أطلقت «إسرائيل» حربها العدوانية على المقاومة في غزة وفي ظنها أنها ستحصد نصراً عسكرياً وسياسياً خاطفاَ وسَهْلاً، فانتهت إلى حصاد هزيمةٍ معنوية من دون أن تُحْرز شيئاً ذا بالٍ ممّا رامَتْه من العدوان. إنْ شِئْنا تسميةَ حصيلة ما جرى ونتائجَه بدقة، وتعيينَه بالمفردات المناسِبَة والمطابِقة، قلنا إن «إسرائيل» تَلَقَّت هزيمةً أخلاقية فاقَتْ في الخَطْب والفداحةِ والافتضاح سائر الهزائم الأخلاقية التي تلقَّتها سابقاً في حروبها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني منذ سرقت أرضَهُ واغتصبت حقوقه وبدَّدت بالاقتلاع الوحشي أبناءَهُ في الآفاق. فلقد أَتَتْ من أفعال الإبادات ما تنوءُ بحَمْلِه مُضْمَرَات اللغة من معانِ أو دلالات، وما تتواضَعُ أمام فجائِعِه سِيَرُ الإبادة التي شهدها التاريخُ المعاصر. فَعَلت ذلك بدمٍ بارد وكأنها تؤّدي طقساً دينيّاً في صميم الواجبات، وما رَفَّ لقادتها وجنودها جَفْن أمام شلالات الدّم وأكوام الخراب! الهزيمة الأخلاقية، أية هزيمة أخلاقية، تبدأ من نقطة بداية معلومة: انقلابُ الباطل على الحق، وانقضاض القوة العمياء على المبدإ (الأخلاقي والديني والإنساني)، وتحرير القوة من أيّ قيْدٍ أخلاقي أو مبدإ. حين تتحول القوة إلى مبدإ في ذاته، إلى غاية عليا، إلى أخلاقية مُؤسِّسَة أو تأسيسية، تفقد السياسة (والحرب حالة من حالاتها العليا) كلّ خلقيَّة تبرّرها، وتتجرَّد من أية شرعيةٍ أو مشروعية لتتحوَّل إلى عدوانٍ وقَتْل واغتيال. وماذا فعلت «إسرائيل» غير ذلك في غزة؟! في غزة، خرج الوحش الضاري، الجائع إلى اللحم ورائحة الدم والافتراس، من القفص وأطلق نزعاته العدوانية في المدنيين العزل. ما كان يملك الجرأة على أن يدخل إلى المدن، حيث المقاومة تنتظره وتدعوه إلى حرب شوارع لا يستطيعها ولا له فيها بَأس. وبدلاً من ذلك، أشْبَع نَهَمَهُ المَرَضي للقتْل، لمجرَّد القتل والإفناء الذي لا يأتي منه هدفٌ سياسيٌّ أو عسكريّ سوى إطفاء غليل الانتقام. هنا فقط تُصْرَف القوة إلى إشباع الغرائز الافتراسية، إلى تحويل الحقد والكراهية إلى برنامج عملِ سياسيّ. على الفلسطيني أن يموت، أن يُقْتَل بلا رحمة، كي يطْمئن اليهودي الإسرائيلي إلى بقائه. وما هَمَّ إن كان القتيل طفلاً أو رضيعاً، فهذا سيَحْمِل السلاح غداً ويقاوم «إسرائيل» بعد أن يُجْريَ تمريناً على قتالها بالحجارة. وماهَمَّ إنْ كان القتيل امرأةً، فهذه تَلدُ مقاتلين جدُداً وتَحْفِظُ بَقَاء شعبٍ من الانقراض. وماهَمَّ إنْ كان القتيل شيخاً، فهذا نَقَلَ إلى الأبناء والأحفاد جرثومة المقاومة. ماهَمَّ إِنْ لم يكن القتيل مقاتلاً الآن، المهم أن يُقْتَل الفلسطيني كي تبقى دولة «إسرائيل» على أرضه. في لغة السياسة الدولية عبارة «الإفراط في استعمال القوة». وهي اسم حركيّ مهذََّب لفقدان القوة أية شرعية تبرّرها. هل كانت صواريخ «حماس» قبل الحرب تزهق أرواح مئات المستوطنين وتجرح الآلاف وتدّمر مدن فلسطينالمحتلة (عام48)، وتقوّض البنى التحتية، وتخرّب الاقتصاد الصهيوني وشبكات المياه والكهرباء والصّرف الصّحّي، وتدّمر المستشفيات والمدارس والكُنُس، كي تردَّ عليها «إسرائيل» بمثل ما ردَّت في العدوان على غزة؟! لسنا نريد أن نقول إن قوة العدوّ المفرطة ليست تتناسب مع قوة «حماس» اللينة والرمزية، فهذا قول يترك مجالاً فسيحاً أمام اعتراف صريح بحق «إسرائيل» في «الدفاع عن نفسها» كما يقول حماتُها، وأن كلّ ما عليها وهي تمارس هذا «الحقّ» ألا تمارسه بإفراط! وإنما مُرَادُنَا القول إن ما تفعله ليس شيئاً آخر سوى التعبير عن عقيدة القوة لديها. وهي عقيدة لا تلتفت إلى أيّ وازع أخلاقي من شأن الانتباه إليه أن يطوِّق نزعة التعبير الحُرّ والمطلق عن عقيدة القتل. على هذه العقيدة قامت «إسرائيل»، وعلى قيمها شبَّتْ أجيالُها ونُخَبُها وعساكرُها وتشرَّبَتْ ثقافتَها ونظرَتَها ل»الغوييم» (= الآخر) الفلسطيني والعربي، وبها مارستِ السياسة والحرب، وفي كهفها المُظْلِم تعيش، وهي –لامحالة- العقيدة التي ستأخذ «إسرائيل» إلى حتفها. من ينتظرون منها الخروج عن هذه العقيدة واعتناق السلام كمن يطلبون منها الخروج عن اليهودية واعتناق الإسلام! واهِمُون هُمْ وعاجزون عن إدراك معنى المشروع الصهيوني كمشروع اقتلاعي إحلالي لا يستقيم له أمرٌ من غير إفناء الآخر بالقوة العمياء وسفك الدّم. مازال اليهوديّ حتى إشعارِ آخر- بقياسات الزمن الضوئي – يعيش أسير فكرة «الغيتو». وهي فكرة تاريخية سابقة في الزمان للمحرقة: بوقائعها وأزعوماتها. ولعلّها سببٌ يفسّر الضمور البشري للفكرة اليهودية وقلة معتنقيها في العالم على الرغم من أنها من أقدم الديانات في التاريخ وأولى الديانات التوحيدية ظهورا. وكما كانت فكرة «الغيتو» في التاريخ اليهودي مصدرا للانكماش والانعزال والتقوقع على الذات، وإعادة إنتاج الكيانية الذاتية من طريق التمسّك بالتقليد والتمايز عن الجوار والآخر لحفظ «النقاء اليهودي» من اختلاطٍ يقود إلى الانحلال والذوبان في المحيط، فإن فكرة «إسرائيل» (كدولة) أعدت إنتاج عقيدة الغيتو اليهودي في الزمن المعاصر. لا يستطيع الغيتو اليهودي الجديد (أي «إسرائيل») إلاّ أن يعيش منعزلاً عن المحيط وفي حالة عداءٍ مديدة معه. الفلسطيني هو ذلك الآخر المباشر لليهودي الذي تذكّره عقيدتُه – كمسلم وكمسيحي- بيهوديته، أي بتمايُزه وماهيته. وبمقدار ما يشكل ذلك سبباً للتوجُّس الدائم من بقاء ذلك الآخر إلى جانبه، ودافعاً إلى «الدفاع عن الوجود» من طريق مَحْوِ وجود ذلك الآخر، بمقدار ما تُغذِّي فكرةُ «التفوّق اليهودي»-ذات الجذور التوراتية- الشعورَ لديه بشرعية إفناء «الأقل قيمة وصلاحاً» من أجل بقاء «الأصلح»! إن عدم إدراك هذه الداروينية الدينية في المخيال الجماعي اليهودي هو ما يمنع من فهم مضمون عقيدة القوة والقتل في السياسات الصهيونية، وهو ما يدفع الجَهَلَةَ منَّا إلى ثرثرة سخيفة عن «السلام» مع «إسرائيل» وحسبانه في «عقيدتنا» السياسية «خياراً» استراتيجيّاً»! دفَعَتْ فكرةُ الغيتو اليهودي ثمناً إنسانيّاً فادحاً في الحقبة النازية، ونجحت الحركة الصهيونية في استثمار صورة الضحية استثماراً سياسيّاً فعّالاً. ثم لم تلبث أن تقمصت صورة القاتل النازي وتفوقت عليه في نازيته حين حوّلت شعبَ فلسطين إلى ضحية. وعلى الرغم من افتضاح سِرّ «إسرائيل» بجرائمها التي وخزت الضمير الإنساني منذ ستين عاماً، لم تتوقف عن محاولة احتكار صورة الضحية. الضحية الخائفة على نفسها من عدوّ يتربّص بها ويَبْغي محوها من الوجود. الخوف من آخر متعدد الأسماء ولكنه واحد: بالأمس من جيش عبد الناصر ثم مقاتلي ياسر عرفات، واليوم من صواريخ حسن نصر الله وحركة «حماس»، وربما غداً من بنادق الصيد المرخَّص باستعمالها في البلاد العربية. خسرت «إسرائيل» اليوم صورة الضحية في نظر الرأي العام العالمي. تشهد بذلك آلاف المظاهرات التي خرجت في الكرة الأرضية تندّد بجرائمها في غزة، وحناجر وأصوات مئات الملايين التي انتفضت احتجاجاً على المذبحة، وقد كان أكثر من خرجوا احتجاجاً– من غير العرب والمسلمين- في عداد من كانوا صدّقوا «إسرائيل» في أزعومتها عن الضحية. من النافل القول إن هذه الصورة المكذوبة –صورة الضحية- تهشمت منذ ميلاد الدولة العبرية على أرض فلسطين قبل ستين عاماً، إذ قيامُ دولتها هو بحدّ ذاته عدوان واغتصاب وَقَعَ من جلاّد صهيوني على ضحية فلسطينية. وزادت الصورة تهشيماً في امتداد مسلسل جرائم «إسرائيل» ومذابحها: في دير ياسين، وكفر قاسم، وصبرا وشاتيلا، وقانا وجنين، ونابلس وبيت لحم، والخليل، وغزة، وعشراتٍ أُخَر من أمثالها. نعرف ذلك: شاهَدَهُ مَن قبلنا وقرأناه وشاهدنا كثيراً من فصوله في ما عشناه، وسيعرفه الذين بَعْدَنا مشاهدةً أو قراءة. لكن العالم الذي حَمَى «إسرائيل»، وصدَّق أزعوماتها في ما مضى، أضحى يعرفه الآن على نحوٍ فاقع ويرفع الصوت تنديداً واحتجاجاً، ويطالب بمحاكمة «إسرائيل» على جرائمها، ويشكّل لذلك اللجان والشبكات والهيئات. هل من هزيمةٍ أخلاقية للعدوّ أكثر من ذلك؟ في مكانٍ ما من العالم، ثمة من يتذكر جرائم النازية ويبتسم للفارق بين بداياتها السيئة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية ومآلاتها الجنونية والأشدّ سوءاً في حقبتها الصهيونية إلى المعاصرة.