رغم التحولات المتسارعة التي طالت النخل والبشر والحجر، يرى الكثير من الأصدقاء، ممن ينزلون ضيوفاً على مراكش، بين الحين والآخر، أن مدينة السبعة رجال لازالت وفية لمتعتها وألوانها. إنها مدينة حمراء بتراب ذاكرتها، تحولت مع الأيام إلى لوحة تمتع العين وتدخل البهجة إلى نفوس أهلها وزوارها، كلما فتحت دكاكين وأسواق مدينتها القديمة أمام زوارها وزبنائها. تبدو «البهجة» فاتنة، تتعلق بها الأفئدة وتهفو إليها النفوس، بسمائها صافية الزرقة وطقسها الساخن وليلها الساحر. من ينزل في ضيافتها، بعد أن تقبل به زائراً وسائحاً، لا يطيق فراقها، ومن يسمع عنها يعيش مُنتظراً زيارتها. أما اسم «مراكش» فصار، اليوم، وعبر العالم، ماركة سياحية مسجلة، وعنواناً يرادف راحة البال ومتعة السفر والاستجمام. ومنذ تأسيسها على يد قائد المرابطين وأميرهم، يوسف بن تاشفين، انطلقت المدينة تحفر هيبتها وقيمتها بين مدن المغرب. ومع السنوات، ظلت حكايات التأسيس تتحول إلى أسئلة ترافق التأريخ لها: فهي «البهجة» لدى المغاربة و«الحمراء» لدى سياحها والعالم. لونها أحمر يحاكي لون ترابها وحجرها، لكنه لون يتعدد في أشكاله ليصل إلى أكثر من عشرين تنويعاً، منها ما يقترب بالحمرة إلى صفرة معدن الفوسفاط، ومنها ما يحاكي لون صومعة الكتبية والمامونية. وقبل أن تتحول مراكش، في حاضرها، إلى وجهة مفضلة، يهيم بها زوار الداخل والخارج، كانت عاشت ماضيها بكل البهاء المطلوب. دروبها وأزقتها القديمة شاهدٌ وعنوانٌ على أسر حاكمة تعاقبت على حكم المغرب، الذي ما كان عرش الجالس على حكمه يستوي ويستقيم ويأخذ تمام هيبته من دون إخضاعها لسطوته وحكمه. تألق فيها العلماء والشعراء والأطباء والفلاسفة، أمثال ابن رشد وغيره، هي المدينة التي بناها المرابطون على بُرج العقرب لكي تبقى دار بهجة وسرور. ومراكش هي «وْريدة بين النخيل»، كما تقول إحدى الأغاني المغربية، ورغم أن الشمس تسكنُ سطحها وسماءَها على مدار العام، فإن حدائق وعرْصات البيلك والمنارة وأكَدال وماجوريل ومولاي عبد السلام ظلت تثير التعجب والحيرة لدى كل من يؤمن بأن الشمس مُرادفٌ للجفاف والأرض الجرداء القاحلة. وفي مراكش، كلما ضاقت الأزقة على المارة انفتح في الماضي بابٌ يقود نحو عوالم من فتنة العمارة وبهاء النقش، تتناسق وألون البضائع التقليدية المعروضة للبيع. وفي داخل البنايات التاريخية للمدينة، نكون مع عوالم من التشكيل الفاتن: مدارسها العتيقة بزليجها وأقواسها، ومساجدها بصوامعها، أما دورها العتيقة فتحولت إلى دور ضيافة ومساكن يجد فيها سكان جدد، أتوا مدينة تعشقها الشمس من مدن يسكنها الضباب، بعضاً من الدفء المفتقد. والواقع أن التجول بين أزقة المدينة العتيقة، قبل أن يكون راحة بال، هو متعة عين، أيضاً. محلاتٌ تفيضُ بمعروضاتها وتحفها، فيما يجلس أصحابها على كراسيهم في انتظار الرزق، عارضين لوحات تشكيلية وأواني نحاسية وخزفية وزرابي، وأشياء أخرى لا يفهم في معناها سوى الراسخين في أسرار الحضارات والثقافات الباذخة. «المحلات متقاربة ومتشابهة في معروضاتها ... والرزق على الله»، هكذا يُردد أصحاب «البازارات»، أما السياح فيغوصون في الدروب الضيقة ويمرون بين الأزقة وجنب المعروضات، فيما أعينهم ضاحكة تستمتع بفتنة الألوان وبساطة الحياة ودفء العلاقات الإنسانية. كل شيء في المدينة القديمة يذكر بتاريخ الحمراء وأيامها، أما حين يرتفع الأذان فإن وقت الصلاة يصير وقتاً مستقطعاً من زمن البيع، منتصراً لعلاقة العبد بخالقه: وضوءٌ، ثم كُرسي يسد باب المحل، فيما المعروضات مُعلقة أو مُرتبة في أماكنها دون خوف من أن تمتد إليها يَد سارق. تنتهي الصلاة بالدعاء والاستغفار، فيعود الجميع صافيي السريرة ابتغاءً للرزق. وفي انتظار ذلك، يقتلُ بعض الباعة وقتهم في تبادل المستملحات والنكت، فيما ينشغل آخرون بفتح أحاديث مع السياح، عارضين عليهم لوحة أو زربية أو آنية خزف .. فيما عبارة «اللي ما اشْرا يتْنزّه»، تقال بكل لغات العالم.