رمضان شهر الطفولة والحنين، كان وسيظل فرصة ذهبية للصغار كي يثبتوا للعالم أنهم لم يعودوا مجرد أطفال يهدرون وقتهم في الحماقات، بل مشاريع رجال قادرين على الصمود وتحمل أسوإ الاختبارات. أذكر أننا -مثل كل الصغار- كان يسكننا هاجس واحد أيام الطفولة: أن نكبر في وقت قياسي، أن نغلق أعيننا ونفتحها ثم نجد أنفسنا ب»موسطاشات» وأكتاف عريضة وزغبات على الصدر، نباهي بها الأقران وندهش الفتيات في الحي والمدرسة. في رمضان تبدأ «الأيام المفتوحة للدخول إلى عالم الرجولة»، وإذا لم تنتزع عضويتك بالقوة في نادي الكبار، ستبقى صغيرا إلى الأبد. لكي تغادر الطفولة، عليك أن ترفع تحديات كبيرة، أخطرها التخلي عن شاي الصباح المنعنع ومختلف أنواع العصير والحلويات التي لا ينافسك عليها أحد في النهار، وأن تزهد في بقايا السحور الذي يصبح مذاقه أسطوريا كلما تحول إلى وجبة غداء مسخنة في اليوم الموالي، أن تتخلى عن المرق بالدجاج أو باللحم مع البطاطس المقلية والزيتون الأخضر... الطريق إلى عالم الكبار، في تلك الثمانينيات البعيدة، كان يستغرق يوما كاملا من العطش والجوع، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الشمس التي تعترض سبيلك في منتصف النهار مثل قاطع طريق، وتحبط رحلتك الشاقة إلى كوكب الراشدين، بشربة ماء. لحسن الحظ أن أمهاتنا المتعودات على ترقيع سراويلنا، التي تتمزق بسرعة بسبب ألعابنا العنيفة، كن يخطن لنا النهارات. وبذلك تتحول الساعات القليلة التي صمنا خلالها بشكل متفرق إلى يوم كامل، نسجله في قائمة انتصاراتنا على شهواتنا الصغيرة كي ننسى هزائمنا المتكررة أمام شمس الصيف المعربدة. كنا نرتق صيامنا بالخيط والإبرة كي نثبت للآخرين أننا على أبواب الرجولة، أن تلبس قميصا مرقعا خير من أن تخرج إلى الشارع عاريا كما ولدتك أمك! أعتقد أن الشمس كانت تهزمنا لأننا لم نهتد إلى الحيلة الماكرة التي يتفنن في استعمالها الكبار: النوم إلى ما بعد العصر. لم نكن نحب أن نقضي أوقاتا طويلة في السرير، عكس الكبار الذين كانوا يسهرون إلى الساعات الأولى من الصباح وهم يلعبون «الكارطة» و»الرامي» أو «يقرقبون الناب»، ثم يستسلمون للنوم حتى أذان المغرب. نحن كنا مبرمجين كي لا نضيع دقيقة واحدة من النهار بلا ألعاب. نستيقظ مع صياح الديك. الديك ذاته الذي ينتهي وسط قصعة كسكس ليلة 27. كانت ألعابنا خطيرة، لكنها لم تكن تخلو من عبقرية. نصنع شهبا نارية من قطع «الجيكس» المخصصة لغسيل أواني المطبخ، نضرم فيها النار ونحرك القطعة المشتعلة كي تتطاير النجوم من أيدينا، كأي سحرة بارعين. نشتري مفرقعات «الكلخ» ونفخخها بسلك رقيق ثم نرميها تحت أقدام العابرين، كأي إرهابيين مبتدئين. ولأن آباءنا لم يشتروا لنا تلك الدراجة الخرافية التي وعدونا بها بعد النجاح في «الشهادة»، كنا نكتري دراجة قديمة عند «السيكليس»: جولة صغيرة بعشرين سنتيم. عندما لا تكون عندنا نقود، نكتفي بعجلة مستديرة نسوقها بسلك طوّعناه بإحكام، نجري بها في الحي موهمين أنفسنا بأننا نقود دراجات حقيقية. لم نكن نكلف أسرنا أي شيء، ماعدا السراويل والأحذية التي تتمزق بسرعة وقناني «الدواء الأحمر» لدهن الجروح التي نرجع بها في آخر النهار كأننا عائدون من الحرب. الحرب التي كنا نشنها يوميا على الفتيات بعد الإفطار، حيث نتحول إلى ميليشيات آداب تجوب أطراف المدينة، سلاحنا «جباد» من «لاستيك» وذخيرتنا قطع مسمومة نصنعها من أسلاك الدفاتر. كنا نصوب «الجباد» في اتجاه سيقان الفتيات اللواتي يرتدين تنورات قصيرة، الضربات لاسعة تجعل الساق تنزف أحيانا. ننفذ عملياتنا ونهرب كأي إرهابيين صغار، ثم نعود إلى الحي كي نركب دراجاتنا النارية ونتجه صوب المقبرة. لم تكن دراجاتنا من نوع «سكوتر» أو 103، بل براميل زيت مقطوعة إلى نصفين، تخترقها عصا نمسكها من الجانبين كي نوهم أنفسنا بأنه المقود ونصنع هدير المحركات بأصواتنا، وداخل البرميل نشعل شمعة تضيء لنا الطريق نحو مغامراتنا المجنونة.