عندما تبنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خيار المشاركة السياسية وقبلت بخوض الانتخابات في ظل الاحتلال الصهيوني، اتهمها البعض بالتخلي عن خيار المقاومة والتراجع عن الثوابت التي انطلقت منها، بل وقد سبق لأيمن الظواهري أن وصف قيادة حماس بأنها «تنازلت عن حاكمية الشريعة ورضيت بالديمقراطية ثم تنازلت عن الديمقراطية و رضيت بثلث الحكومة و تنازلت عن أربعة أخماس فلسطين.. .»، لكن حماس التي لم تكن تتوقع أن تكتسح المجلس التشريعي وفوجئت بنتائج الانتخابات - كما صرح بذلك قادتها- تعاملت مع الموضوع بواقعية سياسية وبدأت تتكيف مع معطيات المرحلة الجديدة وأخذت تبلور خطابا سياسيا جديدا من بين أبرز مفرداته الاستعداد بقبول الدولة الفلسطينية على أراضي 67، والقبول بالتهدئة المؤقتة مع «إسرائيل»، هذه التهدئة القابلة للتجديد كلما التزمت الدولة العبرية بشروطها. نتائج الانتخابات الفلسطينية لم تفاجئ حماس وحدها، بل فاجأت الأمريكيين والصهاينة و القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية كذلك، وأربكت حساباتهم التي كانت تسير في اتجاه إدماج حماس داخل النظام السياسي الفلسطيني من موقع الأقلية العددية، ومن ثم العمل على ترويضها وجعلها أمام واقع القبول بقاعدة الأغلبية الديمقراطية حينما يصادق المجلس التشريعي على قرارات لا تنسجم بالضرورة مع ثوابت الشعب الفلسطيني.. حماس قدمت جميع التنازلات الممكنة من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية ورضيت بجميع الاتفاقات التي عقدت في مكة والقاهرة وصنعاء، لكن الأقلية المتنفذة في قيادة فتح ومنظمة التحرير كانت لها خيارات أخرى انتهت بإفشال مشروع الوحدة الوطنية وتطورت الأمور حتى اضطرت إلى القيام بما سمي بعملية الحسم العسكري في خطوة استباقية ضد المخطط الأمريكي الذي كان يستهدف القضاء على السلطة الشرعية ممثلة في حماس داخل قطاع غزة، لكن بأدوات فلسطينية ضمن ما بات يعرف بمخطط دايتون نسبة إلى الجنرال الأمريكي الذي كان يشرف على هذا المخطط بتنسيق مع جماعة دحلان ورفاقه. هذه العملية التي رافقها جدال كبير دفعت حماس إلى المطالبة بتشكيل لجنة عربية للتحقيق في ما جرى في غزة أو لجنة فلسطينية برئاسة القضاة الفلسطينيين، لكن مطلبها ووجه بالرفض من طرف الرئيس عباس ومن معه، وظل رموز السلطة في رام الله يكررون في خطابهم الإعلامي أسطوانة الانقلاب المزعوم في غزة لأغراض دعائية سياسية باتت مكشوفة في النهاية.. ما فشلت أمريكا والكيان الصهيوني في تحقيقه عن طريق عملائها، حاولت فرضه عن طريق الحصار، ثم بعد ذلك عن طريق التدخل العسكري المباشر بالأسلحة المتطورة وبطريقة وحشية لا مجال فيها للحديث عن مقتضيات القانون الدولي الإنساني أو عن الالتزام بمعاهدات جنيف الأربع... لقد كان الحصار شكلا من أشكال العدوان وهو يمثل مرحلة زمنية معينة ضمن الإستراتيجية العسكرية الأمريكو- صهيونية التي كانت تخطط للقضاء على حماس داخل القطاع وتسعى لتأليب سكان غزة ضد سلطتها وترسيخ الإحساس لديهم بأن حماس هي السبب وراء معاناتهم ووراء حرمانهم من أبسط شروط الحياة... لكن الذي حصل هو أن الحصار زاد من كراهية الناس للعدو الصهيوني المسؤول الحقيقي عن معاناتهم، وزاد في التفاف الناس على حماس وعلى قوى المقاومة، وبعد العدوان المجنون على غزة زادت درجة الكراهية للعدو الصهيوني، ليس فقط من طرف الفلسطينيين ولكن من طرف جميع الشعوب العربية والإسلامية، ومن طرف جميع أحرار العالم الذين عبروا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في جميع بقاع العالم. لكن المثير هو موقف بعض الأنظمة العربية التي اختارت بمواقفها الانحياز بشكل موضوعي لأطروحة العدو الصهيوني الذي يحمل مسؤولية العدوان لحماس التي رفضت استمرار التهدئة!! ولا ندري ما معنى التهدئة في ظل الحصار الظالم الذي استمر لعدة شهور أمام مرأى ومسمع من العالم؟! العدوان على غزة ساهم في تعرية الكثير من الأنظمة العربية، فوقف بعضها موقف المتفرج الذي يعبر عن بعض المواقف الجامدة التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة ، بينما عبر البعض الآخر عن انحيازه بشكل مكشوف لأطروحة العدوان، أو في أحسن الحالات تبني خطاب يساوي بين الضحية والجلاد ويطالب بوقف إطلاق النار من الطرفين، أو بلغة أخرى المساهمة في العدوان بأدوات دبلوماسية!! واختارت دول عربية قليلة الانحياز لأطروحة المقاومة، وفي هذا السياق لا بد من التنويه بموقف أمير قطر الذي جاء متجاوبا في كثير من فقراته مع نبض الشارع العربي، حيث أكد أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لا يمكن إلا أن يكون جريمة حرب وبأن «دماء الشهداء أمانة في أعناقنا جميعا»، مطالبا بوقف العدوان ورفع الحصار وفتح المعابر، معتبرا أن قطاع غزة يخضع منذ ثلاثة أعوام لحصار ظالم لأن «الشعب الفلسطيني تعامل مع الديمقراطية بجد وقرر خياراته». وفي رد ضمني على الرئيس حسني مبارك وصف الحصار وإغلاق المعابر بأنه فعل غير قانوني وغير إنساني، مؤكدا أن أي تبرير له هو أيضا «غير قانوني» و«غير أخلاقي»، واستغرب أن «يبرر التعاون مع حصار غير قانوني» بمبررات قانونية. كلمة الرئيس القطري (رغم أن بلاده لم تقرر بعد إغلاق مكتب رعاية المصالح الإسرائيلي الموجود بالدوحة) تبرز بأن الأنظمة العربية يمكنها فعل الشيء الكثير إذا تسلحت بالإرادة وأنصتت إلى نبض شعوبها، وأدركت أن الفرصة مواتية لعقد قمة تاريخية تدرس خلالها حصيلة « نظرية السلام» وتتخذ قرارات شجاعة تعيد الكيان الصهيوني إلى عزلته وتقدم دعما للمقاومة في الميدان. نعم، هناك أوراق كثيرة يمكن الضغط بها على الكيان الصهيوني سواء بشكل مباشر عن طريق قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها ومواجهة كافة أشكال التطبيع، أو عن طريق الضغط على الدول الكبرى التي لها مصالح مع العالم العربي لتفهم بأن مصالحها الاقتصادية والثقافية مهددة مع العالم العربي مادام إخواننا يقتلون ويذبحون في فلسطين... ألا تملك دول الخليج تحريك ورقة النفط؟ ألا تملك مصر تحريك ورقة الغاز والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية؟ ألا توجد مصالح اقتصادية لأوربا في دول المغرب العربي؟ ألا تجمع المغرب مع دول الاتحاد الأوربي اتفاقيات اقتصادية وثقافية وأمنية يستفيد منها الأوروبيون أكثر منا؟ ألا يمكن تحريك مثل هذه الأوراق في هذه الظروف العصيبة؟ بالنسبة إلى أنظمتنا العربية الفاقدة للشرعية الديمقراطية، تبدو هذه المطالب حالمة، لأن هذه الأنظمة تعتمد في شرعيتها على دعم الدول الكبرى، وهي عاجزة عن تدبير الكثير من سياساتها الخارجية وحتى الداخلية دون تنسيق مع الدول العظمى، ولذلك فإن تحرير فلسطين ينطلق من تحرير الأنظمة العربية من التبعية للخارج وتجديد شرعيتها من جديد على أسس عقلانية ديمقراطية.. نعم، إنها معركة واحدة: معركة النضال الديمقراطي لإصلاح أنظمتنا السياسية، ومعركة تحرير فلسطين.. إنه الدرس الذي نجحت فيه حماس باقتدار كبير: المشاركة السياسية لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني الذي اتسعت رقعة فساده والمقاومة المسلحة لمواجهة الاحتلال.. أما بالنسبة إلينا في هذه المرحلة فتحرير فلسطين ينطلق من هنا... من النجاح في معركة النضال الديمقراطي..