رغم ما عُرف عن زينب النفزاوية من الجمال والذكاء، فإنّ الغيرة تسللت إلى قلبها من أميرة مرابطية أخرى، إلى حد مطالبتها بعزل قاض مدحها شعراً.. فمَن تكون هذه الأميرة التي أشعلت نار الغيرة في قلب أقوى نساء الدولة المرابطية وأجملهنّ على الإطلاق؟ سيدة مجالس الشّعر والعمل لم تكن تلك الأميرة سوى حواء بنت تاشفين بن علي، واحدة من جميلات الدولة المرابطية وزوجة القائد المرابطي سير بن أبي بكر اللمتوني، قائد جيوش السلطان يوسف بن تاشفين ووليه على مدائن مكناسة وبلاد مكلاثة وفازاز. كباقي نساء الدولة المرابطية اللواتي احتللن مكانة متميزة، جمعت الأميرة حواء بين الجَمال والحُسن والذكاء وحب العلم.. حيث كانت الأميرة المرابطية ذاتَ شأن سياسي وثقافي، جعلها تحتلّ مكانة هامة في البلاط وفي مجالس الشّعراء ورجال العلم والأدب باعتبارها «أديبة وشاعرة ماهرة ذات نباهة وبديهة».. كان للأميرة حواء مجلس مع الشّعراء تحاضرهم فيه وتستمع إلى أحاديثهم عن الشّعر. مدحها وعاتبها الشاعر أبو جعفر التطيلي بقوله: أما رأيت نديّ حواء كيف دنا بالغوث إذ كان يأتي من دونه العطب قد عم بِرُّكِ أهل الأرض قاطبة فكيف أخرج عنه جارك الجنب وفي شعر آخر مدح أبو جعفر الأعمى التطيلي الحرة حواء قائلا: يا أخت خير ملوك الرضا إن قصدوا وإن أعدوا وإن سموا نسبوا محمد وأبو بكر وعزّهم يحيى وحسبك عزًّا كلما حسبوا ثلاثة هم مدار الناس كلهم كالدهر ماضِِ وموجود ومرتقب قد عم برك أهل الأرض قاطبة فكيف أخرج عنه جارك الجنب.. بلغت الحرة حواء بنت تاشفين مكانة عالية بين نساء جيلها، حتى قال عنها ابن عذارى المراكشي: «وكانت الحرّة حواء أديبة شاعرة جليلة ماهرة.. وكانت ذات نباهة وخطر». أخبر أبو عبد الله محمد بن سعيد الخزرجي في كتابه «حدثني أبو محمد بن جلون عن شيخه أبي عبد الله بن زرقون وكان شيخه مالك بن وهيب (الفيلسوف) قال: أمرت الحرّة حواء اللمتونية بمراكش بمجلس الكتبة والشعراء، كانت تحاضرهم فيه وكانت ذات نباهة وخطر، فاجتمع يوماً ذلك المجلس جماعة منهم ابن القصيرة وابن المرخي (ت533ه /1138م) وهذا لقب له لأنه يقال كان له فتور على فصاحته، وحضر غيرهما، فلمّا غص المجلس أقبلت الحرّة تريدهم وهم يتحادثون ويأخذون في الشّعر، وكان ابن المرخي قد قال صدر بيت وهو: «أنا للبدر أخ»، ولم يجزه أحد منهم، إذ أقبلت الحرّة فسلمت عليهم وبادرها ابن المرخي وقال لها: «حياك الله يا قمري ويا زهري، فقالت: «وصفتني والله بآفل وذابل»، ففرح بفطنتها فقالت له: «فيم كنتم»، قال لها: كنا قد قلنا صدر بيت ولم يقدر أحد على عجزه، فقالت: «انشدنيه»، فقال: «أنا للبدر أخ» فقالت على البديهة: «على ذا سنخ»؟ فتعجب الحاضرون من براعتها.. أميرة الفقراء عُرِفت الأميرة حواء بالصّلاح والإنفاق على الفقراء، وأشار ابن رشد -الجَدّ أنها ساعدت في إصلاح مسجد بلنسية.. وهذا الكرم والعطاء قد اقتاد الشاعر إلى مدحها كما يصرح: أَهْلَلْتُ بِالحُرَّةِ العُلْيَا إِلَى أَمَلٍ لِمِثْلِهِ كَانَتِ الأَشْعَارُ تُنْتَخَبُ ويصف الأعمى التطيلي ورعها وتقواها: دنيا ولا ترف دين ولا قشف ملك ولا سرف دركُ ولا طلب برّ ولا سقم، عيش ولا هرم جدّ ولا نصب، ورد ولا قرب ردْ غمرة ترتمي من كل ناحية عُبابُها الفضةُ البيضاءُ والذهبُ مليكةُ لا يُوازي قدرها ملكٌ كالشمس تَصغُر عن مقدارها الشّهب.. غيرة نسائية جعلت مكانة الحرة حواء العالية بين نساء الدولة المرابطية وتهافت الشعراء على مدحها حرّة أخرى تغار منها، ألا وهي زينب النفزاوية، أكثر نساء لمتونة جمالا وذكاء وقوة.. ولهذه قصة طريفة احتفظت بها صفحات التاريخ. يُروى أن القاضي أبا محمد عبد العزيز السوسي قد مدح الأميرة حواء، زوجة الأمير سير بن أبي بكر، وفضلها على سائر النساء بالجمال والكمال، فأمرت زينب النفزاوية يوسف بن تاشفين بعزله عن القضاء.. فلما لقيها وعاتبته ارتجل فقال: أَنْتِ بِالشَّمْسِ لاَحِقَة وَهِيَ بِالأَرضِ لاَصِقَةٌ فَمَتَى مَا مَدَحْتُهَا فَهِيَ مِنْ سَيْرٍ طَالِقَةٌ فقالت يا قاضي طلقتها منه، قال نعم ثلاثة وثلاثة وثلاثة، فضحكت، وكتبت إلى يوسف بردّه إلى القضاء فردّه، وهذه الرواية على طرافتها إشارة بالغة إلى وجود تنافس بين الأميرات في طلب المُدّاح.. لا يُعرَف للأميرة حواء تاريخ وفاة، ولولا الأشعار التي مجّدتها لضاعت أخبارها التي تدل على أثر المرأة المرابطية في الحكم والحياة..