وجد الفرنسيون أنفسهم بين دعوة الرغبة في التملي في شمس أبريل التي أشرقت أخيرا بعد غياب دام لأشهر، وبين دعوة الواجب للخروج في حركات احتجاجية في شوارع باريس وليون ومارسيليا للتنديد بالقانون الذي يتم إعداده حول زواج المثليين، ومنحهم حق تبني الأطفال. لذلك اختلف الموالون لقانون الحكومة والمعارضون له حول حجم المشاركين في هذه الحركات الاحتجاجية التي تصنع اليوم الحدث في الجمهورية الفرنسية. في ظرف أقلَّ من أسبوع، عاشت المدن الفرنسية كل الفصول: خريف وشتاء، ثم صيف حارق أشرقت شمسه ووصلت درجة حرارته في نهاية الأسبوع إلى أكثر من خمس وعشرين درجة دفعت الفرنسيين إلى الكشف عن أجسادهم وارتداء التيشورتات الملونة، والخروج من منازلهم بحثا عن الشّمس والهواء.. غير أنّ هذه الحرارة، التي تعرفها المدن الفرنسية اليوم، والتي أدخلت الكثير من البهجة على النفوس، لا تقلّ «سخونة» عن هذه الحركات الاحتجاجية التي اندلعت حول القانون الجديد الذي سيمنح للفرنسيين الحق بالزواج من مثل جنسهم، في ما يعرف بزواج الشواذ، رجالا ونساء. أصل الحكاية قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إنه لن يخلف وعوده التي أطلقها في حملته الانتخابية، ومنها الدفاع عن حق الشواذ في الحياة برفقة مرافقيهم بقوة القانون. فيما تقول المعارضة وعدد كبيرٌ من مثقفي ومفكري الجمهورية الفرنسية إن ذلك سيكون «ضد الطبيعة»، لذلك اختار المتظاهرون شعار«أب وأمّ فقط».. انطلقت الحكاية في نونبر الماضي، حينما تداولت الجمعية الوطنية في مشروع قانون تقدّمت به الحكومة الفرنسية سيسمح للشواذ بالزواج، بل وبتبني الأطفال أيضا. وعلى امتداد مائة ساعة، دافعت ثلاثة فرق من الأغلبية الحكومية عن المشروع، فيما تصدّتْ للمشروع أحزابُ المعارضة، التي يقودها اليمين، ونظمت الكثير من الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات لكي لا يمر هذا القانون، الذي يقول الفرنسيون إنه «ضد الطبيعة»، وسيقود الأسرة الفرنسية إلى الخراب. غير أنّ الجميعة الوطنية صادقت على أن يكون من حق الفرنسي الشاذ أن يتزوج من زميله. كما يمكن للمثليات الفرنسيات أن يتزوجن من زميلاتهن، بل ويتبنّيْن الأطفال. كان لا بُد أن يصل المشروع إلى مجلس الشيوخ (السينا). وكان الفرنسيون الذين يقفون ضده يتحرّكون في كل الاتجاهات لمنعه من المرور في هذه المؤسسة. ونظمت الندوات واللقاءات. لكنّ «السينا» ستصادق -هي الأخرى- على مشروع القانون ليس بالتصويت، ولكنْ برفع الأيدي فقط، وهي الثغرة القانونية التي سيستغلها معارضو القانون لطرحها في الوقت المناسب.. فرنسا غاضبة من نفسها حينما تستمع إلى نقاشات الفرنسييين والمهاجرين أيضا، تجد أنّ نسبة كبيرة منهم ترفض هذا المشروع. لكنْ حينما تتأمل ما تسفر عنه نتائج التصويت، سواء في الجمعية الوطنية أو في مجلس الشيوخ، تجد أنّ الأغلبية السياسية «مع» القرار، لذلك شكل زواج الشواذ، على امتداد أكثرَ من أسبوع، الحدثَ الذي هزّ ويهز الجمهورية الفرنسية. اليوم، تقرر أن يعود المشروع إلى الجمعية الوطنية من أجل قراءة ثانية. ولربح الوقت، قالت حكومة فرانسوا هولاند إنّ ذلك يجب أن ينطلق منذ الاثنين الماضي في لجنة القوانين، على أن تتم مناقشته في الجلسة العامة يومين بعد ذلك. أما مبرّر الحكومة فهو ضرورة الانتهاء من هذا «الملف» والالتفات إلى القضايا الجوهرية للمواطن الفرنسي، وهي بالأساس البطالة والرفع من القدرة الشرائية للفرنسيين.. لكنْ بموازاة هذا النقاش الفقهي القانوني، يتحرّك الشارع الفرنسي بكثير من القوة لمنع مررو المشروع. ورغم أنّ الأغلبية الحكومية، سواء في الجمعية الوطنية أو في مجلس الشيوخ، يمكن أن تصادق عليه، فإنّ الرهان المستقبليَّ للمعارضة سيكون هو المجلس الدستوري، الذي يمكن أن ينظر في دستورية القانون من عدمها. سنة حلوة يا رئيس بعد 17 أبريل الجاري، حيث عاد المشروع للمناقشة البرلمانية، ستندلع الاحتجاجات مجددا في 21 من الشهر نفسِه لمواصلة الضغط. ويَعتبر الفرنسيون، الذين يقفون ضد المشروع أنهم محظوظون لأنّ هذه الاحتجاجات تتزامن مع تحسّن الظروف المناخية التي سيستغلها المعارضون للخروج إلى الشّارع. لكنّ «المعركة»، كما يقول دعاة المعارضة، لن تنتهي في 21 من الشهر الجاري، بل إنها متواصلة إلى الخامس والعشرين منه، ثم إلى الخامس من ماي.. والخامس من ماي هو تاريخ وصول هولاند إلى قصر الايليزي، وأول عيد ميلاد له رئيسا للجمهورية. في انتظار قرار هولاند سؤال يطرحه الفرنسيون كثيرا منذ الآن. ويتمنون أن تتوفر للرجل الشجاعة الأدبية لسحب المشروع، باعتباره رئيسا للجمهورية، وتجنيب الفرنسيين معركة خاسرة يمكن أن تجرّ البلد إلى الكارثة، خصوصا وقد دخلت على الخط بعض التيارات المتشددة، التي لها حضور كبير، خاصة بين الجالية المسلمة، والتي تعتبر الأكبرَ في كل تراب الجمهورية.. لقد ظل فرانسوا هولاند يوصف بأنه الرجل الذي يَعرف كيف «يوفق» وكيف «يجمع»، قبل أن يتحول الآن إلى رجل يُفرّق الفرنسيين بين القابلين لقانون، يمكن أن يحدث ثورة حقيقية في الأسر الفرنسية وبين الرافضين له، بالنظر إلى أنّ نسبة كبيرة من الشعب الفرنسي لا تزال محافظة. نكتة حول قانون الشواذ كان لا بد أن يصل هذا النقاش إلى الجالية العربية المسلمة في فرنسا، ومنها المغربية بكل أجيالها. وعلى الرغم من أنّ اليسار الفرنسي ظل يستفيد من أصوات هذه الفئة من الشعب الفرنسي، التي يحق لها التصويت بالنظر إلى ما يوفره اليسار من شروط عيش أفضل واهتمام بالجانب الاجتماعي للمهاجرين من سكن وتعويضات عائلية، إلا أنّ قانون زواج الشواذ فتح على اليسار النار، وقال أكثر من مهاجر إنه لن يُصوت مستقبلا لتوجهٌ يريد أن يضع قوانين ضد الطبيعة، مهْما كانت الخلفية هي الحرية الشخصية التي تعتبر ضلعا من ثالوث شعار الجمهورية الفرنسية، وهي «العدالة والأخوة والحرية».. لذلك يتداول المهاجرون، ومنهم المغاربة الذين لا يزال الكثير منهم يعيشون في شبه عزلة عن المجتمع الفرنسي، ويطبقون شعار أنّ «المهاجر مغربي في فرنسا، وفرنسيّ في المغرب»، نكتة تقول إنه حان الوقت للزواج من صديق، أو من ابن عم أو ابن خال، لضمان أوراق إقامته، بدلا من أن يركب قوارب الموت التي يقلها بحثا عن الفردوس المفقود.. فاليوم يمكن أن يتحقق حلم الفردوس المفقود فقط بورقة زواج بين رجل ورجل، وبين امرأة وامرأة.. على طاولة مقهى في تلك الأسواق الشعبية الأسبوعية التي تنظم قرب التجمعات السكنية للمهاجرين، لا حديث إلا عن نكتة الزواج الجديد.. يضحك المغاربة من قانون هولاند، لكنهم يتألمون في الداخل لأنّ أبناءهم وبناتهم سيسمح لهم غدا، بقوة القانون، بالزواج على هذه الطريقة، لذلك قال أحد الذين قضوا هنا أكثر من ثلاثة عقود إنه لا فرق بين يسار ويمين، إنهما يتشابهان في كل شيء. احتجاج واحتجاج نطوي صفحة زواج الشواذ، رغم أنّ فرنسا لم تطوها بعدُ، ونتأمل في ما يشغل الفرنسيين هذه الأيام.. إنها الاحتجاجات، بكل الطرق والأساليب. وبالحمولة الجنسية نفسِها التي رافقت معركة الشواذ، اختارت بضعة نسوة أن يستقبلن الرئيس التونسي الجديد منصف المرزوقي بنهود عارية.. ففي الوقت الذي كان جاك لانغ، وزير الثقافة الأسبق، يقدم المرزوقي، الذي جاء إلى معهد العالم العربي في باريس ليوقع كتابه الجديد حول التجربة التونسية، اقتحمت القاعة نسوة «عاريات كاسيات» للاحتجاج على اعتقال الشابة التونسية أمينة، التي تجرّأت على كشف نهدَيها في ما وُصف بحركة «فِيمن»، التي تختار التعرّي للاحتجاج. ووجد المرزوقي، الذي عاش على عهد زين العابدين بن علي القمعَ والنفيَ، نفسَه في وضع لا يُحسد عليه.. تم «جرّ» النسوة إلى الخارج، قبل أن يُكمل المرزوقي نشاطه «الثقافي»، لكنّ الرسالة وصلت. بالتقنية نفسِها، وهي الاقتحام، اختار عمال شركتي «بوجو» و«سيتروين» المُهدَّدتين بالإغلاق، أن يُسمعوا أصواتهم للحكومة. فاختاروا أن يقتحموا قاعة اجتماعات الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي كان يتداول في قضايا الحزب. صعدوا إلى المنصة، وحملوا مكبّر الصوت ليقولوا للاشتراكيين الحاكمين، ومنهم لكل الرأي العام الفرنسي، إننا مُهدَّدون بالطرد، ولا بد أن تفعلوا من أجلنا شيئا، خصوصا أنّ هولاند كان قد زار المعتصمين في مقرّات «بوجو» و«سيتروين» وهو يقود حملته الانتخابية. حينما نتأمّل هذه الطرُق الجديدة في الاحتجاج، والتي تؤكد أنها ضدّ العنف كيفما كانت طبيعته، نعود إلى ذواتنا لنطرح السّؤال هل وصلت هذه الأساليب الاحتجاجية إلى هنا؟ نتذكر يوم اقتحم المعطلون المقرّ المركزيَّ لحزب الاستقلال احتجاجا على عباس الفاسي، وقضية تشغيلهم وما حدث مع فضيحة النجاة. ونتذكر كيف تعرَّض المعطلون للضرب والتنكيل ليس من طرف قوات الأمن، كما هي العادة، ولكنْ من بعض المناضلين الاستقلاليين. مع قانون الشواذ، المعركة متواصلة على كافة الجبهات، وقانون التصريح بممتلكات وزراء الحكومة، دخل حيّزَ التنفيذ منذ الاثنين الماضي، حيث يمكن للمواطن الفرنسي، وبنقرة على الحاسوب، أنْ يعرف ما يملكه رئيس الدولة، الوزير الأول ووزير الداخلية نفسَه، خصوصا أنّ الحكومة أنشأت موقعا إلكترونيا رسميا يتعرّف من خلاله المواطن على كل ثروة وزرائه، في أفق أن يصل القانون إلى أعضاء الجمعية العمومية. وفي أول حصيلة، اكتشف الفرنسيون أنّ ثمانية وزراء من حكومتهم الثمانية والثلاثين فقط يُصنَّفون ضمن الأغنياء. أما ما تبقى فقد كشفت المعطيات أنهم لا يتوفرون في المجمل إلا على سبعة وثلاثين منزلا، وتسع وعشرين شقة، وأربعين سيارة، وباخرتين وثلاثة درّاجات هوائية.. لذلك علقت يومية «لوفيغارو» على هذه الأرقام قائلة إنه»سْتريبتيزْ الجمهورية». أما «ليبيراسيون» فكتبت عن نهاية طابو الممتلكات.. ومرة أخرى، نتذكر حكومتنا وبرلماننا، بغرفتيه ونطرح السؤال: هل يمكن للمغربي غداً أن يطّلع، فقط بنقرة على حاسوبه، على ما يملكه بنكيران أو العنصر أو نبيل بن عبد الله، وغيرهم ممن يكونون الحكومة. في حضرة الشانزيليزي مع كل هذا الحراك السياسي والمجتمعي، الذي «تنعشه» وسائل الإعلام الفرنسية بمختلف أصنافها وتوجهاتها، تبدو منطقة الشانزيليزي باذخة وجميلة وتُغري بكل شيء ممتع.. المقاهي نشرت كراسيها الملونة هنا، واحتساء قهوة الصباح أو المساء على مرمى حجر من هذه المعلمة، التي تعجّ بكل الأجناس، له مذاق وطعم خاصّان. أما فتيات عاصمة الأنوار فقد خلعن المعاطف الصوفية الثقيلة، وارتدَين ال«ميني جيب» والأقمصة القصيرة إيذانا بمَقدم ربيع بحرارة صيف.. أما في محيط برج «إيفل» فما زالت الجموع تؤكد أن هذه المعلمة لا تزال قادرة على جلب سياح من مختلف بقاع العالم.. ورغم أنّ هذا البرج يعود إلى قرون وقرون، فإنه ما يزال يشكل مزارا لا يمكن للقادم إلى باريس إلا يحط به الرحال، ويلتقط أمامه صورة للذكرى..