لا تكاد تلمس ما يوحي بأن هذه المدينة كانت بالأمس القريب تطلق عليها نعوت من قبيل: طنجة مدينة عبق التاريخ، مدينة ملتقى الحضارات والثقافات، مدينة ملتقى الطرق التجارية العالمية. ولكن ما يحز في نفسنا اليوم، كون هذه المدينة الوديعة ارتدت لباسا لا يليق بسمعتها الحضارية والثقافية، إلى درجة أنها تخلت عن كل السمات التي أفصحنا عنها منذ البداية. ففي أية خانة يمكن تصنيف هذه المدينة المتعددة الاختصاصات؟، هل في خانة المدن الاقتصادية، أو في خانة المدن السياحية، أو في خانة المدن الثقافية ...فإذا اعتبرناها من المدن الاقتصادية فسنضعها في موقف حرج مع باقي المدن الاقتصادية الإقليمية والدولية، لأن ما نراه اليوم في طنجة هو بمثابة فوضى اقتصادية - ولاسيما في شقها التجاري- أرخت بظلالها على الأحياء والأزقة، وحتى الممرات العمومية لم تسلم هي الأخرى من هذه الفوضى التي ذهب ضحيتها كذلك أصحاب المحلات التجارية الذين لهم سند قانوني. أما إذا نظرنا إلى طنجة من حيث موقعها الإستراتيجي ومناخها الذي يغري كل زائر حط رحاله بها، فسنقول وبدون تردد إنها مدينة سياحية بامتياز. ولكن أية سياحة نتحدث عنها في هذه المدينة؟ ففي العهود السابقة كانت السياحة بهذه المدينة سياحة يطغى عليها طابع البساطة والعراقة، وأكثر ما كان يجلب السياح إلى هذه المدينة ساكنتها التواقة إلى مد جسور التواصل مع كل الأجناس البشرية، ناهيك عن حفاوة الاستقبال، دون أن تفقد هذه الساكنة طابعها المحافظ الذي أصبح طابعا مميزا لسكان مدينة طنجة. ولكن ما نراه اليوم هو بعيد كل البعد عن ما قلناه في حق هذه المدينة وأهلها، فمظاهر الانحلال والتفسخ قد تطاردك أين ما حللت وارتحلت، إلى درجة أننا أصبحنا غير قادرين على اصطحاب أفراد عائلتنا إلى أماكن عمومية من أجل الترويح عن النفس أو- تغيير الجو- كما يقال. فحيثما وليت وجهك يصدمك مشهد يخدش الحياء- أمام العادي والبادي - .فما رأيكم إن صنفنا هذه المدينة في خانة المدن التاريخية والثقافية. فمن الناحية التاريخية تعتبر هذه المدينة موطن العديد من الحضارات. فهي تعد من أقدم مدن المغرب أسسها الملك الأمازيغي «سوفاكس» ابن الأميرة طنجيس حوالي 1320 قبل الميلاد ، واستوطنها التجار الفنيقيون في القرن الخامس قبل الميلاد، وسرعان ما تبوأت مركزا تجاريا على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ضمتها الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد، وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، استولى الوندال على طنجة في القرن الخامس الميلادي، ثم البيزنطيون في القرن السادس الميلادي حتى فتحها الأمويون عام 702 ميلادية، ليبدأ عهد التأثير الإسلامي في هذه المدينة، وكل هذه الحضارات خلفت تراثا إنسانيا عريقا ظل صامدا لعدة قرون. ومن الناحية الثقافية قد لا يختلف اثنان في اعتبار مدينة البوغاز المكان الذي احتضن أهل الفكر واستلهم عقول المبدعين، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد مجموعة من الكتاب الأجانب وجدوا ضالتهم في» طنجة الدولية» فهي مدينة استوعبت كتابا عالميين - أمثال «جان جينيه» الفرنسي، والأمريكيين «بول بولز» و «تينسي وليامز» - ورسامين ورحالة وموسيقيين وسينمائيين، توافدوا إليها هربا من أوطانهم، لما وجدوا فيها من تحرر ومناخ ثقافي بعيد عن العصبيات والغليان السياسي. ولكن هل هذا الأمر ينطبق على طنجة اليوم؟، هل أصحاب القرار في هذه المدينة أولوا اهتماما في مخططاتهم الإنمائية للنهوض بالجانب الثقافي في المدينة؟. ففي انعدام النوادي الثقافية والمكتبات الضخمة التي تحفظ ذاكرة هذه المدينة المنسية، وفي ظل غياب شبه تام للسلطات المحلية في المشهد الثقافي – أي عدم اهتمامهم بأهل الفكر – بمعنى عدم الاكتراث لهذه الشريحة من المجتمع الطنجي التي لا تجد المناخ المناسب لنموها، ولا تلقى تشجيعا من لدنهم حين يتعلق الأمر بنشاط ثقافي، أو عمل إبداعي محلي.كما أن الجمعيات الثقافية هي الأخرى مقصرة في دعمها وتأطيرها للأنشطة الثقافية، وإن كانت هناك برامج ثقافية تدخل ضمن برنامجها السنوي فهي تبقى في غالبيتها حبرا على ورق. وإن قدر لها أن تخرج إلى النور فإن المجتمع المدني هو الآخر لا يكترث لها. وأمام هذا العقم الثقافي الذي تعرفه مدينتنا وللأسف، لايمكننا الحديث عن طنجة الثقافية التي تغزل بها الشعراء أيام عزها ومجدها. رضوان بنصار