نحن الآن على الحدود المغربية -الجزائرية، في قبيلة «عين الشعير»، التي تعايش وتصاهر فيها، لسنوات، خليط من الأمازيع مع الأشراف السليمانيين، أبناء المولى سليمان بن عبد الله الكامل، أخ المولى إدريس الأول، وبالضبط في دوار آيت أوفقير، حيث ازدادت شخصية طبعت تاريخ المغرب المعاصر ولازالت الرّوايات متضاربة بشأنها، يتعلق الأمر بالجنرال محمد أوفقير.. لا تنقل كتب التاريخ الشيء الكثير عن قبيلة الجنرال هذه، باستثناء كتاب «أوفقير» للفرنسي كلود كليمون وكتاب «أوفقير.. قدَر مغربي» لصحافي «لوموند» ستيفن سميث. لكنّ الوثائق التي حصلت عليها «المساء» تقدّم رواية ثانية للأحداث. فإذا كان الكاتبان المذكوران يعتمدان على الأرشيف الفرنسي، ليخبرا قراءهما أنّ أبناء قبيلة أوفقير كانوا مجرّدَ «قطاع طرق»، فإنّ وثائق حفدة آل أوفقير تثبت العكس تماما، إذ تؤكد أن قبيلتهم كانت من الدروع التي يعول عليها العرش العلوي، بل كانت من القبائل التي لم تخرج يوما عن طاعة المخزن.. كيف ذلك؟ معركة «واد كير» خلال الفترة الفاصلة بيم 1832 و1850 تمكن الجيش الفرنسي من السيطرة على الصّحراء الجزائرية، لكنّ هذا لم يمنعه من الاصطدام بمواجهات مسلحة مع قبائل الجنوب الغربي للتراب الجزائري المحادي للحدود مع المغرب، الأمر يتعلق بقبيلتي ذوي منيع، وسيد الشيخ بن الطيب التي يتحدر منها الشيخ بوعمامة أيقونة النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. لقد أدى التحالف القائم بين هذه القبائل الجزائرية وقبيلة «عين الشعير» بقيادة الشيخ عبد الله أوعلي، خال والد الجنرال أوفقير، إلى دعم الجهاد الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي بالجزائر، بل إن القبائل الجزائرية المناهضة للاستعمار كانت تعتبر منطقة «عين الشعير» قاعدة خلفية للتزود بالماء والسلاح. لم يكن اتحاد القبائل المغربية -الجزائرية يقتصر على مواجهة فرنسا المُستعمِرة، بل كان يستهدف أيضا القوافل التجارية للقبائل الموالية للاستعمار. أمام هذا الوضع كان لا بُدّ من حدوث مواجهات مع الجيش الفرنسي، الذي كان يحاول اقتطاع أجزاء من الأراضي المغربية وضمّها إلى الجزائر، مستغلا عدم ترسيم الحدود بشكل قطعيّ في اتفاقية «للا مغنية»، التي وقعتها فرنسا مع سلطات المخزن سنة 1844. يستدعي الغوص في تفاصيل المعارك التي دارت رحاها بين أبناء قبيلة الجنرال أوفقير والقوات الفرنسية العودة من دون شك إلى الأرشيف الفرنسي الذي يوثق لهذه المرحلة بتدقيق كبير. يقول محمد أوفقير، الشاب الثلاثيني الذي يقرب إلى الجنرال أوفقير (جده ابن عم الجنرال): «بحكم علاقة البيعة التي تربط قبيلة «عين الشّعير» مع السلطان المغربي، فقد رفضت قبيلتنا الرّضوخ لمطالب الجيش الفرنسي بالانضمام إلى التراب الجزائري، واتّحدت قبيلتي عين الشعير وأولاد سيد الشيخ لمواجهة المدّ الاستعماري في الجنوب الغربي للجزائر. فكانت عين الشعير في هذه المرحلة هي مركز تموين جميع القبائل المناهضة للاستعمار». وفق ما جاء في كتاب بعنوان «حملة ويبفين على «واد كير» سنة 1870»، لصاحبه ليهورو، والصادر سنة 1996 عن مركز الدراسات حول تاريخ الصحراء في باريس، فإنّ المناوشات العسكرية بين الجانبين استمرّت إلى حدود سنة 1870، العام الذي هاجمت فيه الجيوش الفرنسية منطقة «واد كير»، القريبة من عين الشعير. يكشف الكتاب، الذي ارتكز على أرشيف ووثائق صادرة عن وزارة الدفاع الفرنسي، أنه في أبريل من هذه السنة (1870) وبقيادة الجنرال فيبفين (wippfen) استدعت القوات الفرنسية خيرة الضباط والرّماة المحترفين، وقد كان منهم من أنهوا خدمتهم، واستدعوا للمشاركة في هذه الحملة لأهميتها. بالنسبة إلى فرنسا حينها فإنها كانت تواجه قطاعَ طرُق، لهذا حاصرت قصبة «عين الشعير» من كل جانب، لكنها لم تتمكن من اقتحام القصبة أو القصر، إلا أنّ الجيش الفرنسي تمكن، في المقابل، من حصار هذه القبيلة المُتمرّدة على القوات الفرنسية، والتي كان سكانها يهاجمون الدّوريات العسكرية الفرنسية. حصار فرض على سكان القبيلة الدخول في مفاوضات مع الجيش الفرنسي، الذي طلب من قبيلة «عين الشعير» تعويضه عن الخسائر المادية التي تكبّدها جراء مواجهاته مع أبناء القبيلة، فضلا على تعويضه على القتلى الفرنسيين الذين سقطوا في هذه المواجهات.. لكن مطلبا واحد أثار حفيظة شيوخ القبيلة لم يترك أمامهم من حلّ سوى حمل السلاح من جديد أمام الجيوش الفرنسية.. منح الفرنسيون، بقيادة الجنرال فيبفين (wippfen) مهلة ثلاثة أيام لأبناء القبيلة للاستجابة للمطالب المذكورة وتسليم عدد من نساء القبيلة إلى الجنود الفرنسيين المشاركين في حملة «واد كير». قبِل شيوخ القبيلة كل مطالب الفرنسيين، لكنّ الطلب الأخير أثار حفيظتهم فدخلوا مباشرة في اشتباك مع الجيش الفرنسي. اشتباك تقول المصادر التاريخية إنّ فرنسا تكبّدت فيه خسائر كبيرة. وبعد الهزيمة التي مني بها الفرنسيون سيطلب قائد الحملة الجنرال فيبفين (wippfen) من القيادة العليا للجيش الفرنسي تعزيزات عسكرية لإعادة الهجوم على قصبة «عين الشعير»، لكن طلبه قوبل بالرّفض وطلِب منه الانسحاب. الحسن الأول يكافئ قبيلة أوفقير لم يمنع انتهاء المعركة قبائلَ عين الشعير من الاستمرار في دعم القبائل المتمرّدة على فرنسا، فدخل السلطان الحسن الأول على الخط سنة 1873 بعد توليه زمام الحكم، إذ توصل بشكاية من القوات الفرنسية في الجزائر، أثارت الانتباه إلى أحد بنود اتفاقية للا مغنية، التي وقعتها فرنسا مع المخزن المغربي سنة 1844، بعد هزيمته في معركة «إيسلي» في العام نفسه.. يفرض هذا البند من المعاهدة على المخزن أن يكفّ المغرب عن دعم حركات المقاومة في الجزائر وأن تتحمّل خزينة المملكة الشريفة أيّ خسائر تتسبب فيها «القبائل المغربية المتمرّدة» على هذا الاتفاق.. مباشرة بعد توصل السلطان الحسن الأول بشكاية القوات الفرنسية، استدعى شيوخ القبيلة على عجل إلى «المشور» في فاس وزجّ بهم في السجن لتسبّبهم في مشاكل مع السلطات الفرنسية.. حبسهم بأمر سلطانيّ لم يمنعهم من طلب الاستغاثة من طرف أحد حراس السّجن من أجل اللقاء بأحد المسؤولين في القصر الملكي في فاس. وبالفعل، تأتّى لهم هذا الأمر وسلموا أحد المسؤولين الوثيقة التي توصلوا بها من طرف القوات الفرنسية والتي تطالب من خلالها أبناء القبيلة باقتطاع نسبة معينة من الضرائب وعدد من رؤوس الإبل، وعددا من نساء القبيلة.. وبناء على هذا الدليل الذي في حوزتهم استقبلهم السلطان وكافأهم بمنحهم أرضا سلالية هي الأكبرُ في المنطقة بظهير من السلطان وتدعى «بوتيوساس». يعلق محمد أوفقير، حفيذ ابن عم الجنرال، على هذا الحدث قائلا: «هذه الأرض هي اليوم موضوعُ نزاع قضائيّ بين قبيلتي «عين الشعير» و»بني كيل»، وصدر بخصوصها حكم قضائيّ سنة 1996 لفائدة قبيلة عين الشعير ولم يجد طريقه إلى التنفيذ، كما أنّ الظهير المذكور يثبت اقتطاع الجزائر أكثرَ من ثلث هذه الأراضي المغربية وضمّها إلى الجزائر». بعد هذه الواقعة اكتسبت قبيلة «عين الشعير» مكانة مهمّة لدى سلطان المخزن، رغم أنّ العلاقة بين الطرفين لم تكن تتعدّى «البيعة» على اعتبار أن أهل القبيلة كانوا يؤمنون بالجرم الديني المترتب على خلع البيعة. يقول الحسن الأول في مراسلة تتوفر «المساء» على نسخة منها بشكل حصري، مخاطبا شيوخ القبيلة: «فقد وصلَنا كتابُكم بخبر ما أنتم عليه من المحبّة في جنابنا العالي بالله، ونحن نعلم من المشقة للوفود على حضرتنا... فلا شكّ عندنا في دينكم ومحبتكم ومن أقام على عزّ ركن من الدين». لم يمنع هذا الوضع تجدّدَ المواجهات بين القوات الفرنسية وقبيلة «عين الشعير» سنة 1882 في معركة شهدت رحاها -كما يقول الأرشيف الفرنسي- منطقة «عين الشّعير»، ومرة أخرى لم تتمكن القوات الفرنسية من اقتحام قصبة عين الشعير، بل إنها هذه المرة فقدت كولونيلا في الجيش الفرنسي يدعى سرتيل، واستمرت المناوشات بين الطرفين. لكن سنة 1903 ستكون محطة حاسمة، سواء في علاقة القبيلة مع المخزن المغربي أو في علاقتها مع سلطات الاستعمار الفرنسية. في هذا العام اقترح عبد الله أوعلي، شيخ قبيلة عين الشعير، اسم محمد بن قدور بن الفقير (والد الجنرال محمد أوفقير) ليخلفه على مشيخة القبيلة، بعد أن سئل عمن يقترحه لخلافته. ورغم صغر سن والد الجنرال، والذي لم يكن يتجاوز حينها 20 سنة فقد قبل به أفراد القبيلة شيخا على قبيلتهم، لكونه كان من بين أهمّ مستشاري الشيخ عبد الله أوعلي.، كما أنه كان عضوا في مجلس الجماعة ممثلا لآل آيت أوفقير.. عزّز هذا القرارَ ظهيرٌ سلطاني موقع من طرف الحسن الأول، حين أكد على قيادة القبيلة من طرف 5 إخوة من عائلة أوفقير: «خدام الأعتاب الشريفة الأرضى محمد بن الفقير وكافة إخوانه وفقكم الله وأرشدكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته بخير مولانا رسول الله، أما بعد فلتعلموا أن الإسلام قد انهزمت رسومه وتلاشت أساساته وذلك لما أسّسه الأراذل اللئام رؤساء سوء الإسلام الذين باعوا الدّين بالكفر وانتشرت حشرتهم في الأوطان المغربية، ولولا وجودنا، والحمد لله، لجبر كسر هذه الأمة لاستولى الهلاك على الجميع».. ويضيف المولى الحسن الأول في هذه المراسلة: «استوى في المؤاخذة بخبيث فعالهم العاصي والمطيع، ولكنْ صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صيانة لهذا الفهم على الدوام في قوله «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم بالمغرب»، وعليه فإن كان لكم غيرة على الإسلام وتريدون الذود على شرف نسبكم فانهموا بنافع حركتكم وأقدموا لأعتابنا الشريفة عزما من غير مهل ولا إمهال، أصلحكم الله وأصلح بكم». ليوطي يفاوض والد الجنرال في الوقت الذي أدركت فرنسا أنّ الحلّ العسكري ليس كافيا لإخضاع القبيلة لسلطتها، انتقل الجنرال ليوطي سنة 1908، بصفته قائدا للقوات الفرنسية في الجزائر، إلى قبيلة عين الشعير المغربية، وهي السنة نفسها التي خلع فيها السلطان المولى عبد العزيز، حيث، وعلى عكس العلاقة التي نسجتها قبيلة الجنرال محمد أوفقير مع السلطان مولاي الحسن، فإن علاقتهم مع ابنه السلطان المولى عبد العزيز لم تكن على ما يرام. وبعث الأخير إليهم بظهير ملكي يقول فيه: «أبناء عمنا الشرفاء الأرضَين بعين الشعير وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، وصل كتابكم بأنّ عذركم في عدم الوجود على أعتابنا الشريفة هو مخافة الطريق، وحين تأمنون تقدمون، وطلبتم من جنابنا الغالي بالله أن نكون فيكم على بال».. وقد جاء هذا الظهير بعدما رفض ساكنة عين الشعير طلب المولى عبد العزيز لوقف اعتداءاتهم على القوات الفرنسية، وبعد تأخرهم في مبايعته سلطانا على البلاد، وتحجّجهم بأن الطريق من عين الشعير إلى مدينة فاس غير آمنة، في حين أنّ السبب الحقيقي وراء عدم مبايعة السلطان الجديد يكمن في رفض سكان عين الشعير «انصراف مولاي عبد العزيز إلى حياة اللهو والترَف وتبذيره أموال المسلمين في شراء ألعاب بأثمنة خيالية، ما زاد من إضعاف السلطة المركزية وساعد على توغل الاستعمار وسط البلاد»، يعلق محمد أوفقير، حفيد عم الجنرال أوفقير، مضيفا: «مهْما كانت علاقة المدّ والجزر بين قبيلة عين الشعير والمخزن، فإنّ الثابت الذي ظل لصيقا بالمواقف السياسية للقبيلة هو مواجهتها الدائمة للجيوش الفرنسية».. مواجهة مجاهدي عين الشعير، بقيادة الشيخ محمد بن قدور بن الفقير (والد الجنرال أوفقير) هي التي استدعت انتقال الجنرال ليوطي إلى القبيلة للتفاوض مع الشيخ بلفقير، مباشرة بعد مبايعة السلطان مولاي عبد الحفيظ سلطانا للبلاد، حيث توجّه ليوطي إلى المنطقة حاملا ظهيرا من السلطان المولى عبد الحفيظ يعيّن بمقتضاه والد الجنرال أوفقير، الشيخ محمد بن قدور بن الفقير، قائدا على منطقة بوذنيب. وقد أرفق الجنرال ليوطي ظهير التعيين بهدية ثمينة، عبارة عن طقم كؤوس من الفضة و»بابورْ» لإعداد الشّاي.. هكذا ضمن ليوطي ولاء قبيلة عين الشعير وتوقفها عن مهاجمة القوات الفرنسية، خصوصا أنّ والد الجنرال أوفقير كان يتمتع بسطوة كبيرة في المنطقة سمحت له بمهاجمة الدّوريات العسكرية الفرنسية. كان ليوطي ذكيا في هذا الإطار، فبحكم معرفته بالبنية الثقافية للقبائل، فقد فهمَ أنّ قبيلة أوفقير لن تثور على موظف مخزنيّ مغربي. من جهته، فهم والد الجنرال أوفقير أنّ الزحف المتوالي للقوات الفرنسية القادمة من التراب الجزائري واحتلالها المناطق المغربية الواحدة تلو الأخرى وفقدان الدعم المخزني (فهم) أنّ زمن «الغزو» انتهى، فأبدى استعداده للتحالف مع فرنسا، «وقبل منصب قائد على منطقة بوذنيب، التي تبعد بحوالي 19 كيلومترا عن قبيلته، عين الشعير، وكان تعيينه بأمر سلطاني حصانة في وجه فرنسا يحول دون دخولها قصبة عين الشعير، التي ظلت عصية على «الاختراق»، يعلق محمد أوفقير، حفيد عم الجنرال أوفقير، في تصريح ل«المساء». ما دفعَ فرنسا أيضا إلى تعيين أب الجنرال أوفقير قائدا على بودنيب هو السلطة الاقتصادية التي كانت تملكها عائلة بن الفقير على قبيلة عين الشعير، التي كان يحكم شؤونَها 5 إخوة، من بينهم مولاي أحمد بن قدور بن الفقير (عم الجنرال أوفقير) الذي كان يتوفر على ثروة كانت تقدّر قيمتها حينها بالملايين.. فكان يوفر العديد من تمويلات الجيش الفرنسي، بل إنه كان لديه عمال فرنسيين.. لهذا لا غرابة أن يصطدم الباحث في العديد من الوثائق الصّادرة في الأرشيف الفرنسي باسم عمّ الجنرال، الذي كان يبدو أن الفرنسيين يعرفونه أكثرَ من والد الجنرال، الذي طبع مسارُه تاريخ المنطقة الشّرقية والمغرب عموما.
نحن الآن على الحدود المغربية -الجزائرية، في قبيلة «عين الشعير»، التي تعايش وتصاهر فيها، لسنوات، خليط من الأمازيع مع الأشراف السليمانيين، أبناء المولى سليمان بن عبد الله الكامل، أخ المولى إدريس الأول، وبالضبط في دوار آيت أوفقير، حيث ازدادت شخصية طبعت تاريخ المغرب المعاصر ولازالت الرّوايات متضاربة بشأنها، يتعلق الأمر بالجنرال محمد أوفقير.. لا تنقل كتب التاريخ الشيء الكثير عن قبيلة الجنرال هذه، باستثناء كتاب «أوفقير» للفرنسي كلود كليمون وكتاب «أوفقير.. قدَر مغربي» لصحافي «لوموند» ستيفن سميث. لكنّ الوثائق التي حصلت عليها «المساء» تقدّم رواية ثانية للأحداث. فإذا كان الكاتبان المذكوران يعتمدان على الأرشيف الفرنسي، ليخبرا قراءهما أنّ أبناء قبيلة أوفقير كانوا مجرّدَ «قطاع طرق»، فإنّ وثائق حفدة آل أوفقير تثبت العكس تماما، إذ تؤكد أن قبيلتهم كانت من الدروع التي يعول عليها العرش العلوي، بل كانت من القبائل التي لم تخرج يوما عن طاعة المخزن.. كيف ذلك؟ معركة «واد كير» خلال الفترة الفاصلة بيم 1832 و1850 تمكن الجيش الفرنسي من السيطرة على الصّحراء الجزائرية، لكنّ هذا لم يمنعه من الاصطدام بمواجهات مسلحة مع قبائل الجنوب الغربي للتراب الجزائري المحادي للحدود مع المغرب، الأمر يتعلق بقبيلتي ذوي منيع، وسيد الشيخ بن الطيب التي يتحدر منها الشيخ بوعمامة أيقونة النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. لقد أدى التحالف القائم بين هذه القبائل الجزائرية وقبيلة «عين الشعير» بقيادة الشيخ عبد الله أوعلي، خال والد الجنرال أوفقير، إلى دعم الجهاد الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي بالجزائر، بل إن القبائل الجزائرية المناهضة للاستعمار كانت تعتبر منطقة «عين الشعير» قاعدة خلفية للتزود بالماء والسلاح. لم يكن اتحاد القبائل المغربية -الجزائرية يقتصر على مواجهة فرنسا المُستعمِرة، بل كان يستهدف أيضا القوافل التجارية للقبائل الموالية للاستعمار. أمام هذا الوضع كان لا بُدّ من حدوث مواجهات مع الجيش الفرنسي، الذي كان يحاول اقتطاع أجزاء من الأراضي المغربية وضمّها إلى الجزائر، مستغلا عدم ترسيم الحدود بشكل قطعيّ في اتفاقية «للا مغنية»، التي وقعتها فرنسا مع سلطات المخزن سنة 1844. يستدعي الغوص في تفاصيل المعارك التي دارت رحاها بين أبناء قبيلة الجنرال أوفقير والقوات الفرنسية العودة من دون شك إلى الأرشيف الفرنسي الذي يوثق لهذه المرحلة بتدقيق كبير. يقول محمد أوفقير، الشاب الثلاثيني الذي يقرب إلى الجنرال أوفقير (جده ابن عم الجنرال): «بحكم علاقة البيعة التي تربط قبيلة «عين الشّعير» مع السلطان المغربي، فقد رفضت قبيلتنا الرّضوخ لمطالب الجيش الفرنسي بالانضمام إلى التراب الجزائري، واتّحدت قبيلتي عين الشعير وأولاد سيد الشيخ لمواجهة المدّ الاستعماري في الجنوب الغربي للجزائر. فكانت عين الشعير في هذه المرحلة هي مركز تموين جميع القبائل المناهضة للاستعمار». وفق ما جاء في كتاب بعنوان «حملة ويبفين على «واد كير» سنة 1870»، لصاحبه ليهورو، والصادر سنة 1996 عن مركز الدراسات حول تاريخ الصحراء في باريس، فإنّ المناوشات العسكرية بين الجانبين استمرّت إلى حدود سنة 1870، العام الذي هاجمت فيه الجيوش الفرنسية منطقة «واد كير»، القريبة من عين الشعير. يكشف الكتاب، الذي ارتكز على أرشيف ووثائق صادرة عن وزارة الدفاع الفرنسي، أنه في أبريل من هذه السنة (1870) وبقيادة الجنرال فيبفين (wippfen) استدعت القوات الفرنسية خيرة الضباط والرّماة المحترفين، وقد كان منهم من أنهوا خدمتهم، واستدعوا للمشاركة في هذه الحملة لأهميتها. بالنسبة إلى فرنسا حينها فإنها كانت تواجه قطاعَ طرُق، لهذا حاصرت قصبة «عين الشعير» من كل جانب، لكنها لم تتمكن من اقتحام القصبة أو القصر، إلا أنّ الجيش الفرنسي تمكن، في المقابل، من حصار هذه القبيلة المُتمرّدة على القوات الفرنسية، والتي كان سكانها يهاجمون الدّوريات العسكرية الفرنسية. حصار فرض على سكان القبيلة الدخول في مفاوضات مع الجيش الفرنسي، الذي طلب من قبيلة «عين الشعير» تعويضه عن الخسائر المادية التي تكبّدها جراء مواجهاته مع أبناء القبيلة، فضلا على تعويضه على القتلى الفرنسيين الذين سقطوا في هذه المواجهات.. لكن مطلبا واحد أثار حفيظة شيوخ القبيلة لم يترك أمامهم من حلّ سوى حمل السلاح من جديد أمام الجيوش الفرنسية.. منح الفرنسيون، بقيادة الجنرال فيبفين (wippfen) مهلة ثلاثة أيام لأبناء القبيلة للاستجابة للمطالب المذكورة وتسليم عدد من نساء القبيلة إلى الجنود الفرنسيين المشاركين في حملة «واد كير». قبِل شيوخ القبيلة كل مطالب الفرنسيين، لكنّ الطلب الأخير أثار حفيظتهم فدخلوا مباشرة في اشتباك مع الجيش الفرنسي. اشتباك تقول المصادر التاريخية إنّ فرنسا تكبّدت فيه خسائر كبيرة. وبعد الهزيمة التي مني بها الفرنسيون سيطلب قائد الحملة الجنرال فيبفين (wippfen) من القيادة العليا للجيش الفرنسي تعزيزات عسكرية لإعادة الهجوم على قصبة «عين الشعير»، لكن طلبه قوبل بالرّفض وطلِب منه الانسحاب. الحسن الأول يكافئ قبيلة أوفقير لم يمنع انتهاء المعركة قبائلَ عين الشعير من الاستمرار في دعم القبائل المتمرّدة على فرنسا، فدخل السلطان الحسن الأول على الخط سنة 1873 بعد توليه زمام الحكم، إذ توصل بشكاية من القوات الفرنسية في الجزائر، أثارت الانتباه إلى أحد بنود اتفاقية للا مغنية، التي وقعتها فرنسا مع المخزن المغربي سنة 1844، بعد هزيمته في معركة «إيسلي» في العام نفسه.. يفرض هذا البند من المعاهدة على المخزن أن يكفّ المغرب عن دعم حركات المقاومة في الجزائر وأن تتحمّل خزينة المملكة الشريفة أيّ خسائر تتسبب فيها «القبائل المغربية المتمرّدة» على هذا الاتفاق.. مباشرة بعد توصل السلطان الحسن الأول بشكاية القوات الفرنسية، استدعى شيوخ القبيلة على عجل إلى «المشور» في فاس وزجّ بهم في السجن لتسبّبهم في مشاكل مع السلطات الفرنسية.. حبسهم بأمر سلطانيّ لم يمنعهم من طلب الاستغاثة من طرف أحد حراس السّجن من أجل اللقاء بأحد المسؤولين في القصر الملكي في فاس. وبالفعل، تأتّى لهم هذا الأمر وسلموا أحد المسؤولين الوثيقة التي توصلوا بها من طرف القوات الفرنسية والتي تطالب من خلالها أبناء القبيلة باقتطاع نسبة معينة من الضرائب وعدد من رؤوس الإبل، وعددا من نساء القبيلة.. وبناء على هذا الدليل الذي في حوزتهم استقبلهم السلطان وكافأهم بمنحهم أرضا سلالية هي الأكبرُ في المنطقة بظهير من السلطان وتدعى «بوتيوساس». يعلق محمد أوفقير، حفيذ ابن عم الجنرال، على هذا الحدث قائلا: «هذه الأرض هي اليوم موضوعُ نزاع قضائيّ بين قبيلتي «عين الشعير» و»بني كيل»، وصدر بخصوصها حكم قضائيّ سنة 1996 لفائدة قبيلة عين الشعير ولم يجد طريقه إلى التنفيذ، كما أنّ الظهير المذكور يثبت اقتطاع الجزائر أكثرَ من ثلث هذه الأراضي المغربية وضمّها إلى الجزائر». بعد هذه الواقعة اكتسبت قبيلة «عين الشعير» مكانة مهمّة لدى سلطان المخزن، رغم أنّ العلاقة بين الطرفين لم تكن تتعدّى «البيعة» على اعتبار أن أهل القبيلة كانوا يؤمنون بالجرم الديني المترتب على خلع البيعة. يقول الحسن الأول في مراسلة تتوفر «المساء» على نسخة منها بشكل حصري، مخاطبا شيوخ القبيلة: «فقد وصلَنا كتابُكم بخبر ما أنتم عليه من المحبّة في جنابنا العالي بالله، ونحن نعلم من المشقة للوفود على حضرتنا... فلا شكّ عندنا في دينكم ومحبتكم ومن أقام على عزّ ركن من الدين». لم يمنع هذا الوضع تجدّدَ المواجهات بين القوات الفرنسية وقبيلة «عين الشعير» سنة 1882 في معركة شهدت رحاها -كما يقول الأرشيف الفرنسي- منطقة «عين الشّعير»، ومرة أخرى لم تتمكن القوات الفرنسية من اقتحام قصبة عين الشعير، بل إنها هذه المرة فقدت كولونيلا في الجيش الفرنسي يدعى سرتيل، واستمرت المناوشات بين الطرفين. لكن سنة 1903 ستكون محطة حاسمة، سواء في علاقة القبيلة مع المخزن المغربي أو في علاقتها مع سلطات الاستعمار الفرنسية. في هذا العام اقترح عبد الله أوعلي، شيخ قبيلة عين الشعير، اسم محمد بن قدور بن الفقير (والد الجنرال محمد أوفقير) ليخلفه على مشيخة القبيلة، بعد أن سئل عمن يقترحه لخلافته. ورغم صغر سن والد الجنرال، والذي لم يكن يتجاوز حينها 20 سنة فقد قبل به أفراد القبيلة شيخا على قبيلتهم، لكونه كان من بين أهمّ مستشاري الشيخ عبد الله أوعلي.، كما أنه كان عضوا في مجلس الجماعة ممثلا لآل آيت أوفقير.. عزّز هذا القرارَ ظهيرٌ سلطاني موقع من طرف الحسن الأول، حين أكد على قيادة القبيلة من طرف 5 إخوة من عائلة أوفقير: «خدام الأعتاب الشريفة الأرضى محمد بن الفقير وكافة إخوانه وفقكم الله وأرشدكم وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته بخير مولانا رسول الله، أما بعد فلتعلموا أن الإسلام قد انهزمت رسومه وتلاشت أساساته وذلك لما أسّسه الأراذل اللئام رؤساء سوء الإسلام الذين باعوا الدّين بالكفر وانتشرت حشرتهم في الأوطان المغربية، ولولا وجودنا، والحمد لله، لجبر كسر هذه الأمة لاستولى الهلاك على الجميع».. ويضيف المولى الحسن الأول في هذه المراسلة: «استوى في المؤاخذة بخبيث فعالهم العاصي والمطيع، ولكنْ صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صيانة لهذا الفهم على الدوام في قوله «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم بالمغرب»، وعليه فإن كان لكم غيرة على الإسلام وتريدون الذود على شرف نسبكم فانهموا بنافع حركتكم وأقدموا لأعتابنا الشريفة عزما من غير مهل ولا إمهال، أصلحكم الله وأصلح بكم». ليوطي يفاوض والد الجنرال في الوقت الذي أدركت فرنسا أنّ الحلّ العسكري ليس كافيا لإخضاع القبيلة لسلطتها، انتقل الجنرال ليوطي سنة 1908، بصفته قائدا للقوات الفرنسية في الجزائر، إلى قبيلة عين الشعير المغربية، وهي السنة نفسها التي خلع فيها السلطان المولى عبد العزيز، حيث، وعلى عكس العلاقة التي نسجتها قبيلة الجنرال محمد أوفقير مع السلطان مولاي الحسن، فإن علاقتهم مع ابنه السلطان المولى عبد العزيز لم تكن على ما يرام. وبعث الأخير إليهم بظهير ملكي يقول فيه: «أبناء عمنا الشرفاء الأرضَين بعين الشعير وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، وصل كتابكم بأنّ عذركم في عدم الوجود على أعتابنا الشريفة هو مخافة الطريق، وحين تأمنون تقدمون، وطلبتم من جنابنا الغالي بالله أن نكون فيكم على بال».. وقد جاء هذا الظهير بعدما رفض ساكنة عين الشعير طلب المولى عبد العزيز لوقف اعتداءاتهم على القوات الفرنسية، وبعد تأخرهم في مبايعته سلطانا على البلاد، وتحجّجهم بأن الطريق من عين الشعير إلى مدينة فاس غير آمنة، في حين أنّ السبب الحقيقي وراء عدم مبايعة السلطان الجديد يكمن في رفض سكان عين الشعير «انصراف مولاي عبد العزيز إلى حياة اللهو والترَف وتبذيره أموال المسلمين في شراء ألعاب بأثمنة خيالية، ما زاد من إضعاف السلطة المركزية وساعد على توغل الاستعمار وسط البلاد»، يعلق محمد أوفقير، حفيد عم الجنرال أوفقير، مضيفا: «مهْما كانت علاقة المدّ والجزر بين قبيلة عين الشعير والمخزن، فإنّ الثابت الذي ظل لصيقا بالمواقف السياسية للقبيلة هو مواجهتها الدائمة للجيوش الفرنسية».. مواجهة مجاهدي عين الشعير، بقيادة الشيخ محمد بن قدور بن الفقير (والد الجنرال أوفقير) هي التي استدعت انتقال الجنرال ليوطي إلى القبيلة للتفاوض مع الشيخ بلفقير، مباشرة بعد مبايعة السلطان مولاي عبد الحفيظ سلطانا للبلاد، حيث توجّه ليوطي إلى المنطقة حاملا ظهيرا من السلطان المولى عبد الحفيظ يعيّن بمقتضاه والد الجنرال أوفقير، الشيخ محمد بن قدور بن الفقير، قائدا على منطقة بوذنيب. وقد أرفق الجنرال ليوطي ظهير التعيين بهدية ثمينة، عبارة عن طقم كؤوس من الفضة و»بابورْ» لإعداد الشّاي.. هكذا ضمن ليوطي ولاء قبيلة عين الشعير وتوقفها عن مهاجمة القوات الفرنسية، خصوصا أنّ والد الجنرال أوفقير كان يتمتع بسطوة كبيرة في المنطقة سمحت له بمهاجمة الدّوريات العسكرية الفرنسية. كان ليوطي ذكيا في هذا الإطار، فبحكم معرفته بالبنية الثقافية للقبائل، فقد فهمَ أنّ قبيلة أوفقير لن تثور على موظف مخزنيّ مغربي. من جهته، فهم والد الجنرال أوفقير أنّ الزحف المتوالي للقوات الفرنسية القادمة من التراب الجزائري واحتلالها المناطق المغربية الواحدة تلو الأخرى وفقدان الدعم المخزني (فهم) أنّ زمن «الغزو» انتهى، فأبدى استعداده للتحالف مع فرنسا، «وقبل منصب قائد على منطقة بوذنيب، التي تبعد بحوالي 19 كيلومترا عن قبيلته، عين الشعير، وكان تعيينه بأمر سلطاني حصانة في وجه فرنسا يحول دون دخولها قصبة عين الشعير، التي ظلت عصية على «الاختراق»، يعلق محمد أوفقير، حفيد عم الجنرال أوفقير، في تصريح ل«المساء». ما دفعَ فرنسا أيضا إلى تعيين أب الجنرال أوفقير قائدا على بودنيب هو السلطة الاقتصادية التي كانت تملكها عائلة بن الفقير على قبيلة عين الشعير، التي كان يحكم شؤونَها 5 إخوة، من بينهم مولاي أحمد بن قدور بن الفقير (عم الجنرال أوفقير) الذي كان يتوفر على ثروة كانت تقدّر قيمتها حينها بالملايين.. فكان يوفر العديد من تمويلات الجيش الفرنسي، بل إنه كان لديه عمال فرنسيين.. لهذا لا غرابة أن يصطدم الباحث في العديد من الوثائق الصّادرة في الأرشيف الفرنسي باسم عمّ الجنرال، الذي كان يبدو أن الفرنسيين يعرفونه أكثرَ من والد الجنرال، الذي طبع مسارُه تاريخ المنطقة الشّرقية والمغرب عموما.