بالأمس، كان للشيخات والشيوخ وزن اجتماعي وقيمة رمزية، إذ كان الفن الشعبي يحظى باهتمام زائد من لدن علية القوم وساداته، حيث كانت النخب الحاكمة تستمتع به في مسامراتها، وكان الشيخ ينال من السلطان أو الحاكم مستحقاته بشكل سخي. فهذا المؤرخ الضعيف الرباطي يذكر أن السلطان المولى سليمان أقام سهرة ملوكية، فاستدعى إليها الشيخ الجيلالي الغماري المحرزي، فبات يروح عليه بالقصدان والسرارب إلى أن أتى الله بالصباح فأعطاه مائة مثقال. أما اليوم فقد انقلبت الموازين ودخلت الميدان أجسام غريبة، زادت المشهد نتانة وعطونة، فامتزج الخوار بالثغاء، النباح بالعويل، ضاع الزبد والرغاء، فساد المسخ وتعرض المفهوم للتشويه، ليبدأ التهكم بشكل فاضح وفادح، عبر تحقير الشيخات وتهميشهن، وهو ما أشار إليه الأستاذ الباحث في مجال الغناء الشعبي وفن العيطة «حسن نجمي» حين قال بأنه كان يؤتى بالشيخات من أماكن بعيدة للغناء في المناسبات، وكن يتجشمن عناء السفر لتلبية الدعوة، فيقضين النهار كله في الغناء، وقد يبقين إلى آخر ساعة من الليل دونما إطعام ولا شراب على منصات في العراء، معرضين لقساوة الظروف الطبيعية. إن هذا التعامل الفج واللامبالي ليدل دلالة واضحة على قتل ممنهج لتراثنا الشعبي عامة وللأغنية بشكل خاص، من خلال قهر مبالغ فيه للأداة الناقلة لهذا التراث، وهي الشيخات. إن هذا التدمير الكاسح للموروث الفني الشعبي المعتمد على التحوير حينا والتحريف حينا آخر، قصد تحويله إلى كلام منحط يكرس الضحالة والميوعة الأخلاقية، سيتواصل في تمظهرات هستيرية تقوم بتسليع الجسد بجعله أيقونة مركزية لإثارة الرغبات الجنسية، باللجوء إلى تلفيفه في ملابس ضيقة لإثارة المشاهد، وكأن «الكاميرامان» – وهو يتفنن في تقنية التصوير والعرض – لا هم له إلى تبئير الجسد لتهييج المشاهد حتى يقبل المنتوج ؛ ومن ثمة يصبح صيدا سهلا للإجهاز على ما تبقى لديه من نقاء في الذوق وجمال في الإحساس. فاطنة بنت الحسين : الشيخة الطباعة وأنت تتحدث عن المرحومة الشيخة فاطنة بنت الحسين، تجد نفسك أمام هامة فنية بصمت على مسار متميز في جغرافيا الأغنية الشعبية بكل أنماطها (العيطة، المرساوي، السواكن ... إلخ). فعندما تقف متفحصا هذا الصرح الفني، تخالها رجلا في أنثى أو أنثى في رجل، مظهر يمنحها كاريزما خاصة تنضاف إلى عناصر أخرى لتجعل منها شيخة ذات حضور استثنائي فوق الخشبة وهي تصهل كفرس جموح. تلكم هي شخصية الفنانة بنت الحسين أو «ديفا» الغناء الشعبي كما يطيب ل»إيزة جنيني» أن تلقبها وهي تتحدث عنها إلى جانب فعاليات ثقافية وفنية في برنامج خاص أعدته القناة الثانية حول المسار الفني لهذه الشيخة العياطة، التي حفرت اسمها في أنطولوجيا الأغنية الشعبية بمزيد من الاستحقاق. الشيخة الطباعة وفرس التبوريدة : إن صفة الطباعة التي تميز هذه الفنانة الأصيلة تجعلها على شبه كبير بفرس التبوريدة المتحفز أبدا للركض. فالشيخة الطباعة في وقفتها وهي تغني، والفرس وهو واقف مترنحا في مكانه ينتظر إشارة الفارس للركض، للأنفة والاعتداد بالنفس مقتسمان. فهذه الصورة الرائعة التي تجمع الشيخة الطباعة بفرس التبوريدة كما أشار إلى ذلك الفنان الشعبي «حجيب الرباطي» أثناء حديثه في البرنامج عن الفنانة بنت الحسين، لتدل دلالة قاطعة على أن مفهوم الشيخة له مقومات فنية وجمالية لا تقل أهمية عن مقومات فن التبوريدة، وما يحيل عليه من مجد وعزة وكبرياء، كونت وتكون المرتكزات الأساس في الشخصية العربية وتاريخها الحضاري المشرق، سواء في المشرق العربي أو في الأندلس. قديما كان الشاعر يولد إبداعيا وحربيا على صهوة الفرس، فيدافع عن حوزة القبيلة وحرمتها بالسيف والقلم؛ وفي تاريخ المغرب القريب تجبر «عيسى بن عمر» قائد منطقة عبدة وطاغيتها، فأمر بإحضار الشيخة خربوشة قسرا لتروح عنه في سهرة أقامها، فأبت، وعندما أبت تأسطرت، فتحولت إلى رمز لرفض التسلط وشق عصا الطاعة على الحاكم، الذي يقضي مآربه باعتماد الامتثال لمقولة: «شبيك لبيك، أنا طوع يديك...». من خلاصة ما تقدم، يظهر جليا أن الفرس والشيخة الطباعة في العز والإيباء والشموخ يلتقيان، وللأصالة والجمال رامزان، إذا أخذنا بعين الاعتبار اللباس بالنسبة للشيخة والسرج بالنسبة للفرس. لقد أصبح لمفهوم الشيخة أهمية قصوى، وهو ما جعل منه مادة دسمة لدى بعض الفنانين خصوصا في مجال النحت والسينما. فهذا النحات «محمد العادي» أبى إلا أن يخلد الشيخة خربوشة في عمل فني رائع، مفضلا الاحتفاظ به رافضا بيعه لطالبيه قائلا: «خربوشة ليست للبيع». كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن تنال هذه الفنانة الشعبية الاستثنائية بكل المقاييس اعترافا من لدن أهل الفن السابع في شخص المخرج السينمائي «حميد الزوغي»، الذي أفرد لها فيلما يحمل اسمها: «خربوشة». أليست الشيخة فاطنة بنت الحسين سليلة الشيخة خربوشة/ زروالة شكلا ومضمونا؟؟.