دخلت متجرا واشتريت علبة حليب وأشياء أخرى. بالكاد انتبهت إلى رجل بزي أمني كان يجلس متعبا على كرسي صغير في جانب من المتجر وهو يتناول خبزا محشوا بشيء ما وعلبة عصير. عندما خرجت من المتجر، انتبهت إلى سيارات أمن متراصة في صف طويل في شارع مظلم. تذكرت، فجأة، أن اليوم هو الذكرى الثانية لولادة حركة 20 فبراير. داخل السيارات عشرات من أفراد الأمن المدججين بالهراوات وما شابهها. اقترب مني رجل مدجج بعتاده الكامل المخصص لقمع المظاهرات، وبدا كأنه انتهى للتو من معركة حامية الوطيس. طلب مني أن يتحدث إلي قليلا. اعتقدت، في البداية، أنهم يبحثون عن الذين لم يشاركوا في المظاهرة لكي يعطوهم حقهم من الزرواطة بشكل انفرادي، لكن الرجل فاجأني بأدبه الجم وهو يقول إنه شاهدني أشتري علبة حليب معينة داخل المتجر، وإنه سيعطيني نصيحة. قمعت ضحكة كانت تناضل للقفز من بين أسناني وأنا أسمع الرجل يتحدث بشكل مدهش عن الفرق بين أنواع الحليب. نصحني بألا أستمر في شرب ذلك الحليب الذي اشتريته لأنه مثقل بالدهون، وأنه يزيد الوزن، ومع ازدياد الوزن تزداد الأمراض، ومع ازدياد الأمراض تزداد احتمالات الموت المفاجئ. رأيت أن الموضوع جدي فسألته عن البديل، فطلب مني أن أتناول نوعا معينا قال إنه صحي أكثر. في تلك اللحظة كنت متأكدا من أن كل من يرانا ونحن في حوارنا العميق سيظن أننا دلفنا إلى مجادلة قوية حول موضوع أمني خطير، أو أنني كنتُ محط شبهات ووقعتُ أخيرا، لكن الرجل كان لطيفا وصادقا في نصيحته، وشكرته بامتنان وأنا أسترق النظر، بين الفينة والأخرى، إلى «لباس الحرب» الذي يرتديه، وسألت نفسي كم من ضربة وجهها إلى المتظاهرين هذا المساء قبل أن يجد نفسه في مكانه الطبيعي ويحس براحته في تقديم نصيحة إلى مواطن مثله؛ ومع ذلك بقي سؤال عالقا في ذهني، وهو: لماذا ينصحني أمني بالابتعاد عن حليب يزيد الوزن، رغم أن الهراوات تجد راحتها أكثر في أصحاب الأوزان الزائدة؟ هذه الحكاية جعلتني أستعيد صور وحكايات أفراد أمن كثيرين كانوا يحلمون بأن يكونوا أطباء أو مهندسين أو خبراء تغذية أو محامين، فانتهى بهم المطاف مجبرين على حمل هراوات ومواجهة مظاهرات هم، في الغالب، يتفهمون أغلب شعاراتها، لكنّ للقدر أحكامه التي لا يقدر على تغييرها أحد. نسيت هذه الحكاية إلى أن قفزت إلى الواجهة، قبل أيام، تلك الحادثة المرعبة لشرطي مشرع بلقصيري الذي أطلق النار على ثلاثة من زملائه، ثم قال بعد ذلك إن أشياء كثيرة كانت تحدث في تلك «الكوميسارية»، من بينها أن كل شرطي يريد أن يشتغل في «الباراجْ» عليه أن يدفع يوميا 600 درهم لل«الشاف»، وأشياء أخرى. عدت القهقرى بذاكرتي إلى ذلك الأمني الذي قدم إلي نصيحة غذائية، مباشرة بعد أن أكمل مطاردة شباب حركة 20 فبراير الذين يطالبون بإسقاط الفساد، وقلت مع نفسي إن هذه البلاد ليست غريبة فقط، بل هي في آن مبكية ومضحكة، وشر البلية ما يضحك. الشرطي الذي أباد زملاءه فعل ذلك، ظاهريا، احتجاجا على وقوعه ضحية الفساد، لكن واقع الأشياء يقول إنه هو أيضا كان جزءا من ذلك الفساد، وإنه احتج عندما لم يعد يجد مكانه ضمن تلك الآلية. بعد ذلك الحادث المثير، بدا الناس وكأنهم اكتشفوا الفساد لأول مرة، واستغربوا أن يكون على شرطي واحد دفع 600 درهم في اليوم لرئيسه مقابل العمل في الحاجز الأمني، «الباراجْ»، وهو ما يعني أن القوانين في هذه البلاد صارت فقط وسيلة لحلب المواطنين، والمواطنون بدورهم صاروا وسيلة لإنعاش الفساد. قضية «الباراجْ» سلطت الضوء على فساد عظيم ينخر هذه البلاد، ليس في «الباراجات» الأمنية فقط، بل في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والدين والدنيا، والفساد عندما يكبر ويتحول إلى وحش فإنه لا يفرق بين مدني وعسكري أو بين شرطي وبائع متجول. حادث بلقصيري ذكّرني برجل الأمن الذي نصحني بالتوقف عن شرب حليب معين لأنه يزيد الوزن، وبالتالي يزيد المرض، والمرض يؤدي إلى الموت المفاجئ. أنا، بدوري، أستغل هذه الفرصة لكي أوجه نصيحة «أخوية» إلى كبار الفاسدين: توقفوا عن الفساد لأنه يزيد من احتقان المجتمع، واحتقان المجتمع يؤدي إلى مخاطر الانفجار، ومخاطر الانفجار قد تؤدي إلى الانهيار المفاجئ لبلد بأكمله.