في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، كنا نرفع أصواتنا بالهتاف احتجاجا على نشرات أخبار التلفزيون لأنها كانت تقصر اهتمامها على الأخبار الحكومية الرسمية وتغض الطرف عن أخبار المجتمع؛ لكن الله أحيانا إلى زمن انعكست فيه الآية، فاختفت الأخبار الحكومية من النشرات التلفزيونية أو تراجعت صاغرة أمام أخبار المجتمع، وخاصة منها ما يطلق عليه «الأخبار المتفرقة»، أي أخبار الجرائم والحوادث وما إليها. لقد صارت أخبار الجرائم، والحمد لله (الذي لا يحمد على مكروه سواه)، تحتلّ مطلع نشرات «الدوزيم» الزوالية التي اختير لها أن تُبَثَّ في وقت الغداء بالضبط، مما أدّى إلى استنكار بعض الجاهلين الذين لا يمكن لأذهانهم أن ترتفع إلى مستوى إدراك الحكمة الثاوية خلف هذا الاختيار العبقري المقصود (والموفق) والمتمثلة، دون شك، في حرص «قيادات» القناة على أن تقطع شهية المواطنين من جذورها، مما يساعدهم على إنقاص أوزانهم المتضخمة ويدفعهم إلى الحفاظ على رشاقتهم، هنا والآن وإلى الأبد. طيلة الأسبوع الماضي، مثلا، كانت «الدوزيم» تستهل نشراتها الزوالية بخبر الاعتداء على طفلة قروية وتمزيق وجهها بمنجل، وقامت بتعبئة غير مسبوقة للمواطنين قصد التظاهر احتجاجا على ما جرى للطفولة التي تحولت إلى «طفولة مغتصبة» (مع الاعتذار إلى المخرج حكيم النوري)، مستعينة في ذلك ببعض «نجوم» برامج الكوميديا التلفزيونية والمسلسلات المكسيكية المدبلجة؛ طبعا كل ذلك في إطار القانون، حيث ذكرت أن مكان التظاهرة سيكون هو «عين الذياب» (وليس ساحة النصر أو ساحة السراغنة)، وفي الصباح لا المساء، وذات أحد مشمس، كيلا يغلط مشاهدوها وتذهب الظنون بهم إلى ما لا تحمد عقباه: (حتى إذا غلط أحدهم فإن بالإمكان دائما القول إنها مجرد دعوة إلى «الفوتينغ» على الشاطئ المشمس يوم الأحد). والواقع أن من يتابع أخبار «الدوزيم» بانتظام في الشهور الأخيرة قد يتصور أن حوادث القتل والاغتصاب والاعتداء على الأطفال وعلى المحارم قد تحولت لدينا إلى وباء شبيه بذاك الذي تعرفه الهند في الوقت الحالي والذي جعل الرجال يفقدون صوابهم فجأة فينقضون على النساء ويغتصبونهن في الشارع، أمام الملأ، وفي واضحة النهار. وهذا غير صحيح بطبيعة الحال، لأن الأمور كانت تتم بصمت وتواطؤ في السابق، والجديد هو أن الإعلام المكتوب شرع في كشف الغطاء عنها انطلاقا من مطلع الألفية الثالثة، ثم تبعته «الدوزيم» في السنوات الأخيرة، مع بعض المبالغة في عهد الحكومة الحالية. لقد اعتبر بعض الإعلاميين (من ذوي السوابق، عفوا، من ذوي النوايا السيئة) أن تركيز القناة التلفزيونية المذكورة على «أخبار الحوادث» بدل أخبار السياسة يتضمن نوعا من الرغبة في التشويش على الحكومة، عن طريق الإيحاء، من جهة، بأن عملها لا أهمية له من الناحية الإخبارية إذا نحن وضعناه في كفة ووضعنا جريمة اغتصاب، مثلا، في كفة أخرى؛ وبأنها (أي الحكومة) تتحمل مسؤولية مباشرة في ما جرى، من جهة ثانية. لكن هذا الاعتقاد غير صحيح بالمرة، بل ولا قيمة له على الإطلاق مقارنة بتساؤل بعض المهتمين عن السرّ الذي يجعل إدارة الأخبار في «الدوزيم» تركز، من بين كل «أخبار الحوادث»، على حوادث الاغتصاب وزنى المحارم بالدرجة الأولى؟ وهو تساؤل لا يوجد جواب مقنع عنه إلى حد الساعة، مثله في ذلك مثل التساؤل القائل: ألا يكون الإكثار من الحديث عن جرائم السرقة والقتل والاغتصاب... هو السبب الكامن خلف تكاثرها؟ إن المجرمين الفعليين يحرصون على إخفاء ما يرتكبونه من جرائم، كما أن الأشخاص الذين تتملكهم الرغبة في القيام بجريمة ما يخشون المجتمع والفضيحة؛ لكن حين تعلن «الدوزيم» وغيرها يوميا، وبطبل ومزمار، عن جرائم اغتصاب وزنى محارم ترتكب هنا وهناك فإنها تبعث إلى هؤلاء برسالة يفهمون منها أنهم ليسوا استثناء، ليسوا معزولين، وأن بإمكانهم القيام بجرائمهم مطمئنين إلى أنهم «مثل الآخرين»، وبذلك يتحول «فضح» الجرائم، في بلد متخلف، من أداة للحد منها إلى وسيلة لمضاعفتها عشرات المرات.