قامت الدنيا في اليونان، ولم تقعد بعدُ، بسبب اتخاذ حكومتها الحالية قرارا «تقشفيا» مباغتا يقضي بإيقاف بث القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية العمومية لأسباب ترتبط بالأزمة المالية الحالية التي تعرفها البلاد. ورغم توفر المواطنين اليونانيين على بدائل تتمثل في العديد من القنوات الخاصة، المجانية والمؤدى عنها، فإنهم «انتفضوا» بشكل قوي ضد هذه المبادرة غير المسبوقة، ودعت نقابات البلاد إلى إضرابٍ عامٍ احتجاجا على هذا القرار، بل وأدى الأمر إلى تصدّع الائتلاف الحكومي الثلاثي لاتخاذ قرار التوقيف من قبل أحد أطرافه لوحده (حزب رئيس الوزراء المحافظ ساماراس) دون تشاور مع الباقين (حزب باسوك الاشتراكي وحزب ديمار اليساري المعتدل)؛ كما يمكن أن تترتب عن القرار تبعات سياسية لم تكن واردة ولا متوقعة؛ مما جعل بعض المهتمين بمجال التواصل السمعي-البصري يتوقفون عند هذه الظاهرة اليونانية التي تشير -بحسبهم- إلى أن الحق في الإعلام العمومي صار مندرجا، من الآن فصاعدا، ضمن حقوق الإنسان الأساسية التي لا يمكن العيش بدونها، وبالتالي يمكننا أن نتحدث، مع غير ما قليل من المبالغة، عن «انتفاضة التلفزيون» اليوم، تماما مثلما سبق أن تحدثنا في الماضي عن «انتفاضات الخبز» المختلفة. والواقع أن ما حصل في اليونان قد يكون عصيا على التصديق لو أنه طرح كافتراض فقط قبل حوالي ستين سنة، أي في اللحظة التي شرع فيها جهاز التلفزيون في التغلغل بالتدريج ضمن حياة الناس اليومية: ونقول «بالتدريج» لأن هذا الجهاز ظهر في البداية لطيفا وديعا، لا يبث سوى قناة واحدة، بالأبيض والأسود في الغالب، ولساعات معدودة في اليوم، قبل أن «يتغوّل» مع انطلاق البث التلفزيوني الفضائي ثم الضغط الرقمي ليضع رهن إشارة المشاهد آلاف القنوات (العامة والمتخصصة) التي تبث برامجها دون توقف، على امتداد ساعات اليوم، بما يملأ سمع المشاهد وبصره وكامل لحظات يومه وحياته. المشكل أن هذا الغزو لم يعد مقبولا فحسب من قبل معظم المواطنين عبر العالم، بل صار مطلوبا ومرغوبا فيه؛ وذلك رغم تعطيله للعديد من الملكات البشرية والعادات الاجتماعية الأساسية: لقد حولّ التلفزيون الكائن البشري، الاجتماعي بطبعه، إلى كائن «متوحش» منكفئ على نفسه، عازف عن التواصل مع نظرائه من بني البشر، كما خلق لديه وهم إمكانية تعويض العديد من الأنشطة الثقافية والفكرية، من قبيل قراءة الكتب والخروج لمشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية وحضور الحفلات الموسيقية، إضافة إلى عمله على تعطيل ملكتي التفكير والنقد لدى المواطن وتحويله من كائن إيجابي فاعل إلى كائن سلبي منفعل يكتفي بالتفرج على العالم المحيط به بدل أن يستشعر ضرورة الفعل فيه. هكذا، وبدل المشاركة، مثلا، في مظاهرات احتجاجية ضد سلبيات الواقع (السياسي أو الاقتصادي أو التربوي أو الصحي...) صار المشاهد يحس بأنه يقوم بالواجب وبما هو أكثر منه حين يجلس في بيته ويتابع الفضائيات الإخبارية التي تقوم بنقل المظاهرات التي تنظم في مختلف أنحاء العالم وحتى في بلاده هو بالذات؛ كما أن حرص البعض على بث صلاة الجمعة في التلفزيون يغفل طرح السؤال الأساسي وهو: هل الهدف من هذا الإجراء هو حث الناس على الصلاة أم هو دفعهم إلى إبطالها والاكتفاء بمتابعتها كفرجة على شاشة التلفزيون؟ بما يبيّن أن هذا الإجراء لم يتم التفكير فيه بالقدر الكافي، وأن الخضوع ل«سلطة» التلفزيون صار أمرا مشتركا بين عموم المشاهدين وبين أصحاب القرار الذين سعوا في البداية إلى توظيف الجهاز لصالح تعزيز سلطتهم قبل أن يقعوا بدورهم ضحية له ولإكراهاته القاتلة.