«إن العيش في هذا العالم ينطوي على خطورة كبرى، ليس بسبب هؤلاء الأشخاص الذين يمارسون الشر، ولكن بسبب الذين يقفون جانبا، ويتركونهم يفعلون ذلك». ألبرت إنشتاين ماذا نسمي أشخاصا ملفوفين في عباءات بائسة، مدججين بلحى وأسلحة وشر مستطير وجهالة جهلاء ونزعة عمياء، وهم يطاردون فتيات غضات، طريات العود، متوجهات عبر الحافلة نحو المدارس من أجل العلم والمعرفة.. من أجل النور والفرح، إذ العلم فرح ونعمة؟ يطاردونهن مستهدفين إياهن بالرصاص الحي القاتل، وببرودة الموتى، برودة من توقف نبض الحياة في أجسامهم وتعطل ناقوس الضمير في عقولهم؟ بماذا نصف هؤلاء القتلة، الذين ينزلون من الجبال الوعرة ويخرجون من الشقوق والكهوف وثنيات الصخور والأحراش والفجاج؟ هؤلاء الذين يرددون -دون إعياء ودون تفكير ولا وعي، كالمسرنمين- التكبيرة والتهليلة، وهم يسددون الرصاص ويذبحون الناس من الوريد إلى الوريد باسم الإسلام، والإسلام مما يفعلون براء؟ إنهم يتعالون على أي وصف وتوصيف ويتسامون على ظهر الطغيان والرّهبوت والدم، حتى إن اللغة تعجز عن تسميتهم وتصنيفهم وإلحاقهم بالآدمية أو بالحيوانية أو بأوضع من الحيوانية مرتبة ودَرَكا..؟ فتاة غضة أزهرت وأينعت بالتربية والتعليم وأدركت، من ثم، أن السبيل السالكة إلى عنفوانها وإنسانيتها ومعانقة كينونتها تكمن في طرْق أبواب المدارس للنهل من حياض المعرفة، لِلْعَبِّ من مائها وللارتواء من زلاله وسلسبيله، لتغذية الروح والسمو بوجودها وانوجادها، بمن هي، ومن تكون، بجوهرها الإنساني الذي لا يسفل البتة ولا ينحط قياسا بالجوهر الإنساني لقسيمها الذكر. لم تقصر ديانة، أي ديانة، العلمَ على الذكور دون الإناث. كما أن الأمر العظيم الخالد في سورة العلق -أول آي القرآن الكريم- (اِقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اِقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم...)، لا يتوجه إلى نوع وجنس ولون إنساني محدد. فمن يكون الإنسان غير الإناث والذكور مجتمعين، منصهرين، رافعين صرح المدنية، مُعْلِين سلم الحضارة ومرتقين أدراجها سويا، رغم إبعاد المرأة في محطات وتواريخ متتاليات أو متباعدات. إلى من يُوَجَّهُ الأمر؟ إن لم يكن إلى صانعي الحياة وبُنَاة المجتمعات، رجالا ونساء على حد سواء. يعاند ويكذب كل من يدعي أن الحضارة بناء ذكوري بَاتْرْيَارْكِي بالتعيين والتحديد، وإلا فما دور النساء، ما علة خلقهن، وسر وجودهن إن لم يكن الرفد والتعاون والإنشاء والتشييد، بالتعهد والتنشئة والتربية والتوجيه والحب الغامر والحنان الشامل؛ فالعظيمات والملكات والشاعرات والفيلسوفات والعالمات يملأن تاريخ الإنسانية ومسار البشرية منذ ليل الحضارات، رغم إغماط هذه الحقيقة وحجب فتوحات نسائية مبهرة في ميادين معرفية وفنية وعلمية شتى. في باكستان، في شبه القارة الهندية، في أفغانستان، في بعض أمصار الشرق الأوسط وبعض دول الخليج ودول إفريقيا المسلمة، حال المرأة مؤلم ومحزن، يبعث على الغيظ والحنق، لما تتعرض له من سحب وتغييب وقهر وقتل، جراء الأمية المستشرية في هذه المجتمعات، وجراء الجهل المركب الذي يقضي بتحجيب المرأة، بتغليفها لأنها عورة، بإبعادها -ما أمكن- عن مواطن القراءة والعلم، لأنها ما إن تتعلم وتتفقه في أمور الدين والدنيا حتى تصبح خطرا (كذا)، يهدد المشيئة الإلهية ويعطب الذكورة والفحولة وينال من الرجولة التي قَصَرَ الله عليها -ك«جَنْدَرٍ» سام ومتميز- العلم والقيادة والريادة. كل ذلك يساق باسم «الدين الإسلامي»، باسم النص القرآني المقدس والحديث النبوي. والحال أنك لو نَبَشْتَ لوجدتَ أن وراء هذه التعميات والتُّرهات والأكاذيب المؤيدة بالدين، تشريعات إنسانية واجتهادات فقهية بشرية وتأويلات تخطىء وتصيب، لا أقل ولا أكثر. رفعت «ملالا يوسف زاي» التحدي عاليا، منذ تدويناتها الرهيفة على شبكة الأنترنيت في سن الحادية عشرة من عمرها، حيث شرعت، بعد أن فطنت إلى حقها في العلم والتعليم وحق بنات وأخوات لها في عرض باكستان وطولها، «تناوش» منتصرة لكيانها وكيان بنات جنسها، مدركة أن الذهاب إلى المدارس هو المخرج من عهود الحِجْر والسجن والقهر والموت، وهو المفتاح لولوج عتبة القرن، بما يعني عتبة حاضر ومستقبل الإنسانية التي ما فتئت تغذ الخطو وتَسْعى إلى العدل والحرية والكرامة والعيش الكريم. نعم، كانت للأسرة اليد الطُّولَى في هذا الوعي الرائع، الطالع من عقل يتشكل، ووجدان يتيقظ، وجسد ينتشي ويفرح؛ ذلك أن ملامسة خشب المضمار وتفكيك الأبجديات الأولى التي تصنع الحياة مدعاة إلى الفرح، مدعاة إلى الانتشاء، ومهماز ناعم إلى الحراك والجهر بالحق/بالحقوق، واطِّرَاح «الشادور» الخيمة المتنقلة، رمز الثقل والسواد والعجز، والقيود المجرورة. الشادور واللحية المؤدلجة رمزان للبؤس بما لا يقاس، حِجْرٌ «جاهلي» بالمعنى الصلصالي، على التنفس، وتَنَشُّقِ الهواء، كابوس يومي جاثم على إرهاصات الحلم ومخاييل الوعد والبشرى. بهذا المفهوم، تكون ملالا يوسف قد صنعت مجد المسلمة العالي، مجد أن تكون، وأن تحطم الأغلال وتثقب سجف الظلام بالعناد العلمي والإصرار المعرفي والتشوف الإنساني والتوق الآدمي إلى المساواة التامة والعدالة الكاملة والحرية المدهشة المبتغاة، وبذلك تكون أيقونة عالمية لحقوق الفتيات في التعليم. لم تخرسها الرصاصة التي خَرَمَتْ رأسها، فتركتها مجندلة، تترنح معلقة بين الحياة والموت. لقد سمع أكتوبر في عام 2012 طلقات غادرة، مأفونة عمياء، من قِبَلِ مجموعة لم يضع الإسلام حبة خردل ولا مقدار ذَرَّةٍ من عطف وشفعة في قلبها. اتجهت (اتجها- يقال كانا اثنين مُحَرَّضَيْنِ..)، بدموية الذئاب الجائعة وعطش الكلاب المتوحشة الجرباء، إلى حافلة ينشد أن يكون له موطىء قدم تحت الشمس ومكانة لائقة محترمة بين دول وأمم العالم. غير أن إرادة الحياة تقهر خفافيش الظلام، أولئك المقنعين، المتسترين خلف لحاهم الوسخة وأسمالهم العفنة وعمائمهم الزنخة الرثة، المندمجين بشكل صفيق مع جهالتهم، وظمئهم المعلن دوما إلى شرب الدم ولَعْقِ جراح الضحية، ولِمَ لاَ، أكل كبده، إسوة بهند بنت عتبة؟ فلهذه اللوحة التي تتكرر في باكستانوأفغانستان، وأخيرا في سوريا، تاريخ «مجيد» من الوحشية السافرة والحيوانية المنحطة والشر المستطير والفظاعة التي تخطت الحدود، الفظاعة التي بلا ضفاف. كان للجريمة صداها، ذلك أن رَدَّاتِ أفعال عالمية أدَانَتْ العملية الإرهابية وشجبتها. وبقدر ما لحق الشجب والخزي مرتكبي الجريمة المُبَيَّتة، تطاير الشجب إياه واصلا إلى الإسلام، وتلك هي المصيبة، إذ بجريرة وجرائم هؤلاء المأفونين، الموزعين كالجرب والجرذان، على جنبات العالم، يدان الدين ويلحقه ضرر وتموقف من هذه الجهة أو تلك ممن يتحينون الفرص ويهتبلون السوانح ليحملوا ويتحاملوا على الإسلام، وعلى نبيه الكريم الذي كان قدوة في الحب والتسامح والتعايش مع أهل الكتاب. في الدول التي ذكرناها في صدر المقال، تتعرض الحقوق والحريات إلى الدوس والوطء الغليظ بجزمات الجهل والإسلاموية. ولعل حرية المرأة وحقها في التعليم أن يكونا على رأس الحقوق التي تحاربها الجماعات الإسلامية المتشددة الموتورة. هكذا، يتعرض مُؤَيِّدُو تعليم الفتيات في كل مكان إلى التهديد بالقتل والاعتداء، وتتعرض مؤسسات تعليمية كاملة للنسف والحرق والهدم، وَمَا هَمَّ أن تكون مدارس خاصة بالإناث، إذ إن المسألة تغوص أبعد.. حيث تضرب الحق في القراءة والكتابة، وتؤكد اليقين المرضي لهؤلاء في دونية المرأة باعتبارها سقطا وفضلة وكائنا ملحقا في أحسن الأحوال. فمسلحو طَالِبَانْ الباكستانيون دمروا، على سبيل المثال، نحو 200 مدرسة في «سوات»، ويتربصون بمدارس أخرى إلى حيث تختلف الفتيات. وعلى خطورة ما يقترفه الاستئصاليون الطالبان وبشاعة ما يرتكبونه من جرائم مختلفة، كالسَّحْلِ والضرب المُبَرّح والطمر والرجم ورمي البنات بالحمض الحارق لتشويه جمالهن، فإن الإصرار على التعليم والتثقيف يتواصل بشكل يدعو إلى الدهشة والانبهار والإعجاب، إصرار نساء على أن يَنَلْنَ قسطهن من العلم والمعرفة لينخرطن في الحياة؛ فالتلميذات والطالبات في الكلية الإسلامية العامة في «بيشاور» يعتبرن ملالا مصدر إلهام لهن ومصدر اعتزاز وفخر لأنها سقت بدمها (لازالت حية ترزق) شجرة الحرية وغمست بصرختها المدوية، وهي تتلقى الرصاص، تربة العلم الطاهرة ومضمار الحياة الآتية، إذ لا بد من ألم ووجع وسهر وَتَحَدٍّ ودم، لكي تتغذى الشجرة وتورق، فتخضر أوراقها وتزْهُو أفْنَانُها.