عندما قبّل المواطن الصالح، مولاي هاشم، حذاء نائب وكيل الملك في ميدلت، قامت القيامة على ما اعتبره الكثيرون إهانة لوجه ذلك المواطن الذي كرمه الله بأن جعله في الأعلى. والحقيقة أن المواطن الحقيقي لا يركع لتقبيل حذاء حتى لو كانت منصة الإعدام منصوبة أمامه. في كل الأحوال، فإن الناس عندما يحتجون على تقبيل حذاء ما فإنهم يجهلون قيمته ولا يعرفون أن الدنيا لا يمكنها أن تسير بدونه، لكن المشكلة الوحيدة أن الحذاء موجود في الأسفل وليس في الأعلى، مع أن كثيرا من الناس يستحقون أن يكون رأسهم في مكان حذائهم وحذاؤهم مكان رؤوسهم. تاريخ الحذاء مثير بجميع المقاييس، وهو اختراع حقيقي في مسيرة البشرية، ولولاه لكانت الحياة مختلفة تماما عما هي عليه اليوم. كثير من المؤرخين يمجدون اختراع البشر للنار ويعتقدون أنها الأهم في تاريخ الإنسانية، لكن الحقيقة أن الإنسان اخترع شيئين مهمين هما النار والحذاء، وبقدر ما كانت النار ضرورية لمسيرة الحضارة والتطور، فكذلك كان الحذاء، لأنه لا يعقل أن تبني البشرية حضارتها وهي حافية الرجلين. تقول بعض المصادر التاريخية إن أول حذاء في التاريخ ظهر قبل سبعة آلاف سنة قبل الميلاد في أمريكا الشمالية، وهو ما يعني أن الهنود الحمر هم أول من انتعلوا حذاء، وكان حذاء مصنوعا من أنواع معينة من النباتات، وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام ظهر الحذاء المصنوع من الجلد. هكذا كانت البشرية تتقدم من الحذاء النباتي إلى الحذاء الجلدي في ثلاثة آلاف سنة، بينما البشرية تتقدم الآن من آيفون 4 إلى آيفون 5 في ثلاثة أسابيع. مرت آلاف السنين بعد ذلك، ومرّ الحذاء من تطور بطيء وماراثوني، حتى حدود القرن السابع عشر الميلادي، عندما صار الحذاء علامة على الرقي الاجتماعي، وكان نبلاء أوربا يرتدونه كنوع من الأبهة الاجتماعية، وصار الفنانون والصناع يبدعون في صنع أحذية فارهة ومثيرة للأغنياء، لذلك كان النساء والرجال على السواء يرتدون أزياء قصيرة حتى تبقى أحذيتهم ظاهرة للعيان، تماما مثل القبعات التي على رؤوسهم. في تلك الأيام الغابرة، كان أغنياء أوربا يركبون أحذيتهم العالية كأنهم يركبون «الكات كاتْ»، وكلما ارتفع الحذاء بصاحبه كلما ارتفعت مرتبته الاجتماعية والسياسية. في القرن العشرين، دخل الحذاء مرحلة مثيرة وصار شبيها بصناعة السيارات والطائرات، أي أن شركات ضخمة وعالمية تكلفت بصنعه، وتنافس في سبيله كبار الصناع والمستثمرين، وانتقلت أسعاره إلى أرقام خرافية، وكان التمساح أحد أهم ضحايا الحذاء، لأن من جلده يُصنع أحد أفخر أنواع الأحذية، ويباع الزوج الواحد منها بقرابة عشرة ملايين سنتيم، بينما التمساح الحي لا يساوي أكثر من حفنة من الدراهم. وخلال المرحلة الذهبية للسينما، صار الحذاء جزءا أساسيا من الحبكة والسيناريو، وبدأت أفلام هتشكوك تعتمد على مشاهد الأحذية من أجل خلق الرهبة والتشويق، ثم تطورت مهامه السينمائية فوصلت أوجها عندما رفعت الريح الفستان الأبيض لمارلين مونرو في شريط «الرجال يفضلون الشقراوات»، فظهر حذاؤها الأبيض الناصع جنبا إلى جنب مع أشيائها الأخرى. بعد ذلك، دخل الحذاء مجال السياسة، وصار أعضاء البرلمانات ومجالس الشيوخ في أوربا ينزعون أحذيتهم ويضربون بها على المنصات عندما يحتجون على قرارات سياسية. ومنذ تلك الأيام، ارتبطت الأحذية بالسياسة والمعارضة والنضال. العرب استعملوا بدورهم الحذاء منذ وقت طويل، غير أنهم بدوا وكأنهم يكتشفونه لأول مرة عندما نزع الصحافي العراقي، منتظر الزايدي، حذاءه ورمى به الرئيس الأمريكي الأبله جورج بوش.. كان ذلك أكبر دور يلعبه الحذاء في تاريخ الأمة العربية. غير أن أفضل من عبر عن المعارضة بالحذاء العربي هو الزعيم الأخضر الراحل معمر القذافي؛ ففي أحد الأيام، فوجئ الليبيون بانقطاع مفاجئ لبرنامج سياسي، ثم ظهر فجأة حذاء رجالي على الشاشة، وظل كذلك لساعات طويلة؛ وبعد أيام، سمع الليبيون أن ذلك الحذاء هو لزعيمهم معمّر، الذي كان يشاهد ذلك البرنامج؛ وعندما استاء من مستواه، أمر بوقفه فورا ثم نزع حذاءه وأرسله إلى مدير التلفزيون وطلب منه أن يضعه على نفس الطاولة التي كان يتحدث فيها المذيع. في المغرب، مرّ الحذاء من مراحل طويلة ومختلفة، والمغاربة تمشوا حفاة لعهود طويلة، ثم تفشى بينهم الحذاء كما تفشى بينهم مؤخرا الآيْباد والآيْفون؛ وفي النهاية، وصل الحذاء المغربي إلى أوج مجده وجبروته عندما انحنى عليه المواطن الصالح، مولاي هاشم، ولثمه بثغره تكريما له لتاريخه المثير والطويل. هذا كل ما في الأمر.. والسلام.