معركة أنوال الخالدة، ستبقى عنوانا بارزا في صفحات المقاومة المغربية، ومنعطفا تاريخيا في مسيرة تحرر الشعب المغربي من قيود الإستعمار، ونقطة فاصلة في مسار البحث عن الحرية، والتحول الجماعي إلى مرحلة "الإيمان الشعبي" بضرورة الجهاد في سبيل الله لتحرير الإنسان و الأرض والوطن. قبل 92 سنة من الآن، وتحديدا في 21 يوليوز 1921، وقعت بين أنهار ووديان جبال الريف الشامخة، معركة أنوال المجيدة، بقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه، الذي بدأ بتعبئة وتنظيم المجاهدين والاستيلاء على المواقع الإستراتيجية المحيطة بأنوال تمهيدا لحدث عظيم، وبأمر منه قام المجاهدون بقطع خيوط التموين عن الغزاة المستعمرين ومحاصرتهم، وبتحويل مياه السقي إلى المناطق المجاورة مما عرقل تحرك الآليات العسكرية الضخمة التي كانت تعتبر نقطة تفوق إستعماري ، قبل أن تصبح مع هذه المستجدات نقطة ضعف بفضل ذكاء رجال المقاومة الذين حاصروا الإسبان في منطقة أنوال، حصارا عسكريا تاما، أربكت كل حسابات سلفستري. وقد أورد المرحوم محمد محمد عمر بلقاضي، أحد المشاركين في معركة أنوال وصاحب كتاب "أسد الريف: مذكرات عن حرب الريف"، الذي سبق وأن عينه الأمير في العديد من المناصب منها رئاسة المستودع العام لجمع الذخائر والأسلحة ومساعدا لأمين المالية السيد عبد السلام الخطابي، (أورد) تفاصيل المعركة ووقائعها ، متحدثا عن مدى ثبات وقوة المجاهدين وإصرارهم على تحقيق النصر وعن إرشادات ونصائح الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي " التي كانت كلها تشجيعا لهم على الصبر والثبات والصمود في وجه العدو ولو بلغت قوته ما بلغت، ونصحهم بأن لا يطلقوا الرصاص من بندقيتهم إلا إذا تحققوا من إصابتها رأس العدو بدل أن تضيع في الهواء، وأوصاهم بأن يقتصروا على الدفاع فقط، وأن ينتظروا هجوم العدو الذي لا محيد له لفك الحصار المضروب على "القشلة" التي حاصرها المجاهدون، وقال لهم إن موت العدو وحياته منحصرة في هذه المعركة، فإما أن نفك الحصار عن هذه القشلة ويبلغ لها التموين، وإما أن يموت كل الغزاة المتحصنين فيها، وكذلك بالنسبة للمجاهدين فإما أن ينتصروا في هذه المعركة ويردوا كل هجوم يقوم به العدو لفك الحصار المضروب على القشلة إلى آخر المعركة، وإما الخذلان." (كتاب أسد الريف، الصفحة 117 وما بعدها). وبفضل حنكة القائد بن عبد الكريم وشجاعة المجاهدين وعدالة القضية إنهزم الجيش الإسباني شر هزيمة، وكتب التاريخ بمداد من الفخر والعزة كيف لجنود بسطاء لا يملكون إلا إيمانهم بالله وبعدالة قضيتهم أن ينتصروا ويبدعوا ما نسميه اليوم ملحمة أنوال الخالدة ويسميها الإسبان "كارثة أنوال" Desastre de Annual. هذا فيما ظلت نهاية سلفستري، قائد الجيش الإسباني بالمنطقة إذاك، غامضة إلى حدود الآن، رغم أن أغلب المصادر التاريخية التي تناولت الموضوع رجحت فرضية الانتحار بعدما لم يتقبل هزيمته على أيدي رجال بسطاء، لا يملكون حقا إلا إيمانهم القوي بالله وحبهم لأرضهم وعشقهم للحرية كل الحرية، أو لم يقل عبد الكريم الخطابي بعد هذا بسنين أنه "ليس في الحرية حل وسط"، فالحرية هي الحرية، كل لا تجزأ، هذا مع الإشارة إلى كون بعض المصادر تذهب، في روايات أخرى، إلى أنه قتل على أيدي المجاهدين رحمة الله عليهم. قلبت معركة أنوال الكثير من الموازين، وأثارت الرأي العام الدولي والرأي العام الإسباني، وساهمت في خلخلت النظام السياسي الإسباني كما هو معروف، لكن تأثيرها الأكبر كان داخليا بترسيخ قناعة أنه "لا حل مع الإستعمار إلا المقاومة المسلحة"، وهو ما فتح الباب لكثير من أعيان القبائل للإلتحاق بتجربة الأمير، والتي ستتحول إلى تجربة عالمية استلهم منها الثوار في مختلف بقاع العالم مبادئ المقاومة والنضال من أجل إسترجاع الكرامة والأرض، أولم يقل ماوتسي تونغ للوفد الفلسطيني الذي زاره للإستفادة من التجربة الصينية في التحرر، قولته الشهير التي مما جاء فيها " أصدقائي كيف تأتون لأعلمكم مبادئ حرب العصابات ومنكم تعلمت ذلك، فأول درس تعلمته في حرب التحرير الشعبية كان من تجربة النضال والكفاح الذي قاده محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف شمال المغرب". يجب علينا كمغاربة، وكأبناء لهؤلاء المجاهدين أن نظل أوفياء لروح معركة أنوال ولروح المقاومة ولروح الدماء الزكية التي طهرت بلادنا من الإستعمار. يجب علينا كمغاربة، أن نحافظ على العهد بالتضحية بالنفيس والغالي من أجل رفعة هذا الوطن، مهما قسى علينا أو على الكثير من إخواننا وأخواتنا، ولسان حالنا في ذلك ما قاله الشاعر " بلادي وإن جارت علي عزيزة "، لأن الحياة عند أصحاب القيم والهمم العالية مسيرة نضال من أجل المبادئ، وما أجمل الموت بشرف بعد أن نحيى بشرف. إن الشعوب التي لا تتذكر ماضيها، لا حاضر ولا مستقبل لها، ولا يمكن التأسيس لتذكر جماعي إلا بتوثيق أو إعادة توثيق الأحداث التاريخية التي مرت منها بلادنا، وتشجيع البحث العلمي في هذا الإطار وإدراجها في المقررات المدرسية والجامعية، وتشييد المتاحف العلمية ورفع الحظر عن رموزنا الوطنية من رجالات المقاومة، حتى تتلمس الأجيال الصاعدة غدها الزاهر من أمسها المشرق، وهو ما لن يتحقق دون التحرر من قيود الإستعمار المعنوية التي لازالت مهيمنة على الكثير من النخب المهزومة، المتشبعة بفكرة "القابلية للإستعمار" كما يسميها المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله. ستبقى أنوال خالدة في ذاكرة الشعب، وسيبقى المجاهدون والشهداء نبراس طريقنا المستمر لتحقيق التنمية والكرامة والعدالة لشعب يعشق التحرر من قيود الإستعباد، لازالت مسيرة النضال مستمرة، فكما توحد أجدادنا ضد الإستعمار يجب أن نتوحد ضد الفساد والإستبداد والجهل والمرض والظلم الإجتماعي، إذ لكل زمن معركته وهذه هي معركتنا، معركة الديمقراطية والتنمية. وسلام على من قضوا نحبهم في معركة الشرف، أسأل الله أن يرحم أجدادنا المجاهدين، الذين أحبوا الحرية وما حملوا السلاح إلا مضطرين جهادا في سبيل الله رب العالمين، وأن يبلغهم مقام الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، آمين. *باحث في العلوم السياسية والكاتب الإقليمي لحزب العدالة والتنمية بالحسيمة