إعادة الاعتبار للمقاومة تتطلب دعمها بكل وسائل الدعم والإسناد وفي مقدمتها الدعم العسكري الذي بات الحديث العلني عنه محرجاً في ظل أنظمة تخيف شعوبها بقدر ما تخاف من الأعداء بعد صمود غزة وانتصار مقاومتها على العدوان وإجبار قواته على الانسحاب لم يعد النقاش ذا معنى حول انتصار المقاومة في لبنان خلال حرب تموز 2006، لا لأن انتصار غزة جاء ليعزز منطق المقاومة وانتصارها في لبنان فحسب، بل لأن هذا الانتصار الفلسطيني جاء ليؤكد أن الانتصار اللبناني لم يكن ظاهرة عابرة لن تتكرر في مجرى الصراع مع العدو الصهيوني، بل أثبت أنه بداية مسار متصاعد في حركة الصراع تتوالى فيه الانتصارات لأمتنا في ما يغرق الصهاينة في بحار هزائمهم. وإذا أضفنا إلى انتصاري فلسطين ولبنان ما أنجزته المقاومة العراقية، ومعها الأفغانية، في معركتها مع المشروع الإمبراطوري الأمريكي والنزعة التسلطية الأطلسية، نستطيع الحديث عن لوحة جديدة بدأت ترتسم في المنطقة ترتكز في جوهرها على المقاومة كخيار وأسلوب وثقافة وفكر، فيما تتوشح جنباتها بألوان الصمود والممانعة. إن ظهور هذه اللوحة الجديدة للواقع سيؤدي بالضرورة إلى انتقال نوعي في حياة منطقتنا، بل وفي حياة العالم بأسره، وهو انتقال نقرأه بوضوح في الأزمات الاقتصادية والمالية والارتجاجات والتحولات السياسية التي تتوالى فصولها على المستوى الدولي عموماً وداخل الولاياتالمتحدةالأمريكية خصوصاً، رغم محاولات الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما استدراك تداعياتها. لقد بات واضحاً أن حقائق المنطقة، لاسيما في مجال الصراع مع المحتل الصهيوني أو الأمريكي، أخذت تميل إلى إبراز فشل أسلوب المفاوضات، وترنح العملية السياسية، لصالح نهج المقاومة وأسلوبها بعد أن أدخل المقاومون الوهن والتأزم إلى كيان الدولة «الأقوى» في العالم، والاهتزاز والترهل إلى مشروع الدولة «الأقوى» في المنطقة. وبات واضحاً أيضا أن المقاومة ليست حركة تحرير للأرض المحتلة فحسب، ولا مجرد جزء فاعل من إستراتيجية دفاعية بوجه أي عدوان فقط، بل إنها مشروع لإعادة صياغة منظومة جديدة للأمن القومي العربي والإسلامي بعد أن تهاوى النظام الرسمي العربي بكل معاهداته واتفاقياته ومنظوماته الدفاعية وتآكلت قدراته، كما إرادته السياسية، بفعل عجز هنا وتخاذل هناك وتواطؤ هنالك. وبقدر ما نجحت المقاومة اللبنانية في ردع العدوان وصون الأمن الوطني لبلدها، فإنها أيضاً شكلت «صمام أمان» قومي للمنطقة بأسرها، الأمر الذي يجبر العدو الإسرائيلي على أن يفكر ألف مرة قبل أن يشن عدواناً على لبنان وسوريا وصولاً إلى إيران. ومثلما نجحت المقاومة الفلسطينية في غزة في الانتصار في أول حرب فلسطينية– إسرائيلية على أرض غزة، بعد أن كانت الحروب إما إسرائيلية – عربية أو عربية– عربية أو عربية– فلسطينية أو فلسطينية– فلسطينية، فإن انتصارها هذا جاء لبنة قوية في مدماك الأمن القومي العربي والإسلامي عموماً، والأمن القومي لمصر بشكل خاص، تماماً مثلما شكل نجاح المقاومة الصومالية في دحر الاحتلال الأثيوبي لبلادها، وهو احتلال أمريكي– إسرائيلي بالوكالة، لبنة ثانية في دعائم الأمن القومي العربي لمصر وهو الأمن المهدد من الشرق، كما من الجنوب حيث التهديد يشمل أيضاً الأمن المائي لوادي النيل بأسره. وبالمقابل، فلو مكّن العراقيون جيش الاحتلال الأمريكي من «الإقامة» مرتاحاً في بلاد الرافدين، ومن تحقيق مشروعه الشرق أوسطي، لكان البيت الأبيض قد بسط هيمنته الكاملة على المنطقة، فإذا أفلت بلد من الاحتلال لا يفلت من الفتنة، وإذا أفلت من الفتنة لا يفلت من الحصار، مما يشير إلى دور باهر للمقاومة العراقية، كالمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، في تشييد بنيان الأمن القومي العربي والإسلامي معاً، وفي امتناع دولنا من السقوط المدويً في عصر الإملاءات الأمريكية – الصهيونية التي لم تنج من مفاعيلها إلا الدول والأنظمة والجماعات والحركات التي انحازت إلى خيار المقاومة والممانعة. لقد أدت هذه التطورات الإستراتيجية بالغة الأهمية إلى تفاقم مأزق الأعداء وإلى فتح كوات للأمل في جدران اليأس والخيبة والعجز التي كانت تحيط بنا. وهذه التطورات تتطلب من الأمة بأسرها أن تعيد الاعتبار للمقاومة، بكل أشكالها، كأسلوب لتحرير الأرض والدفاع عن الوطن، وكطريق لإعادة بناء منظومة الأمن القومي العربي والإسلامي بوجه المحتلين والطامعين والمتلهفين لنهب خيراتنا والمتعطشين لإبادة الملايين من أبنائنا. وإعادة الاعتبار للمقاومة، بعد طول إنكار، تتطلب دعمها ومساندتها بكل وسائل الدعم والإسناد وفي مقدمتها الدعم العسكري الذي بات الحديث العلني عنه محرجاً في ظل أنظمة تخيف شعوبها بقدر ما تخاف من الأعداء. وتتسع المفارقة أكثر حين يتبنى البعض منطق العدو الداعي إلى حرمان المقاومة من السلاح باسم «منع التهريب»، وحين تسارع البوارج الأطلسية إلى ساحل غزة، وقبلها لبنان، لمراقبة «تهريب السلاح»، فيما نجد بالمقابل كبريات الدول في العالم تتباهى في التنافس على تزويد هذا العدو بأحدث أنواع الأسلحة وأفتكها، بما فيها محظورة الاستعمال دوليا، بل فيما يتفاخر العدو نفسه بامتلاكه ترسانة نووية هي بين أكبر الترسانات المماثلة في العالم في زمن لا تتوقف فيها التهديدات لإيران بسبب برنامجها النووي السلمي. فكيف يقبل حاكم عربي أو مسلم أو عادل بمنطق تحريم السلاح على المقاومة، فيما يعتبر تزويد الصهاينة بكل هذا الكم والنوع من السلاح أمراً طبيعياً ومشروعاً لا يحق لأحد الاعتراض عليه أو حتى السؤال عنه. بل كيف أن تقبل أمة بوزن هذه الأمة أن تستخدم الإنفاق السرية لكي يصل الحليب إلى أطفال غزة، والغذاء إلى شيوخها، والكساء إلى نسائها، بل والسلاح إلى مقاومتها، فيما ينبغي أن تكون كل الحدود مفتوحة وكل الموانئ مشرعة وكل الأجواء متاحة لكي يصل الدعم. إن من أبرز دروس ملحمة غزة هي ضرورة إسقاط بند «منع تهريب السلاح» من أي قرار أو مبادرة عربية أو إسلامية أو دولية، والدعوة بالمقابل إلى إسقاط الحصار الإسرائيلي عن غزّة وفلسطين، وإلى منع تزويد الكيان الإرهابي المسؤول عن ارتكاب «جرائم حرب موصوفة» «بشهادة كبار المسؤولين في المنظمات الدولية» أي سلاح جديد، بل ودعوته إلى إخلاء ترسانته من الأسلحة النووية وكل أسلحة الدمار الشامل، وهو بالمناسبة تطبيق للبند رقم 14 في قرار 667 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والذي اتخذ تحت الفصل السابع في ربيع عام 1991 «لتشريع» الحصار على العراق. لقد نص ذلك البند على أنه بعد التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل فلا بد من إخلاء منطقة الشرق الأوسط كلها من هذا السلاح. فلماذا لا يتحرك العالم لتجريد الكيان الصهيوني من ترسانته التدميرية، فيما يتسابق المجتمع الدولي إلى حرمان شعب مُحْتل ومهدد في أمنه من أبسط أسلحة الدفاع عن النفس. إن أي حديث عن منع وصول السلاح إلى المقاومين ضد الاحتلال هو مكافأة للعدوان وتشجيع سافر له، كما هو مشاركة في استباحة العدو لدماء الفلسطينيين واللبنانيين في كل حين، كما رأينا في مسلسل المجازر الصهيونية المتكررة منذ أكثر من ستين عاماً. فهل كانت هناك صواريخ لحماس أو فتح أو أي تنظيم فلسطيني في دير ياسين عام 1948، وفي كفر قاسم عام 1956، وفي قرية والسموع عام 1966، وفي مخيم صبرا وشاتيلا عام 1982، أو في الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1993، أو في مخيم جنين وكنيسة المهد في بيت لحم ومبنى المقاطعة في رام الله عام 2002، بل هل كانت هناك صواريخ لحزب الله في حولا العاملية اللبنانية عام 1948 وفي قانا، وفي المنصوري والعباسية والنبطية ويارين والضاحية الجنوبية وبعلبك والقاع وجسر المعاملتين حتى تم قصفها الوحشي وارتكاب الجرائم فيها، تماما كما كان الأمر في مدرسة بحر البقر المصرية وحمام الشط التونسية. إن الأنظمة العربية والإسلامية ومعها الدول الصديقة في العالم مدعوة إلى مد يد العون بالمال والسلاح للمقاومين في فلسطين ولبنان والعراق وليس التحول إلى «جمارك» و»شرطة حدود» لحماية أمن المحتلين الصهاينة أو الأمريكيين. وليفتح البحر والبر، والجو إذا أمكن، من أجل أن يصل إلى المقاومة سلاح قادر على ردع العدوان، وعلى تخفيف الخسائر الباهظة التي يدفعها أبناء أمتنا من جراء تفوق العدو في موازين القوى العسكرية، وهو تفوق أثبت رغم كل شيء أنه أخذ يتراجع أمام تفوق آخر بدأ يشق طريقه في إستراتيجية الحروب من جديد وهو التفوق في موازين الإرادات.