يحتفل العالم في الثامن من مارس باليوم العالمي للمرأة وهو مناسبة تعاود فيها الشعوب من مختلف الثقافات مراجعة أوضاع نصف مجتمعاتها. المجتمعات العربية تستحضر بدورها هذه المناسبة في سياق جديد هو سياق الثورة مع مجمل الأحلام والانتظارات التي أتت بها. غير أن هذا السياق بدأ يرتد إلى مراجعة للنزر القليل مما تحقق للمرأة من مكاسب في المراحل السابقة في ظل بروز قوى تعتبر هذه المكاسب نتاجا لدولة التسلط؛ فهل ارتد الربيع العربي إلى خريف بالنسبة إلى المرأة؟ المساهمة النسوية في حراك الثورات العربية لو اقتصر تتبعنا لحضور المرأة على التحركات الشعبية السلمية التي اتخذت شكل الاعتصامات والمسيرات أو الكتابة والتحريض، لوجدنا أن عددا كبيرا منهن برز منذ الشرارات الأولى لهذا الحراك. في تونس، لا يعد خروج المرأة إلى الشارع ظاهرة جديدة. كانت النسوة قد خرجن بالمئات أثناء انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 للتنديد بتعنيف أبنائهن من طرف جهاز الأمن وللمطالبة بإطلاق سراح السجناء. كما خرجت النسوة في سيدي بوزيد منذ الشرارة الأولى للثورة، وامتدت المشاركة بشكل فاعل إلى جانب الرجال في القصرين وفي تالة حيث واجهت الرصاص مع الأزواج والأبناء. هذه المشاركة النسوية الجماعية والفعالة ثبتتها عدسات المصورين يوم الرابع عشر من يناير 2011 عندما احتشد المواطنون أمام وزارة الداخلية مطالبين الرئيس السابق بالرحيل. في مصر، كذلك، خرجت الشابات مع الشباب منذ الإرهاصات الأولى للتحركات ضد نظام مبارك. كما شاركت المرأة بشكل فاعل حتى في المواجهة مع قوات الأمن، سواء في زمن مبارك أو خلال المرحلة الانتقالية، وكانت وسائل الإعلام العالمية قد نشرت صور بعض المصريات اللواتي تم سحلهن شبه عاريات من طرف قوات الأمن دون مراعاة لأي أخلاق. في ليبيا، وعلى الرغم من طابع المحافظة في المجتمع الليبي، فإن ذلك لم يمنع أمهات وزوجات السجناء الإسلاميين، الذين فقدوا إثر مواجهتهم قوات القذافي سنة 2006، من الخروج للتظاهر في مدينة بنغازي للمطالبة بمعرفة مصير أبنائهن وأزواجهن؛ فكانت المرأة الليبية بذلك قد أعطت الشرارة الأولى للثورة الليبية. ثم تَواصل بعد ذلك دورها خلال الحرب في الصفوف الخلفية لمساندة المقاتلين بمداواة الجرحى وبالتزويد بالمؤن. هذا المشهد نفسه شهدناه في اليمن، حيث خرجت المرأة اليمنية إلى الشارع متحدية محافظة المجتمع، وعاضدت مسيرات الشباب والرجال، وتعرضت بسبب ذلك إلى الاعتداء من طرف قوات علي عبد الله صالح. تكرر المشهد اليمني تقريبا في البحرين، حيث خرجت النساء للمطالبة بالمساواة في المواطنة وبالحرية وبالتعددية السياسية الحقيقية. في المشهد السوري لم تغب المرأة كذلك، وربما ذكرتنا بالمساهمة النسوية الليبية؛ فكان المنطلق من درعا حيث خرجت الأمهات إلى الشارع تعبيرا عن غضبهن جراء إيقاف وتعذيب أبنائهن الذين كانوا قد رسموا على الجدران بكتابة الغرافيتي شعارات ضد نظام الأسد. لم تقتصر المشاركة النسوية في الحراك الثوري العربي على التظاهر الجماعي، بل تجاوزته إلى مستوى المشاركة الفردية الفاعلة وهناك عديد من الأسماء التي سجلت حضورها، نذكر من بينها الناشطة المصرية أسماء محفوظ التي تعد من بين أولى المبادرين إلى الخروج للتظاهر ضد مبارك. نظيرتها في اليمن كانت توكل كرمان التي تحدت محافظة مجتمعها وتقاليده، كما تحدت قمع نظام علي عبد الله صالح وفرضت اسم امرأة في ذاكرة الثورة اليمنية. نفس الشيء في البحرين مع الناشطة زينب الخواجة، ابنة المعارض عبد الهادي الخواجة. كما لا ننسى أسماء قديمة جديدة من الساحة التونسية مثل مية الجريبي وسهام بنسدرين وراضية النصراوي. رغم أن الحراك الثوري العربي كان مدينيا بامتياز، مما يفسر اقتصار الحضور النسائي على الحواضر والتجمعات المدينية، فإن المرأة الريفية لعبت، ولو بشكل غير مباشر، دورا ما في هذه الثورة من خلال مواصلة العمل في الحقول وفي المزارع لتوفير الغذاء في اقتصادات توقف فيها العمل خلال الثورة. هل هي خيبة الأمل؟ رغم هذا الحضور الفاعل والسبّاق أحيانا، ورغم أن الشعارات التي رفعتها الثورات العربية كانت تدور حول الحرية والمساواة، فإن ملامح ارتداد الوضعية ضد المرأة بدأت تلوح بعيد انهيار أنظمة الاستبداد ودخول المجتمعات مرحلة شك ما بعد الثورة. فقد لاحظ المتتبعون في مصر -مثلا- كيف كثرت اعتداءات التحرش الجنسي على النساء في ميدان التحرير من طرف عناصر شوهت مبادئ الثورة المصرية وشجاعة ثوار التحرير. كما تنادت الأصوات من طرف عناصر من الإخوان المسلمين، ومن طرف حزب النور بالتحديد، لمراجعة دور المرأة في المجتمع والمطالبة ببقائها في المنزل لتربية الأبناء وخدمة الزوج، وهي نفس الأصوات تقريبا التي ترددت في اليمن وفي ليبيا وحتى في تونس. كانت تلك من بين مفارقات هذا الحراك الثوري الذي خرجت فيه المرأة لتساهم في المطالبة بالحرية لتجيبها الثورة الناجزة بأن تلزم البيت. كيف نقنع أنفسنا بأن من تحدت الاستبداد وواجهت القمع، وحتى الرصاص، غير قادرة على لعب دور سياسي أو قيادي في المجتمع من خلال المشاركة المباشرة في العمل السياسي والاقتصادي والفكري والإبداعي؟ هذا التراجع جسدته كذلك نتائج الانتخابات النيابية المصرية، حيث لا تتجاوز نسبة النائبات 2 في المائة. أما في تونس فتعتبر نسبة تمثيل النساء في المجلس التأسيسي مرتفعة، وهذا يعود إلى مبدأ التناصف الذي اعتمدته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة عندما أعدت القانون الانتخابي. وبطبيعة الحال، فإن نسبة النساء من حزب حركة النهضة هي الأكبر باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات السابقة. في نفس هذا السياق التونسي، حصل نقاش حاد بشأن المرأة بين نواب المجلس التأسيسي من حزب حركة النهضة وبين نواب المعارضة، وامتد إلى الشارع ووسائل الإعلام. تمحور النقاش حول اقتراح البعض إدراج مفهوم التكامل بين المرأة والرجل في الدستور، وهو محاولة للالتفاف على مبدأ المساواة، إذ إن التكامل لا يعني بالضرورة المساواة، كما أن المساواة لا تلغي التكامل في الأدوار. هذا النقاش، الذي انخرطت فيه عديد من الجهات السياسية والحقوقية والجامعيين، كان بمثابة تجسيد لمحاولات التراجع عن بعض مما حققته المرأة من مكاسب على الصعيد التشريعي. في تونس كذلك وخلال الأيام الأخيرة، تفجرت قضية جديدة يبدو أنها تكشف عن توجه جهات حكومية إلى تقليص الوجود النسوي في السلك الدبلوماسي، فقد قام وزير الخارجية رفيق عبد السلام بإنهاء مهام القائمة بأعمال السفارة التونسية في فنلندا زهرة الأدغم، وذلك بطريقة لم تراع فيها الترتيبات الإدارية المعمول بها بدعوى أنها ضبطت من طرف الشرطة الفنلندية في حالة سكر اعتمادا على شريط روج من طرف سائق السفارة على فيسبوك. وقد نددت نقابة وزارة الخارجية بهذا الإجراء الذي اعتبرته تعسفيا ويستهدف المرأة باعتبار أن قضايا مشابهة رصدتها النقابة. ربما في ليبيا واليمن يعد الوضع أكثر تعقيدا في ظل شدة المحافظة التي يتسم بها المجتمعان، وكذلك في ظل محدودية حراك المجتمع المدني الناشئ؛ فنلاحظ أن قضية المساواة القانونية بين المرأة والرجل غير مطروحة بشكل جدي من طرف القوى المهيمنة التي أتت بها الثورة. ربما يتطلب ذلك مزيدا من الوقت. مجتمع يتحدى السلطة ويخشى نفسه كيف نفهم هذه التراجعات في ثورة كان شعارها المساواة والحرية؟ لا بد هنا من فهم طبيعة الحراك الثوري الذي شهدته بعض البلدان العربية والتمييز بين مختلف أبعاده. كانت هناك لحظتان فارقتان في هذا المسار. هناك لحظة الثورة التي وضعت الجماهير الغاضبة في مواجهة السلطة، خاصة في تونس ومصر واليمن. وهي لحظة اجتماعية بامتياز باعتبارها عنفا اجتماعيا توحدت ضمنه مختلف الشرائح والفئات، بمن فيها النساء، ضد السلطة القائمة. أما اللحظة التي تلتها فهي لحظة بناء ما بعد الثورة وهي لحظة سياسية صرفة يديرها عادة من احتكروا الظهور في الفضاء العمومي وفي الإعلام، وهم غالبا من الرجال، خاصة في الحالة اليمنية ونسبيا في الحالة المصرية. المستوى الثاني الذي يمكن أن نفهم ضمنه تراجع مسألة المرأة، وربما تهديد بعض مكاسبها، هو أن شعار الحرية الذي رُفع أثناء الثورة قد اختزل في بعده السياسي باعتبار الحرية تحررا من نظام سياسي تسلطي وليس تحررا مجتمعيا كليا، أي أن الثورة وفي مستوى معين لم تؤد إلى مراجعة المجتمع لنفسه. ونرى ذلك بوضوح خاصة في المجتمعات المحافظة مثل اليمن وليبيا. في هذه الحالات نرى كيف أن المجتمعات وقفت بشجاعة أمام تسلط الأنظمة، لكنها غير قادرة على الوقوف أمام ذاتها لمراجعتها. ومن المفارقات في هذا السياق أن قضية المرأة مطروحة بحدة أكثر في الحالة التونسية حيث تتمتع المرأة بحقوق أوسع، في حين يظل النقاش العمومي محتشما في المجتمعات التي تعاني فيها المرأة من الإقصاء والتمييز. لكن في نفس الوقت فإن حجم هذه المكاسب ومخاطر المساس بها هو الذي يفسر ردة الفعل داخل المجتمع. يتمثل المستوى الثالث في أن الثورة، التي أطاحت بدولة التسلط، فتحت الباب أمام المجتمع كي يعبر عن كل تناقضاته الاجتماعية والفكرية، فبرزت بذلك العديد من التيارات، ومن أهمها التيارات الإسلامية بمختلف توجهاتها وبمختلف درجات تشددها. وعلى عكس التيارات القومية واليسارية والليبرالية التي ترى أن مهمة الثورة تتمثل في تحقيق ما فشلت فيه دولة الاستقلال، أي الحرية والمواطنة بالأساس، فإن أغلب التيارات الإسلامية تضع دولة الاستقلال هذه موضع تشكيك يبرر بالنسبة إليها إعادة النظر في ما رسخته، بما في ذلك مجال القوانين التي تمس المرأة. لكن مثل هذه القراءة لا تميز، في حقيقة الأمر، بين تغير وضع المرأة ومكانتها ودورها باعتباره نتاجا لحركة التاريخ الكوني عموما وبين ما يمكن أن يقوم به نظام ما أو زعيم ما في بلد عربي؛ فعلى عكس دعاة اليوم، كان رفاعة الطهطاوي قد فهم هذا التطور التاريخي وكان أول من شجع على تعليم البنات؛ نفس الشيء ينطبق على محمد عبده وأحمد فارس الشدياق والطاهر الحداد وقاسم أمين وغيرهم ممن اتخذوا مواقف ثورية في عصرهم. إن ما يسمى قضية المرأة في مجتمعاتنا ليست قضية دينية، بل هي قضية اجتماعية بالأساس، حيث يسعى المجتمع إلى إعادة إنتاج تراتبيته وتوازناته التقليدية من خلال إضفاء صبغة دينية على المحافظة الاجتماعية. فالإسلام لا يمثل عائقا أمام تطور المرأة باتجاه المشاركة الفاعلة والمساواة. لكن كل المشكلة تكمن في نظرة كل طرف إلى الإسلام وطريقة تأويل النصوص المؤسسة. وبصفة عامةّ، يبقى ملف المرأة مقياسا مهما لمعرفة ما إن كان ما يسمى بالربيع العربي هو لحظة تغيير حضاري باتجاه إعادة بناء مجتمعي شامل أم هو مجرد تغيير سياسي في هرم السلطة لا أكثر.