أخيرا، تكشف أمريكا عن أساس المبدأ الاستراتيجي الذي اتبعته إدارة (أوباما) حيال سورية منذ اندلاع ثورتها قبل عامين، هنالك نوع من إرادة لم تعد متخفية أو متلعثمة أو مترددة إلى حد التناقض، كما كان عليه منهج التصريحات و المواقف لأقطاب هذه الإدارة وللرئيس معها. والحقيقة أن هذه الإرادة ليست جديدة، مبادئها قائمة ومستمرة وفاعلة منذ ما قبل الربيع العربي، والحدث السوري. إنها إرادة الحفاظ على توازنات الخارطة الجيوسياسية العربية لما بعد معاهدة «كامب ديفيد». وللذكرى فقط، نقول إن هذه المعاهدة لم تأت بمجرد صلْح منفرد إسرائيلي مع مصر، بل إنها أنتجت ما يشبه قيام حاكمية سياسية آمرة على مجمل هذه الخارطة العربية، على أن يظلّ مصدرها داخليا، وتفرضه أنظمة السلطات الإقليمية على ذواتها ومجتمعاتها بصورة تلقائية، وتكون للخارج وظيفة الرقابة الدولية القادرة على التدخل في الأزمات الطارئة، حسب ما تمليه عليها مصالحها الاستراتيجية. كان جوهر «كامب ديفيد» يرمي إلى إنهاء حالة الرفض الجذرية، عربيا، لإقامة الوطن اليهودي في فلسطين، وهي تلك الحالة التي توَّجت مشروع الاستقلال الوطني الذي نجم عنه بزوغ أكثر من عشرين دولة عربية جديدة، تتطلع إلى قيام كيان حضاري واحد، عمادُه وطنٌ وتاريخ لأمة افتقدت حريات مجتمعاتها طيلة قرون؛ وعندما استطاعت أن تطرد أخيرا قوى الاحتلالات الاستعمارية، عاد الغرب ليفرض بديلا لاحتلال آخر، هو الأكثر خطورة وتهديدا، ضدا على الوجود العربي نفسه هذه المرة؛ فالصهيونية لا تخترع شعبا بديلا عن شعب فلسطين فحسب، إنها تطرح نفسها نقيضا كاملا لمشروع النهضة العربية المنتظرة ما بعد حقبة التحرر من التسلّط الأوربي. معاهدة «كامب ديفيد» أرست دعائم الحماية الشاملة للمشروع الصهيوني، انطلاقا من إلغاء مبدأ الحرب ضده، كمحرك مركزي للأمن القومي العربي، لم يكن ذلك الهدف ممكنا إلا بإعادة صناعة عقل عربي آخر يكون قادرا على إعادة إنتاج مناهج تفكيره وآلياتها المعتادة في بناء المفاهيم المختلفة وصيغ ارتباطاتها في ما بينها. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، أحدث العقل العربي على الأقل ثلاث هزات أو صدمات في حق ذاته، وفي التحولات البنيوية الأساسية لأهم المجتمعات العربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا؛ كان أكبر تغيير مالئ للبصر والبصيرة معا من قبل الرأي العام هو انقلاب التحشيد المجتمعي من التعبئة العسكرية الموجهة ضد المشروع الصهيوني وحلفائه، دوليا ومحليا، إلى وضع التعبئة الأمنية والبوليسية التي تحوّل المجتمعات من العلاقات التضامنية بين جماهيرها كمواطنين أحرار، وبين قياداتها كزعماء كارزميين، تحوّلها إلى أوضاع الاستقطاب الرأسي بين حكام مستغلين، سياسيا واقتصاديا، وبين محكومين كرعية تبعية في معظمها، أو ذيلية لمراكز القوة، وحولها هوامش من المعارضين الكلاميين أو أشباه الصامتين. لقد استقر هذا النوع من الهرم الدولاني المجتمعي فارضا ثقافة العزل التام على كل حراك شعبي، في أي حقل من حقول الحياة المدنية العادية، فإن بضعة أسماء للحكّام كانت كافية لاختزال كل فعالية عامة، باتت الشعوب أقرب إلى المصطلح الهندسي كفئات فارغة من الشكل والمضمون معا. ما ندعوه بمركب الاستبداد/الفساد الحاكم بأمر هذا الهرم الصخري لم يكن ظاهرة سياسوية طارئة، كان هو نموذج السلطة الوحيد، والممكن لإدارة الواقع العربي الجديد، المنقلب على ذاته؛ على وعود مستقبله بدءا من فرض حاضر قطري قومي مضاد، وقاتل خصوصا لبذور هذه الوعود، وإمكانياتها التاريخية؛ فقد كان على مركب الاستبداد/الفساد أن يقلب أحلام (الأمة) إلى كوابيس رهيبة، في حين كان العرب، عشيةَ استقلالهم الوطني، موشكين على التملك دفعة واحدة من حقوقهم الإنسانية والتاريخية، من باقاتها الثلاث: المدنية فالسياسة فالاجتماعية، أي كان الاستقلال الوطني واعدا أجياله بتحصيل جائزة المدنية، مصحوبة بعلامات فارقة عن أمتهم، من خلال باقات حقوقهم الثلاث، تلك التي كانت نسيتها طيلة عصور انحطاطها، بينما كان الغرب يصعد سلمه النهضوي درجة بعد أخرى، بكل الصعوبات والتضحيات المطلوبة، لكي يكتسب هذه الحقوق، موزعة على مراحل مديدة من زمن الكفاح وراء مفاهيم الحرية الكاملة. نقول إن الاستقلال الوطني عربيا كان حاملا في طياته ما يبشر بإمكانيات ريادية لقانون حرق المراحل كما تمارسه بعض الأقطار المتميزة بخصائصها القيادية نحو استكمال الكفاح السياسي بالكفاح الإنساني. كان ذلك استقلالا متعجلا لاستدراك ما فاته من رهاناته التاريخية تحت وطأة العطالة الحضارية المتمادية لقرون عجفاء عقيمة. «كامب ديفيد» لم تهزم عصر المقاومة العربية ضد الغزو الصهيوني فحسب، بل حاولت أن تضع حدا لمنجزات الاستقلال المكتسبة، ول«معجزاته» المتصورة والمنتظرة. لقد أعادت إحياء خارطة «سايكس بيكو» المستمرة في تقطيع أوصال الوطن القومي للعرب، كشرط جغرافي كاف حتى اليوم لإحباط الوحدة السياسية الدولانية، كانت إعادة إحياء هذه الخارطة بإضافة خارطة أخرى تحت عنوان الحيلولة المنظمة دون قدرة العرب على ممارسة شروط الثورة الحقانية كطريق أخير نحو استردادهم لأصول السيادة المشروعة على كرامتهم، بما يشكل مؤونة ثقافية لكل رهان أنطولوجي على استحقاق عرب اليوم والغد لمعاني إنسانيتهم بتكاليف الحضارة المبدعة والعادلة وحدها. ما يفعله الغرب راهنا إزاء المصير النهائي للربيع العربي من مدخل الاستعصاءات في الثورة السورية هو أنه مصمم، كما كان طيلة تاريخه، ليس على قمع هذه الثورة بيد عدوها النظام الفاشي الحاكم، بل بما يجعلها رهينة التآكل الذاتي بفعل تناقضاتها الخاصة، إزاء هذا المصير المقرر أجنبيا على الثوار الحقانيين منهم وحدهم، أن يبعثوا أعمق وأغلى تراث لتجربة الاستقلال الوطني القومي، وهو أن يردوا إلى الثورة كرامتها الوجودية وليس الأخلاقية فحسب، فلا يجعلوا حياة الثورة متوقفة على منحة مال أو سلاح من هذا (الأجنبي) أو ذاك، فأروع خصوصية لثورة الشام أنها كانت صنيعة أنظف براءة شبابية، فلا تدعوها تتلوث بمناورات كل أعدائها المصنفين اصطلاحا زائفا، بأسماء الأصدقاء والمتعاونين والداعمين. لم يكن استقلال الثورة الشامية منذ نشأتها حلما مستحيلا، كان هو واقعها ومتراسها، وكان على مكتسبات الثورة خلال العامين أن تلقى تسويغها الحقيقي من صفتها الاستقلالية هذه، فهي قوتها الداعمة، وقد تضاعفت براهينها عبر هذا الفيض العظيم من مآثر الصمود والتضحية وشجاعة الرأي والممارسة معا. كلمتنا في العيد الثالث: «حينما لا يمكن رفض المعونات، يبقى الحذر من الأيدي الممتدة وراءها». هذه ليست حكمة مجهولة من أحد، لكن الخوف هو من تسويغها لكي يصار إلى تجاهلها، بمعنى الأخذ بها وهي على علاتها. الثورة والسلاح والمال، ثلاثي قاهر قلما تجتمع حدوده معا في واقعة واحدة. ولأن ثورة الشام راحت تترنح بين صيغ متعددة من الصراع، تارة من الحرب الأهلية، وتارة أخرى تتوزعها بعض القوى المختلفة بالإيديولوجيات، وحتى بالأهداف، وتارة ثالثة تتخاطفها من تتسمَّى بشعارات المعارضات المغتربة، فإنها لم تكد تفقد هويتها بالرغم من كل هذه (النقائص) التي قد يقترب بعضها من خصائص الانحرافات الكبرى، أو حتى الكوارث التكوينية. وما نعنيه هنا بهوية الثورة، ليس الانتماء العرقي أو الجغرافي ولا الإيديولوجي بجماعاتها وأفرادها، بل هو كون الثورة حقانية بالنسبة إلى ذاتها أساسا، لها شروطها الموضوعية المبررة منطقيا وعمليا؛ ولقد تقبل الحدس العام عربيا ودوليا حقانية شاملة للربيع العربي، ولا تزال معظم ثوراته موضع رعاية وتفاؤل بنجاحها لدى معظم الرأي العام. يحدث هذا مع موجات كثيرة من الشكوك العامة، وأحيانا تصل المواقف السلبية إلى حدود الرفض والتحول إلى ما يشبه ثورة على الثورة. لكن يظل للسيل الأصلي لونه النقي مهما اعتورته جداول عكرة تنصب عليه من حوافيه، وقد تكون أخطرها تلك التي تنبعث التشرذمات من نسيجه بالذات. فمن المقبول تاريخيا واجتماعيا أن تؤم الكيان الثوري نماذج خلافية، لكن قوة السيل هي الجارفة، وفي حوضها بالذات، للحصى والرمال، فالتشرذم مرض مؤذ، وتصويبه هو في إضفاء التعددية على بعض مظاهره، كوسيلة اعتراف بغنى الإمكانيات، وليس بتبديدها في جبهات متصارعة فعلا وإن ظهرت متقاربة. والتعددية في حد ذاتها ليست منتجة لأعذار أو مواقف محكومة غالبا بالنفاق والمداهنة إلا بفعل انفتاحات غير واعية على قوى طرفية أو غريبة. والثورة السورية تحديدا كانت دائما أقرب إلى الانفتاح الواسع، فإن طول الزمن وتعدد جماعات العمل الميداني، وعنف المجابهات اليومية، كل ذلك يمكن تصنيفه في خانة الأسباب الموجبة لمظاهر الضعف والتخلخل أحيانا كثيرة؛ فالنقد، ونوعه المفضل المعروف بمناهج النقد الذاتي، لا يشكل تهديدا لوحدة الأهداف وتنوع الوسائل، إلا عندما يخفت إيقاع النشاط الميداني. من هنا كانت نجاعة الدعوات التي يطلقها أصدقاء الثورة بأن يصبح الميدان ليس فقط ساحة لفصل الخطاب مع العدو، بل مع وما بين فصائل القوى الثورية نفسها حتى يمكن للتنوع أن يكون صحيا، وليس بؤرة لخلافات وانشقاقات. إذن، يظل معيار الثورة هو الميدان، حيثما تبين علاقات القوى والضعف بما يشبه التجسيم المادي المباشر، وتتشكل بموجبها مصائر الثوار كأفراد وليس كفئات فحسب، هنا تنبني أسس المعادلات السليمة، وضدا على معادلة التوافق الإكراهي بين الثورة والسلاح والمال؛ فالرأسمال الحقيقي للمتغيرات التاريخية هو صناعة بشرية خالصة، ولها أبطالها المجهولون غالبا، هم حاملو أسرارها الأزلية، لا تدل عليهم أرقام الضحايا وحدها، لكل منهم قصته الماضية مع صاحبها المجهول، يبقى الاسم الجمعي يتمنّى أن يسمى كل أحد، ولكن عبثا! مطاع صفدي