ما يحدث اليوم في سوريا لا يدع أي مجال للشك في ما يرتب للوطن العربي ككل، وليس فقط لسوريا، من أهداف حقيقية تعيد إحكام قبضة صناع القرار الدولي على الأمة العربية ومقدراتها، وتعيد الشعب المنتفض من المحيط إلى الخليج إلى سابق عهده من الاستكانة والخوف والخنوع وإطفاء شعلة الأمل في إمكانية التغيير الديمقراطي الشامل. لقد كان واضحا منذ بداية انتصار الانتفاضات الشعبية السلمية في الوطن العربي أن مخططات القوى الاستعمارية في المنطقة قد أربكت إلى حد ما، خاصة وأن هذه الانتفاضات قد جاءت في وقت غير مناسب تماما، فالأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالعالم قد ضاعفت من أطماعها ومصالحها في المنطقة، وجعلت تهديد «استقرار» هذه الأخيرة أمرا غير مسموح به على الإطلاق باعتبار أنها داخلة في مجالها الحيوي. يضاف إلى ذلك تزايد نفوذ بعض القوى الإقليمية وصلابة الموقف الروسي والصيني مما تعرفه المنطقة وتأثير ذلك على مصالحهما الاستراتيجية. ومن ثم وظفت الإمبريالية المأزومة أدوات وآليات مختلفة لإجهاض أو سرقة الثورات التي أسقطت بعض الطغاة، كما تعمل جاهدة على إعاقة الانتفاضات المستمرة في معظم الأقطار العربية، بل تعسكر بعضها حتى يتسنى لها ضبط خيوط اللعبة السياسية بعد ذلك بإرساء دعائم النظام السياسي الذي تريده، أي النظام الذي يضمن لها استمرار الاندماج والذوبان في فلكها دون مقاومة تذكر، وبما يخدم مصالحها ومصالح ذراعها الصهيونية في المنطقة. ولعل المثل الصارخ على التدخل السافر في مسار بعض الانتفاضات الشعبية هو ذاك الذي شهدناه في ليبيا وما آل إليه وضعها من تدهور أمني وما نشهده اليوم في سوريا من حرب ضروس. علينا أن ننظر بتمعن إلى هذا المنحى الذي اتخذته الثورة السورية من انتفاضة سلمية إلى حرب طاحنة أتت على أكثر من ستين ألف مواطن سوري ممن استشهدوا ومئات الآلاف ممن شردوا في مخيمات اللجوء وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين لنقف على الدور الخبيث الذي تلعبه أمريكا وأخواتها في الغرب الاستعماري لتعقيد الوضع في سوريا، ثم بعد ذلك تقديمه في صورة مشوهة، تبعث الإحباط واليأس لدى المواطن المنتفض سلميا في أكثر من قطر عربي، ولدى الشعب السوري الذي وجد نفسه مستدرجا في صراع مسلح ضد النظام أو ضد الجماعات المسلحة المتقاتلة. مما لا شك فيه أن المقاربة الأمنية التي نهجها النظام السوري في بداية مواجهته للانتفاضة الشعبية السلمية قد أنتجت ردة فعل طبيعية، بالنظر إلى سياق وزخم الثورة الشعبية التي يعرفها الوطن العربي، وهي تشبث المعارضة بالحق في استمرار التظاهر السلمي إلى حين تحقيق المطالب المرفوعة. هكذا بدأت الأحداث التي تخللتها بعض الإصلاحات المتخذة من طرف النظام والتي اعتبرتها المعارضة دون مستوى المطالب الشعبية، فاستمرت في حراكها الشعبي السلمي. لكن القوى الخارجية المتربصة بسوريا كان لها رأي آخر فدخلت على خط الانتفاضة الشعبية ودفعت في اتجاه التصعيد على مستوى الخطاب والشعارات بداية، ثم انتقلت بسرعة مشبوهة إلى الدفع في اتجاه عسكرة الانتفاضة وتصعيد العنف المادي، سواء من خلال تسليح السوريين الذين دخلوا في دوامة العنف والعنف المضاد أو من خلال اختراق الجماعات القادمة من خارج البلاد وعلى رأسها القاعدة وغيرها من جماعات العنف الأعمى. ما يسجله التاريخ، بدون شك، هو أن المعارضة الديمقراطية، ومنها «هيئة التنسيق الوطنية»، وبخلاف «المجلس الوطني» المشكل خارج سوريا، قد أعلنت، منذ البداية، رفضها للتدخل العسكري الأجنبي ورفضها لعسكرة الانتفاضة، وبالطبع رفضها القمع الدموي للنظام؛ وهي لازالت إلى اليوم منخرطة في الجهود المبذولة من أجل إيجاد حل سلمي للصراع الدامي في سوريا ومن أجل ترتيب انتقال ديمقراطي للسلطة. غير أن الأطراف الإقليمية والدولية التي تقف وراء تأجيج الصراع الدموي وإذكاء العنف والعنف المضاد، بغية تحقيق أهداف باتت واضحة اليوم، وهي مزيد من التقسيم والتفتيت الطائفي والمذهبي في المنطقة، تعمل على إفشال كل المبادرات السياسية لحل الأزمة في سوريا، وتدفع أطراف الصراع بعيدا عن طاولة المفاوضات. كل ذلك تمهيدا، إن اقتضى الحال، للتدخل العسكري المباشر، خاصة إذا ما تعذر على الجماعات المسلحة حسم الصراع المسلح ضد النظام بما يخدم الأجندة الخارجية. المسألة، كما يتبدى، غير مرتبطة بمساعدة الشعب السوري على تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي يطمح إليه، بل بالرغبة في استباق المسار الثوري السلمي وقطع الطريق على إمكانية إرسائه لمقومات الانتقال الديمقراطي بعيدا عن العنف وبما يحفظ وحدة وسيادة سوريا وتماسك نسيجها الاجتماعي والديني والثقافي. إن الدفع المحموم نحو الحسم العسكري دون غيره من الخيارات الأخرى ليذكرنا بسيناريو الحربين الأولى والثانية التي شنت على العراق، حيث كانت الذريعة يومها هي استعادة الكويت لسيادتها بالنسبة إلى الأولى، وتدمير أسلحة الدمار الشامل وإسقاط الدكتاتورية بالنسبة إلى الثانية؛ في حين اتضح الهدف الحقيقي بعد وقف العدوان المباشر، وهو تدمير العراق الذي مثل آنذاك قاعدة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية فتحت آمال العرب في إمكانية التقدم العلمي والتكنولوجي الذي من شأنه مساعدة العرب على اللحاق بركب الأمم المتقدمة ودخول عصر العلم والتكنولوجيا. ومهما اختلفت السياقات والأحداث، فإن الغاية، هذه المرة كذلك، من عسكرة الصراع في سوريا واحتضان الحلف الإمبريالي الاستعماري للمعارضة المسلحة، واستدراج المجموعات المدججة بالأسلحة والقادمة إلى سوريا من المحيط الإقليمي ومن كل فج عميق، ليست ببعيدة عن الجموح المتحفز إلى الانقضاض على سوريا الوطن والشعب وليس النظام. وتحت غطاء نفس الشعارات البراقة، من قبيل دعم الثورة والتحرر والديمقراطية وإسقاط الديكتاتورية وخطر أسلحة الدمار الشامل، تدفع القوى الإمبريالية المعارضة المسلحة في سوريا نحو التصلب، وكما فعلت بالأمس عندما دفعت بالنظام في الكويت نحو الإعراض تماما عن الحل السياسي، تكرس الإصرار الأعمى على خيار واحد لنزع فتيل الأزمة في سوريا، وهو خيار الحل العسكري الدموي، غير آبهة لفظاعة نتائجه المدمرة للإنسان والمكان، وما سيترتب عن كل ذلك من تخريب للنسيج الاجتماعي وتفجير للتناقضات التي لا يخلو منها مجتمع، ومن مخلفات ستتعدى آثارها القطر السوري لتمس المحيط الإقليمي والعربي والإسلامي. أما السؤال الملح فهو: لماذا تصر الدول التي تسمي نفسها صديقة لسوريا، ومنها العربية، على استمرار الصراع الدموي، وجلب المقاتلين الأجانب ومدهم بالسلاح وبكل وسائل الدعم اللوجستيكي والإعلامي بدل دفع كل الأطراف المتصارعة في اتجاه الحل السياسي التفاوضي بما يساعد على تلبية مطالب الشعب السوري في التغيير الديمقراطي حقنا للدماء السورية؟ لا يبدو أن هناك علاقة لهذا الإصرار برغبة حقيقية في مساعدة الشعب السوري على تحقيق مطالبه في الديمقراطية والحرية والكرامة وإلا فإن معظم أنظمة الحكم العربية هي أبعد ما تكون عن شيء اسمه الديمقراطية؛ والمنطق، في هذه الحالة، يقتضي إشعال نار الحروب فيها أيضا، واستدراج الجماعات المسلحة إليها لقلب أنظمة الحكم بالقوة وإقامة الديمقراطية بها كذلك.. أما ما تقوم به المعارضة المسلحة في سوريا، عندما ترفض الحل السياسي أو تضع له شروطا مسبقة لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع على الأرض ولا فداحة الخسائر في الأرواح والأبدان والعمران ولا النوايا المبيتة لمن يمدها بالدعم المالي والعسكري والإعلامي، فهو، في حقيقته، من حيث تدري أو من حيث لا تدري، تصريف لمهمة خاصة تسعى القوى الكبرى إلى إنجازها عبر ما تسميه بالفوضى الخلاقة، تلك الفوضى التي أعطت نتائجها الملموسة في العراق، حيث أجهز العدوان الأمريكي في حربه الوحشية على مقومات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية هناك، قبل أن ينسحب شكليا مخلفا وراءه خرابا ودمارا وتجزئة وتفتيتا وطائفية وفقرا وتخلفا واستبدادا وظلما، مما سهل على الإدارة الأمريكية الاستفراد بالمقدرات الهائلة للعراق، وفي نفس الوقت إحباط تطلع الأمة العربية نحو التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي الذي دشنت طريقه العراق آنذاك. لا غبار على هزيمة النظام الاستبدادي العربي أمام الانتفاضات الشعبية السلمية في أكثر من قطر عربي اليوم، ولا جدال في أن ممارسات القمع والإهانة وحرمان المواطن من أبسط الحقوق الإنسانية قد أصبحت أمرا غير مستساغ وغير مقبول ودونه الاحتجاجات والتظاهر وكل وسائل التعبير السلمي عن الرفض وعدم الرضى إلى حين تحقيق المبتغى. أما الحاكم الذي لازال يحلم بالقدرة على الحكم بالعصا الغليظة بعيدا عن المراقبة والمحاسبة الشعبية وعن مستلزمات النظام الديمقراطي فإنه، لا شك، غير مدرك لقوة الزلزال الذي تعرفه المنطقة بعد حادثة الشهيد «البوعزيزي» والذي تداعت له أرجاء الدنيا لتحد من «خسائره» وارتداداته. لكن، لا غبار كذلك على حقيقة أن من يضع يده في يد العدو المتربص بالبلد وتراب البلد وخيرات البلد ومستقبل البلد لا يقل جهلا باستحقاقات العهد العربي الجديد، فهو بطلبه تدخل الخارج لتدمير مقومات الوطن والأمة يخون، لا محالة، قيم الوطنية ومبادئ الثورة والأمة ويرتمي في أحضان الشيطان، بهدف الوصول إلى كراسي السلطة وليس بهدف تحقيق الديمقراطية والكرامة والحرية بالضرورة، حيث لا يمكن تصور تحقيق أي منها في غياب السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، ذلك أن تحرير المواطنين لا ينبغي أن ينفصل عن تحرير الأوطان.