كل من يتابع الخطاب السياسي للإدارة الأمريكية الذي يرافق العدوان الصهيوني على قطاع غزة يمكن أن يستنتج بسهولة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي توفر الغطاء السياسي والدعم الاستراتيجي والعسكري للدولة العبرية، وهي التي تجند آلتها الدبلوماسية والسياسية للضغط على باقي الدول حتى تستسلم للأمر الواقع وتذعن لأكبر محرقة يعيشها القرن الواحد والعشرون، ولم يكن موقف الكونغرس الأمريكي الداعم للعدوان الصهيوني على غزة إلا تعبيرا عن مدى تغلغل عقيدة التضامن مع الصهاينة في الوعي السياسي الأمريكي. السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية في عهد الرئيس بوش بنت أطروحتها على مكافحة ما تسميه بالإرهاب، ورسمت استراتيجية أمنية قوية، جندت لها العالم العربي والإسلامي وحتى بعض الدول الأوروبية، وانخرطت الدول العربية في هذه الاستراتيجية وأقدمت على اتخاذ كافة القرارات المطلوب منها اتخاذها لانتزاع الاعتراف بها داخل محور الخير واكتساب صفة الاعتدال بالمقاييس الأمريكية. في العشرين من هذا الشهر، ستنتهي ولاية أسوأ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، وسيكتشف العالم بقليل من الملاحظة والتأمل أن ما سمي بالاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب لم يكن إلا غطاء لشن العديد من الحروب في العالم وتبرير التدخل العسكري للإدارة الأمريكية في العراق وأفغانستان سعيا وراء مصالحها الاستراتيجية، واليوم وصل العدوان الهمجي على غزة إلى حصد أرواح ما يناهز ألف شهيد وأكثر من أربعة آلاف جريح معظمهم من المدنيين، وذلك بدعوى القضاء على حماس أو إضعافها باعتبارها «منظمة إرهابية» بالمقاييس الأمريكية! لقد نجحت الاستراتيجية الأمريكية في إسقاط نظام صدام حسين في العراق ونظام طالبان في العراق، لكنها فشلت في القضاء على ما تسميه بالإرهاب، بل وفرت الأساس النظري لانتشار العديد من المجموعات المتشددة، وزادت في تعميق نفسية الشعور بالإحباط والظلم والكراهية للسياسة الأمريكية ولحلفائها، بل ساهمت في تغذية المزيد من مشاعر العنف التي تعبر عن نفسها في مناطق جديدة من العالم... وسيغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض بعدما أدخل العالم في حروب مجنونة بدعوى مكافحة الإرهاب، مخلفا وراءه العديد من الضحايا وخاصة في دول العالم العربي الذي سيجد نفسه مطالبا بمعالجة مخلفات هذه المرحلة، بعدما انخرط في استراتيجية بسيطة لا تملك إلا لغة الحرب والعنف في مواجهة ظواهر اجتماعية بالغة التعقيد. العدوان على غزة كشف عجز الأنظمة العربية التي باتت في موقف ضعيف أمام شعوبها، التي خرجت في مظاهرات غاضبة لتطالبها باتخاذ مواقف قوية والتعبير بشكل ملموس عن واجب النصرة تجاه الشعب الفلسطيني الذي يقاوم بصمود أسطوري في غياب أي دعم من النظام الرسمي العربي. الأنظمة العربية عاجزة عن دعم الشعب الفلسطيني بالأسلحة، وعاجزة عن الانتصار لخيار المقاومة، وعاجزة عن الرفض المباشر للمنطق الأمريكي في التعاطي مع جرائم الحرب التي ترتكب هذه الأيام في قطاع غزة، مما جعلها تبدو وكأنها أنها لا تملك أي خيارات بديلة... إن أمريكا مقبلة على عهد جديد لم تتضح معالمه بعد، وخلال هذه الفترة الانتقالية شن الكيان الصهيوني عدوانه على الشعب الفلسطيني مستغلا طبيعة هذه المرحلة، في الوقت الذي ينتظر فيه العرب قدوم هذا الأوباما ليحدد لهم خريطة الطريق المطلوبة. لكن من الواضح أن شعار مكافحة الإرهاب سيعرف تراجعا في الخطاب السياسي الأمريكي في المرحلة القادمة، ولذلك تبدو الفرصة مواتية اليوم أمام الأنظمة العربية لتصحيح الأخطاء المرتكبة خلال المرحلة السابقة ونهج سياسة المصالحة مع شريحة من المجتمع ذهبت ضحية ما سمي بالحرب على الإرهاب. إن تصحيح أخطاء المرحلة السابقة ونهج سياسة المصالحة مع الشعوب يمثل في حد ذاته تعبيرا رمزيا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وتحررا في الوقت المناسب من الهيمنة الأمريكية. لقد كان المغرب من الدول التي انخرطت بدون تحفظ في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، خصوصا بعد أحداث 16 ماي الإجرامية التي مازالت مطبوعة بالكثير من الغموض، ومازالت تمثل لغزا بالنسبة إلى المراقبين، واليوم يوجد في السجون المغربية المئات من الشباب الذين توبعوا بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب، فقد لجأت السلطات المغربية، وفي إطار انخراطها الكامل في الاستراتيجية الأمريكية، إلى اعتماد مقاربة أمنية استندت إلى آليات الاختطاف ونزع الاعترافات تحت التعذيب، توجت بمحاكمات صورية اختل فيها ميزان العدالة وافتقرت إلى أبسط شروط المحاكمة العادلة، بعدما وقعت الأجهزة الأمنية في تجاوزات وانتهاكات خطيرة، وذلك بإقرار من السلطات العليا في البلاد. هذه الاعتقالات ظهرت وكأنها على خلفية قانون مكافحة الإرهاب الذي صادق عليه البرلمان المغربي في ظروف استثنائية، لكن الجميع يعرف أن الأجهزة الأمنية انخرطت في التنسيق مع الأجهزة الأمريكية في مكافحة ما تسميه الإرهاب دون أن تتسلح بالقدرة على فهم الخريطة الفكرية والتنظيمية للمجموعات الإسلامية التي تم الزج بها داخل السجون، وهو ما ترتب عليه سوء تقدير للمصالح الحقيقية للمغرب في هذه الخطوة، وانسياق غير محسوب وراء الأهواء الأمريكية التي لا تراعي إلا مصالحها الاستراتيجية ولا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين، واليوم لايزال ملف ما يسمى بالسلفية الجهادية يراوح مكانه بين أيدي السلطات في انتظار تسوية منصفة لضحايا الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب! ملف آخر يبدو أنه من مخلفات الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، فقبل سنة من اليوم أقدمت السلطات المغربية على اعتقال الأساتذة: المصطفى المعتصم، الأمين العام لحزب البديل الحضاري المنحل، بطريقة غير قانونية، ونائبه محمد الأمين الركالة الناطق الرسمي باسم الحزب، ومحمد المرواني الأمين العام لحزب الأمة، الذي رفضت السلطات الاعتراف به، وماء العينين العبادلة عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، ومحمد نجيبي عضو المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد، وعبد الحفيظ السريتي مراسل قناة المنار، ويبدو أن الرواية الرسمية لهذه القضية لا تخرج عن محاولة التوظيف السياسي لهذا الملف واستدرار شهادة حسن السلوك في مكافحة الإرهاب، وفي هذا السياق شهدت محكمة الاستئناف بسلا يوم الجمعة المنصرم تقديم المعتقلين السياسيين الستة المتابعين في إطار ما يسمى بقضية بليرج، وقد كان ملفتا للانتباه ارتداء المتهمين للشارة الفلسطينية وإصرارهم على قراءة الفاتحة في بداية الجلسة من داخل القفص الزجاجي ترحما على الشهداء الذين سقطوا في غزة ضحية العدوان الهمجي للآلة العسكرية الصهيونية، وذلك تأكيدا منهم لمواقفهم المعروفة تجاه القضية الفلسطينية، والتي منعهم من تسجيلها في الساحة السياسية وجودهم رهن الاعتقال التعسفي في إطار قضية تدعي أجهزة الأمن أنها ذات طبيعة إرهابية... الملف ذو طبيعة سياسية واضحة، ووقائعه المنسوبة إلى المتهمين تعود إلى القرن الماضي، ولا تصمد أمام المعطيات الموضوعية التي تؤكد أن المعتقلين السياسيين الستة معروفون في الأوساط السياسية والإعلامية والجمعوية وفي الداخل والخارج بقناعاتهم الفكرية السلمية والمدنية وبأفكارهم الديمقراطية وبأطروحاتهم الميالة إلى التوفيق والحوار بين اليسار والإسلاميين، فهم معروفون بشكل دقيق من قبل الطبقة السياسية والفكرية في المغرب، ويستحيل على النخبة المغربية أن تتقبل الرواية الرسمية وأن تتحمل صكوك الاتهام الثقيلة التي سمعناها في جلسة الجمعة المنصرم.. إنها فعلا محاكمة غير عادية وفي توقيت غير مناسب، فالأمة تخوض مواجهة مع أعدائها، والعقول الكبيرة هي التي تحسن قراءة اللحظة السياسية لاتخاذ القرارات الشجاعة في الوقت المناسب.