يبقى الملف النووي واحدا من أكثر القضايا ضغطا على إيران وعلى الدول الغربية التي تتحداها إزاء هذا المشروع وتسعى إلى منعها من امتلاك دورة تصنيع نووية كاملة. وسيظل هذا التوتر في العلاقات والتشكيك في النوايا مستمرا. الإيرانيون يعلمون بأن الضغط إنما هو بسبب السياسة الإيرانية تجاه الكيان الإسرائيلي ورفض طهران الاعتراف بالكيان الإسرائيلي. والواضح أن إيران نجحت في استمالة كل من روسيا والصين إلى جانبها في العديد من القضايا الجوهرية، خصوصا الملف النووي والقضية السورية. وتسعى الجمهورية الإسلامية إلى التقارب مع مصر الثورة، ولذلك اقترح الإيرانيون أن تعقد المفاوضات المقبلة بين إيران ودول 5+1 في مصر، في إشارة إلى تحسن العلاقات بين البلدين. كما أنه إشارة للغربيين إلى أن لإيران امتدادات عربية وإسلامية أكبر مما يتصورونه. وإذا صدق تقرير صحيفة «التايمز» البريطانية الشهر الماضي بأن الحاج قاسم سليماني، مسؤول لواء «القدس» في الحرس الثوري، قد زار مصر في دجنبر وتباحث مع جماعة الإخوان المسلمين بشأن تأسيس ذراع أمني لها، فإن التعاون بين النظامين قد قطع خطوات كبيرة إلى الأمام. إيران تصر على مواصلة التخصيب وفق نصوص معاهدة منع انتشار السلاح النووي، الأمر الذي دفع جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، إلى إطلاق تصريحات مثيرة ضد إيران خلال لقائه الأسبوع الماضي مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركيل، مهددا بأن دور الدبلوماسية لن يستمر إلى الأبد. ولكنه في اليوم التالي عاد ومد غصن الزيتون باتجاه طهران، آملا أن يؤدي ذلك إلى حوار جاد بين البلدين. هذه التصريحات تعكس التوتر الأمريكي الناجم، في بعض جوانبه، من الشعور بعدم جدوى الحصار الاقتصادي في التأثير على الموقف الإيراني إزاء تخصيب اليورانيوم. هذا لا يعني عدم وجود نتائج سلبية لتلك المقاطعة؛ فمنذ أن بدأت بشكل جاد واستهدفت المؤسسات الاقتصادية والمصارف، تراجع مستوى العملة الإيرانية بمقدار النصف، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع باهظ في الأسعار. وبلغ الأمر أن أصبحت إيران غير قادرة على استيراد الدواء. وعندما كشفت وزيرة التعليم السابقة عدم وجود أدوية كافية لدى الحكومة اضطرت إلى الاستقالة من منصبها، نظرا إلى حساسية القضية وإصرار الإيرانيين على التظاهر بعدم فاعلية ذلك الحصار. ومن يتحدث إلى الأطباء الإيرانيين يسمع منهم قصصا مأساوية حول وفاة أطفال ورجال مرضى نتيجة عدم توفر الدواء المناسب. صحيح أن الحصار لا يشمل الدواء، ولكن الشركات الغربية ترفض التعامل التجاري مع إيران خشية من قيام حكوماتها بمعاقبتها. ومن نتائج هذا الحصار ارتفاع الأسعار بمعدلات متسارعة وتراجع النمو الاقتصادي نتيجة عدم القدرة على الاستيراد. وثمة قلق في أوساط الحكم الإيراني من احتمال تأثير الغلاء المعيشي على مجريات الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما قد ينجم عن ذلك من تحديات أمنية للنظام المركزي؛ فالتراجع الاقتصادي ينعكس عادة بشكل سلبي على الثورات حديثة العهد، ويحاصر الأنظمة، ويصرف أنظار الناس عن قضاياهم المعيشية الخاصة؛ فبعد أن تمكنت القيادة الإيرانية من احتواء الموقف في سوريا، أصبحت أكثر إصرارا على استقلال قرارها وعدم الرضوخ للضغوط الأمريكية. لقد كان للسياسة الإيرانية دورها في منع سقوط بشار الأسد، الأمر الذي لا يخلو من دلالات استراتيجية، فكأن طهران تقول: نحن لا نتخلى عن أصدقائنا عند الشدة. بينما تخلى الأمريكيون عن أنظمة طالما تحالفوا ودافعوا عنها. وهكذا فبعد ثلث قرن أصبحت الجمهورية الإسلامية قادرة على التأثير على مسار دول المنطقة، بل تحديده في بعض الأحيان. إيران اليوم تختلف عما كانت عليه سابقا، فقد أصبحت أكثر اطمئنانا إلى مشروع «الإسلام السياسي» الذي قامت ثورتها من أجله، وأقدر على مواجهة التحديات الخارجية، وأوسع تأثيرا على مسارات السياسة في منطقة مضطربة على كافة الصعدان. إنها تسعى إلى بلورة مشروع استقلال سياسي وثقافي يشمل بقية الدول العربية والإسلامية، خصوصا بعد ثورات الربيع العربي التي تتحدى، في جوهرها وهويتها، النفوذ الغربي في المنطقة وتقاوم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ومع أن إيران، كغيرها من الدول التي ترفع شعار الديمقراطية، تسعى إلى الموازنة بين المبادئ والمصالح، فإن تجربة العقود الثلاثة الماضية تؤكد أن الجمهورية الإسلامية استطاعت تحقيق توازن دقيق بينهما، وأصبحت دولة ذات نفوذ يتسع تدريجيا. إنها أكثر دولة تفاعلت مع ثورة مصر بشكل إيجابي، وانحازت بشكل مبدئي إلى جانب الثوار، كما أن مواقفها إزاء ثورات تونس وليبيا واليمن والبحرين وموقفها من سوريا ينطلق من حرصها على قطع أيدي القوى التي تسعى باستمرار إلى استهداف قوى التحرر وأنظمة الاستقلال. إنها تسعى إلى تفعيل مبادرة عربية أو إسلامية تهدف إلى إنقاذ سوريا من أوضاعها الحالية والوصول بها إلى بر آمن، بعيدا عن العنف والإرهاب والاستبداد. ومن هنا تشعر القيادة الإيرانية بأنها أكثر حضورا في الميدان الإقليمي مما كانت عليه طوال الثلاثين عاما الماضية. وقد حققت مكاسب كثيرة للمشروع الإسلامي، بالإضافة إلى ما أقامته من علاقات مع دول العالم بدون انقطاع. إنها تشعر بأنها في وضع صعب، ولكن المهمة ليست مستحيلة في ظل منظومة سياسية فاعلة تأسست على قواعد الاستقلال وإنهاء التبعية. بين الأمل والقلق تواصل ثورة إيران طريقها الوعر آملة أن تحتوي التهديدات الغربية والسياسات المعادية للمشروع السياسي الإسلامي. مع ذلك، ستبقى التحديات الداخلية واحدة من التحديات الكبرى التي تواجهها دولة الثورة، كما أظهرت حادثة مجلس الشورى قبل يومين. مرشد الثورة، آية الله السيد علي خامنئي، يقود سفينة إيران وسط محيط لجي، ولكي يحميها من الغرق أو الضياع، فإنه سيجد نفسه أمام تحديات الداخل والخارج على حد السواء. إنها فترة عصيبة في تاريخ الثورة، والعالم ينتظر ما ستتمخض عنه التطورات الداخلية الإيرانية، المرتبطة هي الأخرى بالتدافع الإقليمي في «ربيع الثورات» والتهديدات الدولية المنبعثة من الكيان الإسرائيلي وداعميه في الغرب.