يكتب مترجم «مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي» لمولانا جلال الدين الرومي، المترجم المصري إبراهيم الدسوقي شتا، الذي قام بترجمة أهم كتب العالم المتصوف جلال الدين الرومي، و يتعلق الأمر بكتاب «المثنوي» بأن من صفات عرفان مولانا جلال الدين الرومي أنه مضاد تماما لتصوف الزهد والانسحاب، وأنه إن شئنا الدقة تصوف المواجهة والصراع والقتال. ومن هنا كما يقول الدسوقي شتا في مقدمة «المثنوي»، «تشيع روح الحنو على البشر، والنظر بعين الإشفاق، بل وأحيانا الفهم إلى ألوان ضعفهم».، فلا معنى لعفة، كما يقول، بلا إغراء، ولا معنى لأي ارتفاع عن مغريات الدنيا إلا إذا كانت هذه المغريات موجودة بالفعل. وبالتالي فعرفانه الصوفي هو ابن للحياة وخارج من أنساغها ومن تجاربها. يقول مولانا جلال الرومي في إحدى دفقاته «وعندما لا يكون عدو فالجهاد محال، وإن لم تكن شهوة لم يكن ثمة امتثال». وفي مقام آخر»ولا يكون صبر عندما لا يكون لديك ميل، وعندما لا يوجد خصم، ما الحاجة إلى قيامك بالاحتيال». وفي رد على مناهج الصوفية الأخرى، التي تدعي الزهد والدروشة، يقول «انتبه ولا تجعل نفسك خصما، ولا تصر راهبا ذلك أن العفة رهينة بوجود الشهوة». وربما، هنا في هذه اللطيفات الصادرة عن الروح المجربة، تتجلى فلسفة الرومي ومنهجه الصوفي الفريد، القائم، لو تكلمنا بلغة اليوم، عن التجربة الميدانية وليس التمثل الذهني، وعلى مناكفة الواقع ومعايشته، وليس بالهروب منه، والتخلي عنه. إن الصوفية بالمعنى الذي يؤسسه جلال الدين الرومي، تكاد تقترب من «التحليل الملموس للواقع الملموس»، مع الفارق طبعا، لو نزعنا عنها كل «النزعات المادية». السؤال الذي يؤرق رجل التصوف، هو سؤال العودة إلى الأصل، والغرف مجددا من النبع الصافي، وإدراك أن الخصم الحقيقي للإنسان يكمن في نفسه أو في شيطانه. وبالتالي فإن الهدف الأسمى هو الوصول إلى «الإنسان الأسمى»، أي إلى سيادة الإنسان على نفسه وعلى العالم. ومولانا جلال الدين الرومي يتفق في هذا مع ما ذهب إليه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، في حديثه عن الإنسان، وعن كونه بمثابة الكتاب الوجودي الأصغر، وعن العالم باعتباره الكتاب الوجودي الأكبر، غير أنه زاد عليه بأن جعل من الإنسان مركز الخليقة والأرفع شأنا. يقول جلال الدين الرومي في «المثنوي»، «إذا أنت في الصورة العالم الأصغر، وأنت في المعنى العالم الأكبر». ولنتأمل هذه الطريقة البرهانية التي يقدم بها الرومي لفكرته عن سمو الإنسان وكونه أصل العالم «وفي الظاهر يكون ذلك الغصن أصلا للثمرة، لكن الفرع في الحقيقة من أجل الثمرة. فإن لم يكن الميل إلى الثمر والأمل فيه، متى كان البستاني يغرس جذور الشجر؟ ومن ثم فإن تلك الشجر على سبيل المعنى ولد من الثمر، وإن كان الثمر قد ولد منه على سبيل الصورة». في كتابه «مقدمات لمؤلفات شهاب الدين السهروردي الفلسفية والصوفية»، يؤكد المستشرق الفرنسي هنري كوربان، وأحد المتخصصين الكبار في التصوف العربي الإسلامي، ومن الذين قدموا الفكر والنص الصوفي إلى القارئ العربي وبالأخص عمله على ابن عربي والسهروردي، أن الإشراق الصوفي هو سر النص الصوفي وروعته، والمعبر عن خباياه وما يلهج بسببه من معان شديدة الغور، يقول السهروردي « من لم يصدق به ولم تقنعه الحجة، فعليه بالرياضات وخدمة أصحاب المشاهدة، فعسى يقع له خطفة يرى النور في عالم الجبروت، ويرى الذوات الملكوتية والأنوار التي شاهدها هرمس وأفلاطون». إن الرؤيا هي عماد التجربة الصوفية، فكما تمثل السهروردي الزرادشتية، فإن مولانا جلال الدين الرومي لم يكن له ليكتب هذا الدفق السلسبيل من الأشعار في حق الصاحب والشيخ وواهب المعنى شمس الدين التبريزي، الذي رافقه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تعلم منه الحكمة الصوفية وتعلم على يديه، لولا حادثة القتل التي تعرض لها التبريزي، فخبت شمس في روح جلال الدين الرومي وطلعت شموس أخرى ملهمة، كانت عصارة ديوان شعر من أجمل ما قيل في الشعر الصوفي يربو عن 60 ألف بيت شعر، على حد تعبير المتخصصين فيه.