رنّ الهاتف مرّات ومرات.. تطالع بطلتي الرقم فتُخرس موسيقاه.. وحينما أجابت أبتْ أن تضعه على أذنها، فأطلقت العنان لمكبّر صوت هاتفها وأخذت تحدّثه... قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أخبرك بقرار إنهاء علاقتي بك قالت: ولمَ لا تمنحني وتمنح نفسك فرصة أخيرة؟ قهقه، وردّ: لا أريدك، لا أحبّك، طويت صفحتك! قالت: أعترف أنني أخطأت وبدورك فعلت.. لأنك إنسان وسيأتي يوم يؤنّبك فيه ضميرك. قال: لستُ إنسانا.. لا ضميرَ لي.. لم أخطئ ولن أغفر لك.. اتهمتني في شرفي وادّعيتِ أنني خنتك. ردّت: ادعائي غيرة وحبّ، وأنت رجل حاجتك إلى امرأة قائمة.. قهقه.. بعثر الكلمات في وجهها. قهقه مرة أخرى: أتحبينني؟ أجابت:أجل...قهقه، مُودّعا وانصرف.. أغلقت هاتفها.. شدّت بيدها على جبينها، وهي تردد من دون توقف: خنتَني بينما لم أخنك.. رميتَ بي بينما تمسّكتُ بك.. أداعب رجولتك، بينما تقسو على أنوثتي، أحببتُك وكرهتَني. أطبقت على هاتفها، لكنها لم تغلق فوهة غضبها وجرحها أيضا.. جرح امرأة مدّت يديها الاثنتين لرجل خان لهفتها إلى حضنه، لديه «حق»، فيكفي اعترافه بأنه ليس إنسانا، ربما هو صادق في قوله، لأنّ من صفات الإنسان أنه يخطئ ويعفو، يُحبّ ويخلص ولا يرد دعوة سلام، وأيضا يصون شرف امرأته ولا يدوسه بكلماته، لأنّ من خصال الرجل المغربي، الذي طالما وصفته لي جدتي في مضمون دعواتها «الله يْبيّض سْعدك» و«الله يْعطيك نقرة فينْ يْغبر نحاسْك».. كمقدمة تردّدها قبل كل طلب لتجعلني أهرول لتنفيذه والابتسامة تعلو شفتَيّ.. دعوات صادقة، نابعة من متمنياتها لي شأن بنات العائلة، بأن أحظى رجل تُجمل صفاته في «الراجل اللّي يْموت على أرضُو أو عْرضُو». ذرفت الجالسة قرب مائدتي في المقهى دمعا انهمر على خدّيها دون استئذان ولا مبالاة بالمحيطين وتأويلاتهم حول حكايتها، شربتْ نخب نهاية قصتها، التي خرجت منها خاوية الوفاض إلا من كلمات جارحة.. حيث رمى بها الرجل في وجهها دون رحمة.. أرداها قتيلة على رصيف الحب.. أحبّته إلى حد الثمالة.. أخلصتْ له.. لكنه ذبحها حتى الوريد، مثّل بجثثها، ظنا منه أنه سيزهو وينتشي بانتصاره الوهمي. لكنْ لا بأس، لا تحزني -سيدتي- فأنتِ اليوم حرة طليقة.. كل الأشياء من حولك هي لك كل الأمور بعد رحيله مسماة باسمك.. فلا تحزني، فرجلك لم يأخذ منك إلا صورك وأرشيفَ قصائدك، دعيها تزيح عنه ظلام لياليه وتؤنسه حينما يشرب نخب العبث في كل مرّة بامرأة.. فأنت الحبيبة، مَهْما أنكر وأنت السيدة مهما تجبّر... وتغيير لون سرير النوم لن يزيح رائحة عطرك عن خشبه.. فأنت من اخترته واقتنيته ورتّبتِ ملابسك على أدراج صوانه.. لا تكثرثي فأنت موجودة في كل مكان، وابتسامتك تطارده في المطبخ، في الصالون وفي الحمّام. وأنت، أيها الرجل، سيد الرجال يوما، اسمعني ولو لمرة نيابة عن بطلتي -التي تعبت حبالها من النداء بأنها«تهواك»- لا تقاطع ذبذبات صوتي، واسمح لي أن أنبهك بأن المرأة نفسها التي قالت «أحبك»ليس صعبا عليها أن تكرهك، لكونها الكبرياء ذاته، العفة في نقائها، الحب في ثورته، الصدق بكلّ عنفوانه. اغمض عينيك ونم لعلّ النوم.. يُذكّرك أنك ما أنت إلا إنسان، تخطئ، تظلم، تمرض، تسقط، تفشل.. وما قهقهاتك المُصطنَعة إلا لحظة تشييع للضّمير.. حملتْ سيدة نبضاتي حقيبتها وهاتفها وردّدتْ بأعلى صوتها: «اللي ضْرّقني بخيط نضرّقو بحيط»..