لم تكتسب أي قضية في العالم من اهتمام وذيوع صيت ما اكتسبته القضية الفلسطينية، قضية شعب انتزع من أرضه انتزاعا وطوح به في أصقاع مختلفة. حتى يبقى بلا جذور يتوالد في الهواء مكونا شعب الشتات. لا يفكر في يوم من الأيام في العودة إلى ذاكرته وأرضه. إذ إن حكماء صهيون أرادوا له تيها أبديا بين عواصم عربية أكثرها ناكرة. ليكون تيه أربعين سنة في الصحراء من هذا المنطلق أرحم. ومن أراد وطنا له ولأطفاله فيصنعه في قطعة قماش ويسرع به إلى مطارات العالم في الجهات الأربع حاملا جواز سفر تتلكأ في قراءة حروفه ألسنة الجمارك (سجل أنا عربي). هكذا فعل المبدعون وعلى رأسهم الشاعر محمود درويش الذي ظل يحمل الوطن في حقيبة ويسرع الخطو: منتصب القامة أمشي مرفوع القامة أمشي في كفي قفصة زيتون وعلى كتفي نعشي وأنا أمشي لقد كانوا هم من صنعوا وطنا حقيقيا بعيدا عن المزايدات السياسية. لقد صنعوا الوطن وقالوا للفلسطينيين الذين جاؤوا بعد النكبات وسيجيئون راكبين خيل المستقبل: هذه أرضكم ،هذه ذاكرتكم فشدوا عليها بالنواجد فالحق يأبى النسيان. فليخرج هؤلاء من مفردات الذاكرة: اخرجوا من برنا اخرجوا من بحرنا. الشعراء وحدهم يقولون الحقيقة صافية لأنهم يقولون كلمتهم يمشون. ولأنه لا كراسي يسعون اليها -الشعراء الحقيقيون طبعا- فمن أحب كرسيا ومات فيه عميت بصيرته وباع قضيته التي من أجلها بالأمس القريب جرح عقيرته وهو يردد شعارات الثورة. ثوار الأمس أصبح لهم أكثر من لون وظل وابتعدت عيونهم عن إدراك القضية. رفض محمود درويش كرسيا في حكومة أول القطر بعد «سلام الشجعان». لقد رفض ذالك المنصب حتى يبقى منجزه الشعري قويا ومتماسكا يشد بعضه بعضا لا يتهاوى تحت نقرات قلم في مكتب بارد في رام الله. بقي درويش كبيرا في أفق الكون الفسيح كما الوطن الغالي في قلوب الملايين من الأحرار في الداخل وفي الشتات. ولأن الكلمات لها وقع سيسمع في الحين أو في دروب الانتظار. فقد استوعب أبو عمار أول رئيس لحكومة أول القطر وقع كلمات درويش في خريف العمر. لذا قال في أحد تصريحاته: «فليذهب شارون إلى الجحيم. فقد فهم ياسر عرفات الدرس جيدا بعد الحفظ والمذاكرة فلم يلن فحوصر وقضى تحت خلطة العدو ومدته إليه أيادي أهل البيت كما كشف أحد الصحافيين الإسرائيليين» وأضاف «أبو مازن يعرف... الأيدي كانت تستعجل القبض على السلطة وترويضها والركوب في مراكب المهادنة وتوقيع اتفاقيات سلام تقزم كل الحقوق أو تلغيها، حتى وإن بقي الوطن مجرد شبر يقف عليه كرسي الرئيس». من هنا بدأت مرحلة جديدة مرحلة البحث في معاجم اللغة عن مفردات المهادنة والتشطيب على كل لفظة فيها رائحة الممانعة. وأحيانا يستعصي الأمر فيكون لزاما نحت أخرى تليق بالمرحلة والترويج لها حتى يتضخم القاموس ويتواءم والظرفية العالمية وما تعرفه من حراك قوي للمفاهيم والمرجعيات الثقافية والسياسية. ماذا تبقى من عرفات ومن أوسلو سوى هذه الكلمات. الأكيد أن كلمات درويش فعلت فعلتها في أبي عمار، أولم يكن كاتبا لخطاباته. فما هو فاعل رفيق الثورة الحاج عباس أبو مازن؟ كيف تخف حدة الثورة والانحياز إلى القضايا العادلة داخل ثوار الأمس. لماذا كلما تقدم الشاعر أو المبدع الثائر عموما في العمر إلا وثقلت خطاه وتثاقل في المشي والانحياز إلى الإنسان المضطهد أينما كان وعوضها بالنكوص السريع إلى موائد الأعداء التقليديين ونسي وصية الشاعر أمل دنقل: لا تصالح. كيف نكص اللقطاء للكتابة عن الجنس ومؤخرات الفتيات وليالي حمراء يعيشونها كحالة نفسية مرضية مفقودة فيطلبونها عبر كل الاستيهامات. القضية الفلسطينية ألهمت الكثيرين في دنيا الإبداع والتي عنها ومن أجلها قتل الفلسطينيون ويقتلون اليوم بدم بارد بكل الوحشية والحقد الأعمى. يا أسفي على أؤلئك الأطفال زهرة الدنيا. إنه مخطط لاقتلاع كل من سيحمل داخله في الآتي فلسطين. هذا الدم ألا يحرك الأدعياء في كل باب من الإبداع إلى حقوق الإنسان. من منا ينسى غسان كنفاني ورجاله في الشمس وتلك النهاية المأساوية التي تبقى كالغصة في الحلق: لماذا لم يدقوا الصهريج. ومن منا ينسى ذالك السائق الخبيث المخصي وتجار الذمم. إن الرواية اليوم تفرض نفسها للقراءة كي نفهم هذا الواقع العربي وأيضا الفلسطيني المتخبط. ومن ينسى ناجي العلي وفتاه حنظلة. إنه اليوم يضحك علينا حتى يقع على قفاه. لكنه يبقى صامتا شاهدا على مجزرة غزة مجزرة الأطفال بامتياز. إنه ينظر صامتا إلى هؤلاء القادة وهم لا يصلون حتى إلى الاجتماع مع العلم أنه متيقن من أنهم لن يخرجوا بأي شيء ذي شأن. لذا سيبقى حنظلة صامتا ولن ينبس ببنت شفة فالواقع هو الواقع رغم دوران عجلات الزمان. ما أشبه اليوم بالأمس. سيجعل حنظلة الألم وعقدة الذنب يقطعان قلب كل من له قلب حر في قفص صدره.