ستبقى معركة أنوال الخالدة عنوانا بارزا في صفحات المقاومة المغربية، ومنعطفا تاريخيا في مسيرة تحرر الشعب المغربي من قيود الاستعمار، ونقطة فاصلة في مسار البحث عن الحرية، والتحول الجماعي إلى مرحلة "الإيمان الشعبي" بضرورة الجهاد في سبيل الله لتحرير الإنسان والأرض والوطن. قبل 92 سنة من الآن، وتحديدا في 22 يوليوز 1921، وقعت بين أنهار ووديان جبال الريف، معركة أنوال المجيدة، بقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه، الذي بدأ قبل هذا التاريخ بتعبئة المجاهدين وهيكلة الجيش والاستيلاء عل المواقع الاستراتيجية المحيطة بجبل أنوال، وهي التحركات التي أثارت سيلفستري، قائد الجيش الإسباني في المنطقة، خاصة بعدما قام المجاهدون بقطع خيوط التموين عن الغزاة المستعمرين، وبتحويل مياه السقي إلى المناطق المجاورة، مما عرقل تحرك الآليات العسكرية الضخمة التي كانت تعتبر نقطة تفوق استعماري، قبل أن تصبح مع هذه المستجدات نقطة ضعف بفضل ذكاء رجال المقاومة. سيلفستري سيرتكب حماقة بعدما فقد أعصابه، حيث أمر جنوده بمخادعة المجاهدين عبر رفع الأعلام البيضاء ودعوتهم إلى التفاوض، فتجاوب الأمير إيجابا مع المبادرة وأرسل إليهم ستين رجلا للتباحث والتفاوض واستطلاع شروط ومطالب ومقترحات الطرف الآخر، لكن سيلفستري، وضدا على كل الأعراف السياسية والقانونية والدبلوماسية المتعامل بها، سيقتلهم بدم بارد، دون أن يعلم بأنه بقتله لهؤلاء الشهداء، إن شاء الله، قد وضع حدا لحياته ودشن مرحلة جديدة في سجل المقاومة الريفية، نسميها نحن بملحمة أنوال ويسميها الإسبان «كارثة أنوال» Desastre de Annual. كانت معنويات المجاهدين مرتفعة وكانوا على أهبة الاستعداد للانقضاض على العدو، بعد غدر سيلفستري وسفكه دم إخوانهم على حين غرة، وبذلك استطاعت فئة قليلة لا تتعدى ألفي مجاهد الانتصار على ما يفوق 25 ألفا من الغزاة الإسبان. فيما ظلت نهاية سيلفستري غامضة إلى حدود الآن، رغم أن أغلب المصادر التاريخية التي تناولت الموضوع رجحت فرضية الانتحار بعدما لم يتقبل هزيمته على أيدي رجال بسطاء، لا يملكون إلا إيمانهم القوي بالله وحبهم لأرضهم وعشقهم للحرية، كل الحرية، أوَلم يقل بن عبد الكريم الخطابي بعد هذا بسنين إنه "ليس في الحرية حل وسط"، فالحرية هي الحرية. قلبت معركة أنوال الكثير من الموازين، وأثارت الرأي العام الدولي والرأي العام الإسباني، وساهمت في خلخلة النظام السياسي الإسباني كما هو معروف، لكن تأثيرها الأكبر كان داخليا بترسيخ قناعة مفادها أنه "لا حل مع الاستعمار إلا المقاومة المسلحة"، وهو ما فتح الباب أمام كثير من أعيان القبائل للالتحاق بتجربة الأمير التي ستتحول إلى تجربة عالمية استلهم منها الثوار مبادئ المقاومة والنضال من أجل استرجاع الكرامة والأرض، أوَلم يفاجئ ماوتسي تونغ الوفد الفلسطيني، الذي زاره للاستفادة من التجربة الصينية في التحرر، بقوله: "أصدقائي، كيف تأتون لأعلمكم مبادئ حرب العصابات ومنكم تعلمت ذلك، فأول درس تعلمته في حرب التحرير الشعبية كان من تجربة النضال والكفاح الذي قاده محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف شمال المغرب". يجب علينا، كمغاربة وكأبناء لهؤلاء المجاهدين، أن نظل أوفياء لروح معركة أنوال ولروح المقاومة ولروح الدماء الزكية التي طهرت بلادنا من الاستعمار. يجب علينا كمغاربة أن نحافظ على العهد بالتضحية بالنفيس والغالي من أجل رفعة هذا الوطن، مهما قسى علينا أو على الكثير من إخواننا وأخواتنا، لأن الحياة عند أصحاب القيم والهمم العالية مسيرة نضال من أجل المبادئ، وما أجمل الموت بشرف بعد أن نحيى بشرف. إن الشعوب التي لا تتذكر ماضيها، لا حاضر ولا مستقبل لها، ولا يمكن التأسيس لتذكر جماعي إلا بتوثيق أو إعادة توثيق الأحداث التاريخية التي مرت منها بلادنا، وتشجيع البحث العلمي فيها وإدراجها في المقررات المدرسية والجامعية، وتشييد المتاحف العلمية ورفع الحظر عن رموزنا الوطنية من رجالات المقاومة، حتى تتلمس الأجيال الصاعدة غدها الزاهر من أمسها المشرق، وهو ما لن يتحقق دون التحرر من قيود الاستعمار المعنوية التي لازالت مهيمنة على الكثير من النخب المهزومة، المتشبعة بفكرة "القابلية للاستعمار" كما يسميها بذلك المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله. ستبقى أنوال خالدة في ذاكرة الشعب، وسيبقى المجاهدون والشهداء نبراس طريقنا المستمر لتحقيق التنمية والكرامة والعدالة لشعب يعشق التحرر من قيود الاستعباد. لازالت مسيرة النضال مستمرة، فكما توحد أجدادنا ضد الاستعمار يجب أن نتوحد ضد الفساد والاستبداد والجهل والمرض والظلم الاجتماعي، إذ لكل زمن معركته ومعركتنا نحن هي معركة الديمقراطية والتنمية. وسلام على من قضوا نحبهم يوم 22 يوليوز 1921، أسأل الله أن يرحم مجاهدينا وأن يبلغهم مقام الشهداء والصالحين والعارفين وحسن أولئك رفيقا.
نبيل الأندلوسي* *باحث في العلوم السياسية والكاتب الإقليمي لحزب العدالة والتنمية بالحسيمة