصفت في العنوان بأداة بدائية، في لغة الحروب الراهنة، ك«السكين»، حيث تشكل الحرب الاستخباراتية والصراع على المعلومة قطب الرحى في هذا الجزء الخفي من قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعموما، يبرز الكتاب التحولات التي طرأت على جهاز الاستخبارات الأمريكي، أي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نتيجة دخول الولاياتالمتحدة في حروب في أقاص بعيدة عنها جغرافيا. إذ يستعرض كيف نقلت الوكالة عملها من التجسس عن طريق الأشخاص إلى استخدام الطائرات بدون طيار، لرصد تحركات شخصيات قيادية تابعة للقاعدة واغتيال بعض الوجوه البارزة التي قضت مضجع صناع القرار في بلاد العام سام. وبالموازاة مع ذلك، لم يقطع العمل مع الأشخاص في تنفيذ عمليات التجسس، ولكن هذه الاستعانة باتت تتخذ شكلا تعاقديا. إذ يتم توظيف الجواسيس بعد التعاقد معهم على شراء الأسرار التي تتوفر لهم عن خلايا سرية، وإن لم تكن معروفة لدى وكالة الاستخبارات المركزية. ويكشف مارك مازيتي في هذا الكتاب أن طريقة العمل الجديدة مكنت الأمريكيين، بالتنسيق مع المخابرات البريطانية، من اعتقال أفراد يحملون الجنسية البريطانية، يقومون بأعمال إرهابية، بتعاون مع عناصر إرهابية في باكستان. حرب جديدة يعكس استعمال السكين، كما أسلفت الإشارة إلى ذلك، في هذا المجال نوعا جديدا من الحرب الأقل تكلفة والأكثر فعالية في إصابة أهداف جديدة لم يشهد لها مثيل في تاريخ الحروب. ففي وقت مضى، كانت رقعة التدخل محددة، هي سمة لا تنطبق على مناطق انتشار بؤر الإرهاب في العالم، وفق التصنيفات الأمريكية. ويجزم الكتاب بأن أحداث 11 شتنبر أحدثت تغييرا جذريا في مفهوم الحروب الأمريكية، حيث ظهرت تحولات جديدة، وصفها مازيتي، ب«الهامة» في بنية الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية. وكشف أيضا عن تبادل وزارة الدفاع الأمريكية وأجهزة الاستخبارات الأدوار في تدبير الحرب في بيئات غريبة عن الآلة العسكرية الأمريكية، إذا استثنيت التجربة التي اكتسبها الأمريكيون إبان حرب الخليج في مستهل تسعينيات القرن الماضي. ويذهب الصحافي المثير للجدل إلى أن الحرب الأمريكية على الإرهاب أدت إلى «عسكرة الوكالة»، إضافة إلى «التركيز الاستخباراتي المتزايد لقوات العمليات الخاصة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون». وقد أدت هذه التحولات إلى إحداث تغييرات أيضا في أهداف وأولويات وكالة الاستخبارات الأمريكية. فحسب الكتاب نفسه، لم تعد «أولوية الوكالة جمع المعلومات، ولكن اصطياد الأعداء». ولضمان كسب رهان هذه الأولويات الجديدة، برز مفهوم جديد في الولاياتالمتحدةالأمريكية يدخل «الخوصصة» إلى العمل الاستخباراتي، الذي كان الحديث عنه إلى وقت قريب ضربا من المخالفات والجرائم باعتباره مجالا حصريا وحيويا للسلطات العمومية المكلفة به. وتنفيذا لهذا المفهوم الجديد، تم تسجيل الاستعانة بخدمات «شركات خاصة للقيام بالعمليات الاستخباراتتية والعسكرية معا في صفقات سرية». كما تم السماح لأشخاص وصفهم الكاتب بالكبار في ميزان الطموحات بالحصول على حصة كبيرة من فوائد الحرب على الإرهاب، وبالتالي كان هؤلاء الفاعلون الجدد في مجال الحروب الاستخباراتية من كبار المستفيدين من حملة الولاياتالمتحدةالأمريكية على الإرهاب في «أقاصي الأرض». تكمن أهمية الاستعانة ب«سلاح السكين» بدل الصواريخ المدمرة إلى الرغبة في عدم تعريض أعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين للخطر، لأن أي حالة قتل تسجل في صفوف الجنود تكون لها كلفة لا يستهان بها في ميزان شعبية صناع القرار. كما أن «السكين»، بتوظيفاته الجديدة، بات وفق الكاتب، «أداة قتل تخلق الكثير من الفوضى وتنطوي على الكثير من الأخطاء التي قد يصعب علاجها»، وفي الآن ذاته، ترفع احتمالات خلق «المزيد من الأعداء للولايات المتحدة بنفس القدر الذي تتخلص فيه من الأعداء». ويورد مازيتي مثالا حيا لتأكيد صحة استنتاجه هذا، ويتمثل في تسبب غارات الطائرات دون طيار في قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء، إضافة إلى النتائج السلبية لضعف القدرات، التي رصدت لدى الاستخبارات الأمريكية، على فهم وتعقب التغيرات الهامة التي حدثت في دول ما يسمى بالربيع العربي، وتحولات الشرق الأوسط الجذرية، وهو ما بدا جليا، حسب الكاتب دائما، في تعاملها مع ثورات الربيع العربي، خصوصا في مصر وتونس وليبيا ما بعد ثوراتها، إَضافة إلى ما رصد لديها من عدم قدرتها على استيعاب دقيق لما يحدث الآن في سوريا، حيث يجزم الكاتب بأن «إدارة اوباما غير مستعدة للتعامل مع سوريا ما بعد بشار الأسد». العمليات الجديدة بدأت كل التحولات في العقلية العسكرية الأمريكية والآلة العسكرية ببلاد العم سام غداة أحداث 11 شتنبر 2001. فعقب تلك الأحداث، تشكلت فرقة خاصة أوكلت إليها مهمة القضاء على أسامة بن لادن، زعيم القاعدة، الذي قتل فعلا على أيدي عناصر هذه الفرقة، في عملية أشرف عليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما شخصيا في إطار عملية سرية تامة امتدت لتشمل موقع دفن زعيم القاعدة المغتال. ويعيد الكتاب رواية كيف تمكنت عناصر هذه الفرقة من التسلل إلى دولة باكستان دون الحصول على إذن من حكومتها في مهمة سرية «يمكن إنكارها إذا ما فشلت»ّ. غير أن الكتاب يكشف عن مستجد آخر في هذا السياق، حيث يبرز أن «كون القانون الأمريكي يمنع الجيش من القيام بهذا النوع من العمليات السرية جعل هذه الفرقة تشتغل تحت إمرة الاستخبارات الأمريكية درءا لأي اتهامات بمخالفة القوانين المعمول بها، وهي اتهامات من شأنها أن تضع حدا لمسار أي سياسي في بلاد العام سام مهما بلغت حظوته وشعبيته لدى الرأي العام الأمريكي». وقد أكد الكتاب أيضا على أن عملية الاغتتيال سبقتها عمليات دقيقة، جرت في سرية تامة، استهدفت جمع كل المعلومات الاستخباراتية في الموقع الذي قتل فيه بن لادن من وثائق ومستندات وملفات إلكترونية. أسرار الهجومات 216 هجوما هي إجمالي العمليات التي قامت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية بعيد أحداث 11 شتنبر 2001. هذا الرقم يكشف عنه كتاب مارك مازيتي لأول مرة، وقد كان مثار جدل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما يستمر أيضا في طرح أسئلة كثيرة عن تفاصيل هذه الهجومات والمواقع التي استهدفت منها والأجهزة أو الأشخاص الذين أشرفوا على تنفيذها. ويجزم الكاتب نفسه، وفقا لإحصائيات توصل إليها، بأن هذه الهجومات أودت بحياة ألفين ومائتي شخص، قبل أن يؤكد أن معظم هؤلاء القتلى كانوا من المسلحين، وإن لم تخل القائمة من مدنيين «كثر»، لم يتم الكشف عن عددهم بدقة. وإذا كانت عملية اغتيال أسامة بن لادن تمت بدون علم باكستان، كما اعترفت بذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، فإن الكتاب يميط اللثام عن إذن باكستاني للقوات العسكرية الأمريكية، في العام 2004، باستخدام طائرات يتم التحكم فيها بدون طيار بغرض القضاء على معاقل من يشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. وقد تركزت هذه العمليات بالأساس، جنوب دولة باكستان، غير المعلن رسميا في الوثائق الأمريكية هدفا محددا للضربات الموجهة إلى الإرهاب والإرهابيين في الحرب التي دارت في «أقاصي الأرض» في دوائر نفوذ دول بعيدة بآلاف الكيلومترات عن الولاياتالمتحدة. المثير أن الكتاب يبرز أيضا كيف استطاعت باكستان التهديد بفضح هذا الإذن والحصول على وعد وتعهد أمريكي بعدم ضرب الجماعات الموالية لها في إقليم كشمير الذي تتنازع حوله باكستان والهند منذ عقود. وإلى جانب الهجومات الاستخباراتية، عمل صناع القرار العسكري والاستخباراتي في الولاياتالمتحدةالأمريكية على الاستعانة، كما سلف الذكر، بشركات خاصة في جمع المعلومات. وفي هذا الباب، لا يؤكد الكتاب ما إذا أدخل هذا النوع الجديد من الشركات في حروب مباشرة مع أهداف الحرب الأمريكية على الإرهاب. لكنه يختم بأن البحث في تفاصيل تأسيس هذه الشركات والنبش في آليات اشتغالها وطرق التعاقد معها لا يزال مجالا مفتوحا قد يثير العمل عليه جدلا محتدما في السنوات المقبلة.