المدن السفلى... هكذا صنف عبد الله راجع تلك الفضاءات المجالية، العميقة في الوسط المغربي. ذات سنة سبعينية كتب الراحل شعرا أسماه «الهجرة إلى المدن السفلى»، وكانت المدينة السفلى، الفقيه بن صالح، العُميرية، هي ما ألهم الشاعر المرهف شعرا. راجع عايش جيلا آخر، نكاد لا نجد له اليوم أثرا في المدينة السفلى إياها. ولو امتد به العمر حتى اليوم، لكان الشاعر، ربما، نسخ الكثير من الصورعن فضائه السفلي ذاك بصور أخرى هي لمعالم صعود من الأسفل، لكن نحو مزيد من السقوط إلى الأسفل ! مدينة عبد الله أضحى بها، اليوم، عباد الله كثر ممن افتتنوا بثقافة الهجرة وأخذوا من السراب رموزا لحياتهم، ولم يعد لمناسبة الاحتفال بذكرى الرجل رجع إلا من أولئك الرجال القلة، الذين يكافحون، في مدينة «كل شي من الطاليان»، من أجل استعادة لحظات جميلة من الزمن الجميل عبر فتحة الأمل، المكابد من أجلها. أذكر أنني حضرت احتفالا بالرجل في زيارة للمدينة لما كنا نقتعد، مثل حكماء صغار، مقاعد الثانوية. بئر أنزران. جلس الراحل وسط جمهور من الحاضرين يتحدث، ثم يستمع لتدخلات البعض وأسئلة البعض الآخر. وفي جوابه امتنع عن البوح باسم شخصية محلية ترددت رمزيتها في كتابته، إلا أنها أثرت فيه حد أنه أفرد لها مكانا من بين مكاناته العميقة. أعترف بأنني لم أحتفظ بكثير أشياء قالها راجع ذلك اليوم العُميري؛ ومما احتفظت به أنني عرفت تلك الشخصية، التي أحاطها الرجل بسرية الكتابة قبل أن يكشف عنها عبر بعض بوح... لقد كانت هي... صالح. صالح يعرفه أهل المدينة، ولم يكن راجع ليصنع الاستثناء. لا، بل جعله أيقونة من تلك التي انفردت بموقع من مواقع الهم الشعري عند راجع. أحببت تلك اللعبة المتبادلة. لعبة لم تكن نادرة في مدينتي، بل كان يمتهنها الكثير. لعبة التنشيط والتطوع والإسهام في كل عمل جميل، يتواطأ عليه الجميع. حينها، كان الهم ثقافيا، ورياضيا وسينمائيا، لكن بوادر النزيف كانت قد لاحت. فسار الصغار في ركب الكبار، واتسعت دائرة الضياع، وانهار الحلم والأمل، ولم يعد من راجع إلا ذكرى ممات يحييها بعض الغيورين على زمن ولى. تبحث عن الثقافة في مدينتي، فلا تجد. لا تجد إلا بضعة وجوه تنزوي إلى عوالمها، تراسل زملاء لها في الصحف وفي الخارج، والبقية تهرب إلى قراءاتها، وآخرين يتأبطون صحفا، ويمشون؛ يتذكرون معالم زمن ميت في كل مناسبة لقاء مصادفة مع جيران العمر. في مدينتي تداخل المجال البدوي والمدني، وزادت صهلات خيول العربات المجرورة كما لو كانت تحسب سيارات النزيف «الطالياني» خيولا من جلدتها، فتغار منها. لقد غاصت مدينة راجع إلى ما دون المستوى السفلي الذي تركها عليه. غاصت إلى حيث لا حياة إلا للفراغ والضياع وغبار العربات ومضاربات حول التراب البخس بأسعار الثراء الأجنبي. وغوص الضياع هذا يعزف على إيقاع رحلتي رحيل ورجوع في رحلة السعي إلى البقاء، بين ال هنا وال هناك. «لا للثقافة، أنا اليوم طالبة فلسفة في شعبة فلسفة التنمية المحلية. لقد جعلوا لي مهرجانا للفرس، وأحاطوا بي مهرجانات للرمان والزيتون...». هكذا تقول مدينتي. بشرى لك بمهرجاناتك، وكل أماننيا بأن يجعلوا لك مهرجانا ل «الكرعة» وآخر ل«الذبان» وثالثا «ثقافيا» يخصص لمتابعة ثقافة الطاليان عند أبناء المنطقة. سيكون الأمر جميلا، وممعنا في ما هم فاعلون بتلك المدينة، التي لم تعد تصلح إلا لتعبئة شيخاتها من أجل تدبير حركة لمّ الأصوات وتعليم بسطائها التمييز بين ألوان الورق والرموز في معازل الداخلية. راجع، لن يرجع. ورجع صوته صار خافتا، بعيدا عنا لا يصلنا من تلك المدينة السفلى إلا عبر جهد جهيد من أوفياء الأمس. وأما رجع الثقافة، فلن تجد. لا، بل ستجد رجع تواطؤ على الإجهاز على المدينة السفلى، حتى لا تصعد، لتتنفس تيار هواء نقي تنفخه فيها إرادة حقيقية. أسفي على ماض قريب كان.