ما سأقدمه ليس تحليلا تركيبيا لكل تفاعلات ودواعي الحرب العدوانية على غزة، واقفا عند مقدماتها وأهدافها ومجريات أحداثها، ومستشفا لآفاقها.. وإنما سأحاول أن أعطي موقفي الشخصي من بعض القضايا التي أبرزتها الحرب في الساحة العربية، وكانت عناوينها الثنائية الضدية مدار صراع أيديولوجي وسياسي وتعبوي في خدمة الأطراف العربية المتناقضة. أما ماعداها، فسأتركه جانبا، بل قد يكون متضمنا بشكل من الأشكال في بطون هذه القضايا نفسها. وأعتقد أن التأمل جيدا في هذه الثنائيات الضدية، سيمكننا مستقبلا من إعادة تركيب الصورة العامة بأكثر غنى وموضوعية وأكثر دقة في استشفاف افاقها. أولا: انتصار أم هزيمة: بعدما «توقفت» الحرب العدوانية، قال المناصرون للمقاومة: إنه انتصار لها وللشعب الفلسطيني. وقال المناوئون: لا، إنها بالأحرى هزيمة!... ولو أنهم في الأغلب لا يجرؤون على البوح بها صراحة مداراة لمشاعر التعاطف التي أبدتها الجماهير مع صمود المقاومة والشعب الفلسطيني الجريح في غزة. ولكنهم قدموا كل ما يفيد بهذا المعنى وما يسوق إلى هذه النتيجة، خاصة، بالتركيز على جانب الخسارات المهولة في الأرواح وعدد الجرحى والدمار الهائل الذي لحق بالبنيات العمرانية والاقتصادية... ومنهم من حمل المسؤولية المباشرة في ذلك للمقاومة وخاصة منها حماس، ضمنا أو صراحة! وينبغي ألا يغيب عنا مطلقا، أن كل الجدل الدائر في هذا الموضوع يتغيا، ويخدم موضوعيا، هدفا سياسيا وايديولوجيا محددا، يتخطى ما يتضمنه الحدث نفسه من نسبية عقلانية، فلا فكاك من ذلك في خضم صراع حاد وفي ظرفية حرب دامية. ولكي أوضح موقفي الشخصي في نسبيته وتموقعه أيضا، استدعي القارئ ليتأمل معي واقعة تاريخية سابقة أكثر تعقيدا، وإن كانت أكثر وضوحا في الظاهر مما جرى في الحرب على لبنان وفلسطين. إذ ليست هذه أول مرة يجري فيها مثل هذا النقاش ويقع فيها مثل هذا الاصطفاف. ومثالي المقصود هنا، هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967. إبانها، لم يشكك أحد في أن الجيوش العربية تلقت هزيمة مذلة وفاضحة. لكن إبانها أيضا، طلع علينا النظام المصري،الذي اعترفت قيادته بالهزيمة العسكرية،بتوصيف آخرلها، جاء التعبير عنه «بالنكسة» بدل الهزيمة. وعرفنا فيما بعد أن هذا التعبير المخفف، كان من إبداعات «حسنين هيكل» الذي أقنع به عبد الناصر. ولاشك، أن ترسيم هذا التعبير تحت شعار «إزالة آثار العدوان» كان يرمز من قبل القيادة بارادة الصمود والتجاوز العملي لواقع الهزيمة، والتي لابد لها أيضا، من أن تكون الأمة في مستوى نفسي معين يتطلع بقدر من التفاؤل إلى المستقبل، غير الشعور بالانسحاق والدونية والعجز الذي أصابها من هول صدمة الهزيمة وكارثيتها. ودار الجدل عميقا في الساحة العربية حول أسباب الهزيمة ودلالاتها، والذي يمكن أن نستحضر تلاوينه الايديولوجية والسياسية المتنوعة والمتناقضة.. لكن الأهم، أن القيادة المصرية بزعامة عبد الناصر لم تكتف بالتخفيف اللفظي، بل صممت العزم العملي علي تهيء مقومات الصمود والمواجهة القادمة. وتلك كانت مأثرتها التاريخية التي أكسبت خطابها وشعاراتها المضمون النسبي العقلاني الفاعل. فهمه البعض، وأساء الظن فيه الكثيرون.. ومنهم قسم واسع من اليسار العربي. وجاءت حرب أكتوبر التي أسس كل مقدماتها ومخططاتها الزعيم عبد الناصر الذي غاب وباغثه الموت فجأة. لكن هذا المجئ جرى في سياق سياسي واجتماعي نقيض لما خطط له عبد الناصر. ومع ذلك، أظهر الجيش المصري قدرته الفائقة على إمكان تحقيق الانتصار وإنجاز التحرير الكامل، لولا ضيق الأهداف السياسية التي كبلته، والتي حددت له من قبل القيادة الجديدة، وذلك ما أتاح للعدو أن يستغلها عسكريا في الميدان، ثم سياسيا في اتفاقية كامب ديفيد. كانت الحرب إذن حرب تحريك لا حرب تحرير. وتفجر النقاش من جديد حول مدى جدية القول بالانتصار. وانتهت الحكاية باتفاقية كامبد دافيد في سنة 1979.. والتي حققت لاسرائيل أكبر ما يمكن أن تحلم به، ألا وهو إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الاسرائيلي، مقابل كسب انتهازي باسترجاع صحراء سيناءوبشروط إضافية حدت من السيادة المصرية عليها، وأضعفت قدراتها على المواجهة العسكرية في أية مواجهة احتمالية. وكانت اتفاقية كامبد دافيد فاتحة لكل الانهيار القومي الذي ترتب عنها، وكل التراجعات التي لحقت بالصراع العربي-الاسرائيلي مذ ذاك الى اليوم. إنها الهزيمة السياسية الحقة والكاملة التي جاءت على متن شبه انتصار عسكري! وتلك هي المفارقة! وما أود استخلاصه من هذا الاستذكار، أن الإشكالية في النهاية لا ترتبط بدلالات الكلمات في حد ذاتها، بل بمضمونها السياسي أهدافا وإرادة وعملا، قد يكون أحسن تعبير عما حصل في العدوان الاسرائيلي الأخير من وجهة ميدانية بحثة هو الصمود.. والصمود القتالي هو أيضا نجاح وانتصار في ميزان للقوى ساحق لصالح العدو، لكن الأهم هو الصمود السياسي الذي كان سببا في الصمود القتالي، وينبغي أن يكون نتيجة له وأساس للبناء عليه. من وجهة قتالية بحثة، شنت اسرائيل حربها العدوانية بغية تحقيق أهداف عسكرية (وسياسية) محددة، وضعتها تحت عنوان تغيير «الوضع الأمني» في المنطقة. وذلك بانجاز الهدفين التاليين، من جهة، تحطيم كل المقومات المادية للمقاومة، عدة وعتادا وقيادة وهيكلية ومن جهة ثانية، إحداث شرخ دامي لا يندمل بينها وبين جماهيرها الحاضنة والمؤيدة. لكن الحصيلة أن أيا من الهدفين لم يتحقق، فلا البنية المقاومة تهشمت، ولا الجماهير في غزة أو في فلسطين أو في كافة الوطن العربي، انقلبت على المقاومة و عادتها. بل إزداد هذا التعاطف والاحتضان، وانضافت إليه هبة شعبية عالمية لم يسبق لها مثيل بعد خفوت وتراجع طال أمدهما. ولقد رأينا كيف جعلت اسرائيل من تقتيل المدنيين وإحداث أكبر تخريب وتدمير لمقومات الحياة البشرية في غزة، هدفا عسكريا مقصودا وممنهجا لانتاج حالة شعبية من الإحباط واليأس والانسحاق النفسي لتستولد ثقافة الهزيمة والاستسلام وروح العداء لأية مقاومة. وهذه هي الوظيفة الأيديولوجية والسياسية التي يقوم بها دعاة القول بالهزيمة والايحاء بها. إنهم يستنسخون هدفا اسرائيليا خطط له قبلا عن وعي ودراية ليتم توظيفه في البيئة العربية. ودون أن يفوتنا في هذا السياق أيضا، أن من أغراضه التالية، تكبيل الإرادة السياسية للمقاومة تحت طائلة الحاجة الملحة والضاغطة لإعادة الإعمار. وفي كل هذه الحالات، فإني لا أخال أن اسرائيل قد حققت الغايات التي رامتها من عدوانها الوحشي، بالنظر إلى الكسب السياسي الشعبي الذي حازته المقاومة وطنيا وعربيا ودوليا، ومع ما أظهرته من صمود سياسي في المفاوضات الجارية التي أعقبت وقف إطلاق النار. كما رأينا كيف ناورت اسرائيل بما أطلقت عليه «المرحلة الثالثة» في عدوانها الهمجي. أقول «ناورت»، لأنها كانت متيقنة من أن كل الطاقة النارية الجهنمية التي صبتها من الجو والبر و البحر، لم تصب أهدافها في شل وتدمير القدرات الذاتية للمقاومة.. ولذلك لم تكن مستعدة لدفع الثمن البشري من جنودها، والذي كان ينتظرها، وتقتضيه المواجهة القتالية المباشرة في دواخل مدن غزة. وهذا ما يفسره تردد القيادة السياسية والعسكرية، وخلافاتها، بعد مكوثها لأيام عديدة، مهدورة عسكريا، في نفس المواقع التي وصلتها دون أن يتجرؤ على اتخاذ القرار التالي. لقد فشلت اسرائيل إذن في إنجاز اهدافها في الميدان.. وهذا ما يعطينا الحق في الصدح بالصمود أو حتى الانتصار.. ورغم ما وجدته اسرائيل في الدعم الحكومي الأوربي والأمريكي، وفي الضعف العربي الرسمي، من مواقف تعوض لها ديبلوماسيا بعضاً من ما لم تستطع إنجازه بقوتها الذاتية.. وهذا هو الفصل الآخر من فصول المعركة التي لم تسدل ستائرها بعد... وقبل أن أختم هذه الفقرة، أريد أن أبدي الملاحظتين التاليتين: الأولى: أن بعض الحداثيين جداً [وأقول جداً!] يأخذون مواقف مسبقة من «حماس» و «الجهاد الاسلامي» لطابعهما الإيديولوجي الإسلامي. وفي مواقفهم تلك اللاموضوعية واللاعقلانية، تفوح رائحة الحقد والكراهية المسبقة، والمنطوية أحياناً عن جهل تام حتى بوقائع الساحة الفلسطينية... وقديما قال لينين: «الحقد موجه سيء في السياسة». ما أود طرحه هنا، أنه ينبغي التمييز بين مرحلة التحرر الوطني ومرحلة البناء الديمقراطي، إن الطابع الإيديولوجي الإسلامي، كيفما كان تقليديا في بعض نواحيه، لا يسقط عن الحركة الحاملة له، إنها حركة للتحرر الوطني. وهي من هذه الوجهة حركة تقدمية كيفما كانت تحفظاتنا الإيديولوجية عنها، بينما المجتمع الإسرائيلي، وليس الدولة الصهيونية وحسب، مجتمع رجعي مادام يساند ويقوم على الاحتلال والاغتصاب والعنصرية مهما بلغت درجة حداثته ودمقرطته الأهلية، مع السؤال الكبير عن طابعهما الديني والعنصري أيضا؟! وقديما قيل «إن شعباً يستعبد شعبا آخر، ليس بالشعب الحر». هل خطابي هذا بتصنيفاته المرحلية التاريخية، خطاب إيديولوجي تقليدي وقديم، لا يناسب العقل الحداثي للقرن الواحد والعشرين؟! قد يكون، إلا أنه من المؤكد أنه يطابق تماماً، ويناسب تماماً، استعماراً استيطانيا واحتلاليا وعنصريا، ينتمي هو الآخر الى العصر القديم، وآخر ما تبقى منه! ثانيا: إن بعض الحداثيين جداً [وأكرر جداً]، أبخسوا وتهكموا على صواريخ المقاومة... وبنفس الآن، حملوها لهذا السبب، ويا للمفارقة، مسؤولية الحرب! أكتفي بالسؤال: إذا كانت هذه الصواريخ على هذا القدر من الهزْل والاستحقاق، فلماذا يا تُرى يتجند الحلف الأطلسي، ويحشد قواه البحرية والجوية لمنع ما يسمونه «بتهريب الأسلحة»، وكأنهم في حرب ضارية مع دولة عظمى؟! لعلهم يدركون (اسرائيل والحلفاء) أن هذه الصواريخ، كيفما كانت نسبية فعاليتها الحربية، فهي تضرب العصب الرخو في الكيان الاسرائيلي المصاب بفوبيا أمنه الوجودي. ولعلهم يدركون أن من يصنع ويأتي بصواريخ قليلة الفعالية التدميرية، سيصنع وسيأتي غداً بأخرى أكثر قدرة ردعية. ولعلهم أخيراً يقرؤون جيداً الرسالة السياسية المقاومة التي يحملها كل صاروخ. وهذا هو الأخطر لديهم. أما عن مسؤولية الحرب، فينبغي أن نتذكر، وبدون العودة الى تسلسل الوقائع، أن اسرائيل قامت باجتياح مماثل سابق في الضفة الغربية، استعملت فيه كل مصادر الدمار لديها بما يشبه ما فعلته في غزة. فقط، لأن ياسر عرفات رفض الاستسلام والتوقيع على اتفاقية كمبدافيد (2002)، فطاله العدوان، وتمت محاصرته هو الآخر، ثم كانت تصفيته مسموماً. وفقط أيضاً، لأن حماس رفضت تجديد الهدنة في ظل استمرار الموت البطيء لشعب بكامله تحت الحصار التام والدائم. إن الهدف الثابت في الحالتين، بصرف النظر عن الذرائع، هو تكسير إرادة الصمود لدى الشعب الفلسطيني وتركيعه لما تريده اسرائيل ولما تراه من «حلول سلمية» على قياس مصالحها... ثانيا: السلام أو الحرب: أقَلُّنا خبرة سياسية ودراية بكواليس الديبلوماسية، يدرك بحدسه أن التوقيت المدروس الذي اختارته اسرائيل لشن حربها العدوانية في الأسابيع الأخيرة لإدارة بوش. وقبيل انتخاباتها التشريعية، كان مرسوما لها أن تتوقف قبل أيام قليلة لتسلم الادارة الأمريكيةالجديدة مسؤولياتها... والأسباب واضحة من ذاتها بما فيه الكفاية. أما الأسابيع الثلاثة التي سُمح لإسرائيل بها، فقد كانت في ظن أصحاب القرار كافية وزيادة لإنجاز كل الأهداف التي رسمت لهذه الحرب العدوانية. وبناء عليه، يمكن أن أجزم، أن لا فضل مطلقاً للديبلوماسية العربية التي لجأت الى مجلس الأمن كخيار وحيد، بعد أسبوعين، وبعد امتناع عن عقد مؤتمر للقمة، في وقف إطلاق النار الذي اتخذته اسرائيل بصفة منفردة بناء على تعهداتها هي وعلى حساباتها في الميدان. هذا مع علم النظام العربي الرسمي، من تجارب مكرورة مع العرب، أن قرارات مجلس الأمن لن تكن قطعا عادلة ولا فاعلة، إذا ما ظل كل ما يملكه العرب على طاولة المفاوضات مجرد الالتماس والرجاء والتعويل على تفهم افلاطوني من قبل الادارة الأمريكية. وبالتالي، وبحساب كل الثمن الغالي والمكلف الذي دفعه الفلسطينيون، قبل وبعد التحرك الديبلوماسي العربي، ألا يحق لنا، بعد كل هذا، أن نحمل النظام العربي الرسمي مسؤوليته الأخلاقية والسياسية في كل ما جرى! ثم فجأة، وبعد التلكؤ والصراع على عقد مؤتمر للقمة بين الدوحة والكويت، واللذين تناولا موضوع تعليق «المبادرة العربية» بين مؤيدين ومعارضين، صار الموضوع في هذه المجادلات خياراً بين السلام والحرب. فالتمسك بالمبادرة مؤداه التمسك بالسلام. وتعليقها مؤداه اختيار الحرب. فهل هذه هي الحقيقة، وهل المسألة فعلا على هذا القدر من التحول الهجومي، أم أن الأمر لا يعدو مجرد تهويل وهروب من مواجهة العجز العربي الرسمي؟ لا يمكننا أن نقبل هذا الطرح إذن، هكذا، بدون تمحيص لمصداقيته. وها هي حيثياتنا: أولا: هل كان العرب فعلا قبل مبادرة السلام في قمة بيروت 2002 في وضعية حرب مع اسرائيل، لكي نصدق أن تعليق المبادرة العربية سيعيدنا لوضع حربي سابق كنا عليه؟ ألم تكن اسرائيل، وحين انعقاد المؤتمر في بيروت، هي التي تخوض حربا ضروساً ضد العرب باجتياحها للضفة الغربية ومحاصرة ياسر عرفات الذي استمع القادة العرب لكلمته في القمة، وهو المحاصر، عبر الشاشة؟! ألم يكن لهذا المشهد الغائر في العجز سابقة أخرى في قمة فاس التي رفعت نفس الراية البيضاء بعد اجتياح لبنان ومحاصرة بيروت وخروج المقاومة بعد صمود طويل لفه الصمت العربي... أبداً، لم يكن العرب في أي وقت [بعد كمب ديفيد] في وضعية الحرب، سواء بمبادرة السلام أو بدونها. ولكن الحرب كانت دائما تداهمهم وتشن ضدهم هنا أو هناك بقرار اسرائيلي وبدعم أمريكي... وفي جميعها بقرار خارجي لا حول لهم ولا قوة عليه.. هذا إن لم يتواطأ بعضهم... ثانيا: من المفترض أن لكل دولة عقيدة عسكرية تقوم على استراتيجية دفاعية إذا ما تعرض أمنها القومي/ الوطني لخطر يهدد سيادتها. فالاستراتيجية الدفاعية هي تحصيل حاصل في أية دولة مهددة بعدو مباشر أو محتمل. فمن العبث إذن التذكير بهذه البداهة، خاصة وأن لا أحد يطالب الدول العربية، مفردة أو مجتمعة، بخوض حرب هجومية لتحرير فلسطين. لكن كل الطلب أن تكون على استعداد للدفاع عن نفسها وعن الأمن القومي في حالة الضرورة... وإلا فإن ما يخفيه هذا التهويل بالحرب والتعذر ضمنا بعدم الاستعداد لخوضها، أن للدول العربية، القريبة والبعيدة، عدداً آخر في أولوية استراتيجية دفاعية أخرى، غير اسرائيل. وهذا هو واقع الحال فعلا. وإلا، ثانية أن تلك المشتريات الضخمة من الأسلحة الرفيعة التي تقتنيها بعض الدول العربية بملايير الدولارات هي مجرد جزية مالية تدفعها هذه الأنظمة لجهات حليفة هي المعول عليها في حمايتها. وهذا هو واقع الحال فعلا، وإلا، ثالثة أن بعضها لا يستطيع حرية الحركة لأنه مكبل بمعاهدات ومصالح لا تجيز له، ولا تسمح له بهذا القدر من الاستقلالية. وهذا هو واقع الحال أيضاً. ثم، ألا يدفع واقع أن اسرائيل هي التي تقرر الحرب، وهي التي تبادر بشنها، إلى التعجيل بعقد اتفاقية دفاع مشترك على المستوى القومي بعدما تم التخلي عنها لسنوات خلت، وتكون هذه أول خطوة دفاعية في مواجهة كل الاحتمالات؟ ثالثا: من قال إن تعليق العرب لمبادرة السلام مع الإبقاء على تمسكهم بتطبيق قرارات الشرعية الدولية الخاصة بفلسطين والأراضي العربية المحتلة، والتي لم تر النور قط، يعني إعلانا للحرب. من أين لنا بهذا الاستنتاج اللامنطقي، والذي لا يستند على أي عرف دولي..! قد نتفهم أن الإبقاء على المبادرة العربية هو نوع من الليونة المفيدة سياسيا لحين أن يتبين النهج الذي ستتخذه الادارة الجديدة للولايات المتحدة، حتى ولو كنا لا نحمل أي وهم على ما سيكونه الدور الأمريكي مستقبلا ضمن ثوابته التقليدية في دعم اسرائيل وإعلاء شأنها فوق الشأن العربي. أما الداعي الأساسي لهذا التفهم، ليس أكثر من الحفاظ على حد أدنى من التضامن العربي من أجل الرفع به لما هو أفضل. ومن أجل هذه الغاية لا أكثر، ينبغي ان يكون لهذا التمهل سقف زمني محدد، وأن تكون البدائل السياسية والديبلوماسية والاقتصادية جاهزة جماعيا ومتفق عليها.. و إلا استمر العجز العربي قائما، واستمرت مفاوضات السلام في دوراتها السيزيفي، بينما تقوم اسرائيل بافشاء وثتبيت الوقائع على الارض، وتكون مبادرة السلام في النهاية هي الجسر الذي أمده العرب بايديهم لاضفاء الشرعية الدولية على الاحتلال الاسرائيلي وللمزيد من التطبيع العربي معه... وهذا ما جرت به الاحداث والوقائع الى اليوم. ثالثا: العمق العربي او العمق الاسلامي من مظاهر اللاعقلانية في السياسة العربية الرسمية هذا التضاد الذي بدئ في الدفع به وتضخيمه وتوتيره بين العمقين العربي والاسلامي. ولقد تساءلنا في الفقرة السابقة، اذا ما كان هذا التهويل بالحرب، يخفي اولوية استراتيجية دفاعية، غير اسرائيل، واكدنا على ذلك بالايجاب، وهذا ما نتبينه من التهويل الفعلي الذي يتهيأ له كل التحشيد العربي الرسمي، ليتم توجيه الانظار اليه وتركيز كل الضربات الاعلامية عليه، بدل العدو الواضح والمكشوف، اسرائيل.. والمقصود هنا، ايران، او الخطر «الفارسي الشيعي» كما يفضل القول دعاة هذا الاستنفار. يحار المرء في البحث عن مبرر معقول لهذا الاستعداد ذي الاولوية لدى بعض النظام العربي الرسمي غير التحجج بتزايد «النفوذ» الايراني، مع ما تحمله كلمة النفوذ من شتى المعاني الغامضة من السيطرة والاحتلال الى «التحالف الايجابي» ضد عدو مشترك. وضدا عن شرعية ان تبحث كل دولة ومنها ايران عن تأمين مجالها القومي في الجيوبوليتيكي. ثم لماذا لا تخشى تركيا، الجارة لايران والبلد المسلم السني، بهذا التهديد النووي المحتمل او غيره كما يرتعب منه بعض العرب. او على الاقل، لماذا تتصرف بنفس الذعر والاستعداد، كما يتصرفون؟ كيفما فتشت عن الاسباب في جميع وجوهها، فانك لن تجد، من وجهة المصلحة القومية، سببا مقنعا يدعو بعض العرب الى تضخيم التناقض مع الجمهورية الايرانية الاسلامية، بعدما كان هذا البلد الفارسي الشيعي طيلة زمن الشاه صديقا وحيلفا مهابا، كما كان صديقا لاسرائيل، سوى أن النظام الاسلامي الجديد بايديولوجيته - الدينية «الشعبوية»، والنابع من ثورة شعبية استثنائية في المنطقة، ينافس كل الشرعيات الدينية المحافظة التي تقوم عليها جل الانظمة في الشرق العربي. وسوى ان الارتباط العقائدي للثورة الايرانية، شعبا ونظاما، بالقضية الفلسطينية، لايزال يحتفظ على حيوته واندفاعيته وراديكاليته في معاداة الكيان الاسرائيلي. ولاشك في ان هذين العاملين لايزالان يؤطران الاستراتيجية الجيوبوليتيكية الايرانية. الشئ الذي يستفز مخاوف بعض النظام العربي الرسمي القائم على غير هذه الطبيعة الايديولوجية والسياسية. ورغم اللبس الطائفي الذي يضمره هذا التناقض (بين السنة والشيعة) بمخلفاته التاريخية، والذي جرت محاولات لاستثماره، فانه يظل في الجوهر تناقضا سياسيا واستراتيجيا بالدرجة الاولى. فمهما اختلفت البنية الصلبة المذهبية للايديولوجيات الدينية، فانها تخدم السياسة وتتغير مراميها بتغيير استهدافات الاخيرة. ولذلك رأينا، بعد فشل محاولات التعبئة الطائفية (اطروحة الهلال الشيعي)، كيف ان الحرب على غزة قد وحدت الموقف في اعلى درجة له بين الحركات الاسلامية المعارضة عموما، السنية في اغلبيتها، وبين النظام الايراني في جبهة ممانعة مشتركة.. جعلت بعض النظام العربي الرسمي يعقد اجتماعا طارئا لوزراء خارجية عشر دول عربية في أبو ظبي، لتجميع القوى وتعبئتها ضد ما يعتبره تدخلا ايرانيا سافرا في الشؤون العربية. وهذا في اوج الصراع مع اسرائيل. وكأن لاحق لايران ان يكون لها موقف وفعل، وهي بنت هذه المنطقة والاكثر عرضة لانعكاسات تطوراتها، بينما لامريكا ولاوروبا كل الحق في ذلك. وكأننا ايضا امام تخل عن «اسلامية القضية والقدس في صلبها». لقد تمازج هذا الموقف، القديم الجديد، من بعض النظام العربي الرسمي مع استراتيجية الولاياتالمتحدة، والغرب عموما، والتي ترى الصراع في المنطقة صراعا مع ايران الداعمة للارهاب (اي للمقاومة) والمزعزعة لاستقرار المنطقة، والمهددة للكيان الاسرائيلي في وجوده. وسهل لاسرائيل ان تقدم نفسها كحليف للعرب المعتدلين ضد هذا العدو المشترك لهم ولكل المجتمع الدولي. فغدا الاحتلال والهمجية الاسرائيلية فرعا ثانويا في هذه الخريطة الجيوبوليتيكية،حيث عائق السلام الوحيد هو ايران. في الخلاصة، فاني لا أرى اية مصلحة قومية في هذا الاستعداء لايران حتى وان كانت العلة في هذه المرة الدور المشبوه او المتواطئ مع الاحتلال الامريكي للعراق. فاللوم كل اللوم على النظام العربي الرسمي الذي فتح كل ابوابه لهذا الاحتلال، والذي مارس خلال الحرب العراقية الايرانية نفس استراتيجية الولاياتالمتحدة في الاحتواء المزدوج، تشجيع العراق ودفع الطرفين لانهاك بعضهما، وعندما وضعت الحرب اوزارها واحتاج العراق لمشجعيه، تخلى عنه الجميع اما عن تناقضات العراق اليوم. فسنحتاج لوقفة خاصة. اللافت في هذه الحرب العدوانية الدور التركي المميز والايجابي، شعبا وحكومة وبصرف النظر عن التفسير السياسي الآني لهذا الدور، فاني اعتقد ان الموقف التركي يدفع بنا الى التفكير فيما هو ابعد. ومن بينه الاستنتاج التالي: -التاريخ السياسي لتركيا بعد اتاتورك الذي اقام الدولة العلمانية، يبين كيف ان الاسلام ظل هو المحرك الاقوى لثقافة ووجدان الشعب التركي. بل شكل تظاهرات حزبية لعبت ادوارا بارزة في الحياة السياسية، و اعادت غير ما مرة صياغة النظام العلماني لكي يتلاءم اكثر مع هذه الحقيقة المتجذرة. واخر هذه التظاهرات حزب العدالة القائم على مقاليد الحكم اليوم. ويفيد ذلك، ان العلمانية لا تلغي الدين كما يتوهم بعض العصابيين، وكما هو سائد لدى شعوبنا العربية. بل هي تساعد فقط على التطور الديمقراطي وعلى النهوض الاقتصادي الاجتماعي والتجربة التركية رغم ما مرت به من مظاهر الاستبداد «العلماني» في فترة اتاتورك او ما بعدها ورغم التخلف المزمن الذي كانت عليه، تبدو تجربتها الديمقراطية اليوم قد استقرت وأمست بغير حاجة لرقابة العسكريين وتدخلاتهم.. كما ان الوضع الاقتصادي - الاجتماعي قد شهد تغيرات نوعية عما كان عليه من تخلف مزمن في بدايات التجربة. وبعد كل ذلك، هاهو التاريخ الحضاري الثقافي الاسلامي غائر وقوي بل وارقى مما كان عليه ثقافيا. ان تذكير رئيس الحكومة في حديث له بالاسلاف العثمانيين لتركيا داخل قبة البرلمان. وابان حرب غزة له دلالة عميقة في السياق، خاصة وان تركيا تشدها بعض الرياح و المصالح الى الغرب. كما انها عانت كثيرا من محاولات سلخها عن ارتباطها المشرفية حيث جذورها اعمق واقوى. ولعل في هذه الحقيقة ما يذكر بعض الغافلين من بين ظهرانينا، فتبينوا ان لا أفاق للتحايل على تاريخنا الحضاري العربي - الاسلامي - الحي والفاعل والغائص في وجدان شعبنا، لا بمستقبل «متغرب» موهوم، ولا بالقفز عليه الى تاريخ سحيق وميت. رابعا: التسوية او المقاومة منذ هزيمة 67 وفصائل المقاومة المتصارعة فيما بينها تطارد ما نسميه بالنهج التسووي التصفوي لقضية الشعب الفلسطيني. ولقد رفع بعضها هذا التناقض الى مستوى التناقض الرئيسي مما قاد الى احترابات داخلية واخطاء سياسية فادحة اتجاه بعض الانظمة العربية. كان ذلك مع نظام عبد الناصر القابل بقرار مجلس الامن 242 و بمشروع روجرز واذا كان التاريخ قد اعطى الحق لهذا التوجس ابان عهد السادات، فانه كان خطأ تاريخيا فادحا في المرحلة الناصرية، اضعف قوى التقدم في حينها، ناهيك عن ما صاحبه وتلاه من اخطاء أخرى في الاردن ولبنان وغيرها. وكان ذلك مع ياسر عرفات ولممثله في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني. ربما استدركت جل تلك القوى المناوئة له الامر بعد ان رفض ياسر عرفات التوقيع على ماجاؤوا له به في كمب دافيد، لكن المنطق نفسه مازال حيا مع خلفه ومع السلطة الفلسطينية وبالتالي (مع فتح). التسوية التصفوية غير ممكنة في الساحة الفلسطينية بوجه خاص، على الاقل، لسببين من جهة، ليس لاي جناح تسووي قاعدة اجتماعية شعبية عريضة، تمكنه من ان يمرر هذه التسوية التفريطية بحق اللاجئين في العودة والقدس العاصمة للدولة المستقلة. وهما العائقان الرئيسيان امام اية تسوية ادنى غير تفريطية. ومن جهة ثانية، ليس في المجتمع الاسرائيلي قوة تريد أو هي قادرة على إنجاز تسوية في حدها الادنى، فالمجتمع الاسرائيلي مشبع حتى التخمة بالروح الاستعمارية الاستيطانية. إنها اذن مطاردة «لخيط دخان» بتعبير الشاعر نزار قباني، الا أنه لاينبغي ان يفهم من منطقنا هذا، أنه محكوم بنزعة وضعية جافة ومطلقة. فالميولات، والنزوعات، والارادات، والخلافات والصراعات لها بالتأكيد ادوارها، على أقل تقدير، في تبديد الطاقات وتضييع الفرص وتعطيل قوى التقدم والتحرر. إنما، وعلى هذا الصعيد، ينبغي ان يكون تقديرنا منسقا مع إمكانيات الواقع الموضوعي، فلا نسقط في أحكامنا، ولا نرفع من خلافنا الذي سيظل موضوعيا خلافا في «إدارة الصراع»، لنحوله الى تعارض بين نهجين متوازيين ومتناقضين تناقضا رئيسيا. اما من حيث التعاطي مع الدول العربية، فبالرغم من كل المعاهدات المبرمة سواء كمبد دافيدمع مصر او وادي عربة مع الاردن، وبالرغم من كل الميولات التسووية لمصالح طبقية وقطرية وارتباطات دفاعية مع الغرب، فإن التجربة تؤكد لنا، ان هذه المصالح وهذه الميولات ليست ثابتة وجامدة ونهائية على صعيد الموقف السياسي، لأنها من جهة، مقيدة بموقف الشعب الفلسطيني وبإمكانية التسوية العادلة التي سترضيه. ولأنها من جهة ثانية، مقيدة أيضا بضمان استقرارها السياسي وبالتوازنات الداخلية لمجتمعاتها وبتأثيرات تناقضات النظام العربي الرسمي. ناهيك عن ان استمرار التوتر في المنطقة على حساب المصالح العربية يهدد أمنها جميعا. ولنا في التجربة التاريخية شاهد على ذلك، وعلى سبيل المثال دخول النظام الاردني حرب 1967. وتآلف كل النظام العربي في حرب اكتوبر. ويمكن ان نضيف انفتاح كوة جديدة في قراءة الراهن العربي من شأنها ان تدعم هذا الرهان، سواء لجهة انعكاسات الازمة الاقتصادية العالمية التي من المرجح ان تكون مديدة على أوضاع البلدان العربية، وخاصة دول الخليج، بعد ان سيطر مناخ ثقافي - سياسي على نخبها الحاكمة في فترة البحبوحة البترولية، يؤدلج الحداثة والتنمية الاقتصادية لأولوية على حساب التحرير. وسواء لجهة تراجع الوزن السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في الافاق المنظورة، مما سيسمح للنظام العربي عموما بحرية اكبر في الحركة وباستقلالية اوسع في اتخاذ القرار القومي. عندما أعلن عن اتفاقية اوسلو(او اعلان المبادىء في 1993) في ذلك المشهد الدولي الذي جمع بين كارتر وعرفات ورابين. ماكان بوسع العديد منا الا أن يتفهم ايجابا هذا الاتفاق، رغم ما احتواه من سلبيات عسيرة الهضم.. لدواع كثيرة، وأهمها، الانقلاب النوعي الذي حدث في ميزان القوى العالمي والعربي... من جهة سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة العالمية... ومن جهة حرب الخليج الثانية التي أدت الى حصار العراق واخراجه من معادلة الصراع العربي الاسرائيلي. ومن جهة أخرى، عزلة المقاومة الفلسطينية عربيا على اثر الموقف الذي اتخذته من حرب الخليج. اضافة الى قبول كل الدول العربية بمؤتمر مدريد الذي طرح شعار«الارض مقابل السلام»، وانخراطها جميعا في اختياراته ومسلسله. كل هذه الشروط كانت تسوغ لنا عقد تسوية آنية لاتغلق الباب امام الوصول الى تسوية عادلة لصالح المشروع الوطني، خاصة وان هذا المشروع سيتيسر له إقامة بنياته على أرض الاحتلال بدل الانتقال غير المستقر في الاراضي العربية والخضوع لاشتراطاتها. كان هذا التقدير ينبني ايضا على أن للقضية الفلسطينية خصوصية تميزها عن كل حركات التحرر الوطني الاخرى، تتمظهر في أن منسوب التأثير الخارجي في مسارها اكبر بما لا يقاس من مختلف تجارب حركات التحرر الوطني الاخرى. لكن عندما نسمع اليوم بعد 15 سنة على اتفاقية اوسلو، وبعد التغييرات الاجرائية التي أحدثت عليها في دهاليز المفاوضات (خطة الطريق وغيرها)... عندما نسمع تصريح رئيس السلطة الفلسطينية يقول عن الانتخابات الاسرائيلية التشريعية القادمة، انه يرفض العودة الى الوراء في أي مفاوضات مع الادارة الاسرائيلية القادمة، يستحوذ علينا الذهول والتساؤل: ماذا تحقق فعلا في كل المفاوضات السابقة؟ الواقع على الارض بعد عقد ونصف يؤكد ان الاحتلال ماض في فرض سياسة الامر الواقع: 1) جدار العزلة العنصري. 2) مضاعفة المستوطنات في 40 % من الاراضي المحتلة. 3) تقطيع اواصر الضفة في عيتوات 4) تهويد القدس 5) المعتقلون بالالاف من بينهم قيادات وبرلمانيين. 6) حصار غزة والتحكم في كل المعابر. 7) الاجتياحات المتكررة مع التقتيل والتدمير. 8)الانتخابات التشريعية الاسرائيلية القادمة قريبا لا تبشر بأي خير للفلسطينيين ولعملية السلام. كل هذا يسوق الى أن حصيلة التسوية في مأزق لامخرج له. فهل يؤدي ذلك الى إلغاء اتفاقية اوسلو ونهج التفاوض، وان طريق المقاومة المسلحة هو الطريق الوحيد القويم؟ - حقيقة، سيكون من الخبل والهراء السياسيين الدعوة الى فك السلطة بكل اعتواراتها والناتجة عن اتفاق أوسلو، بل العكس هو الصحيح، اي الصراع من أجل تعزيزها وتقويتها وكسبها اكبر إمكانيات السيادة. ولا فائدة سياسية بالتالي من تكرار الشتائم واللعنات على اتفاقية غدت بقدر ما أمرا واقعا من هذا الجانب على الاقل، والذي يمكن البناء عليه، بتعزيز القدرة التفاوضية والادارة الجيدة لهذه المعركة. اذ من حق السلطة الفلسطينية ان تعيد النظر في أي اتفاق تطبيقي اجرائي لا يناسب مصالحها الوطنية، كما تفعل اسرائيل. ومن وجهة موضوعية، فإن نظرة شمولية لمحصلة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لايمكنها ان تبرىء المقاومة من هذه الحصيلة السياسية المتواضعة. فالمستوى الذي عليه الكفاح المسلح اليوم، على ضرورته وأهميته، هو اقل بكثير من ان يفرض على اسرائيل تراجعا سياسيا جذريا، ناهيك عن ان الانقسام السياسي داخل الشعب الفلسطيني وبين فصائله يزيد في إضعاف نتائجه السياسية. والخلاصة اذن: ان المشروع الوطني الفلسطيني مطالب بتركيبة متوازنة في استراتيجية جماعية موحدة بين كل أساليب النضال، المفاوضات، والمقاومة المدنية، والمقاومة المسلحة، كسب أولويات النضال الملموسة التي يتطور اليها الصراع وموازين القوى العامة والخاصة، مع الوعي ان إمكان تسوية عادلة تلبي البرنامج المرحلي في الدولة المستقلة وعودة اللاجئين غير واردة في الزمن المنظور الا بتغيير مصاحب في الوضع الدولي والعربي. وأظن ان برنامجا نضاليها موحدا لكل فصائل الثورة الفلسطينية متوفرة عناصره في اتفاقات سابقة (اتفاقات القاهرة في 2005 واتفاق مكة، وورقة الاسرى... الخ) ومحاورها الكبرى واضحة. - اعادة بناء هياكل منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة النسبية الدمقراطية، ارجاع الاعتبار لدورها القيادي كممثل وحيد للشعب الفلسطيني. تشكيل حكومة وطنية (او حكومة وفاق) من مهماتها الراهنة رفع الحصار وإعادة الإعمار والاشراف على انتخابات رئاسية وتشريعية في السنة القادمة. وضع استراتيجية وطنية جامعة وموحدة بناء على كل الاتفاقات السابقة