لم تكن معجزات الولي الصالح سيدي أحمد بنيشو (بضواحي الدارالبيضاء) وحدها كافية لإرضاء من اعتبروا ضريحه مصحتهم الخاصة. فقد عمد الدجالون إلى نصب محلات مقابل الضريح رافعين شعار الشفاء من كل الأمراض التي عجز عنها أطباء العصر الحديث، العقم والعنوسة و«الثقاف»... لتصبح المنطقة مركبا استشفائيا للدجل والشعوذة، حيث أفلست صيدلية فتحت أبوابها قبالة الضريح، وتركت مكانها للشوافة «عايشة لعبوا»، التي تمارس عملها «على عينيك يا بن عدي». عين حرودة- بوشعيب حمراوي :
ما إن تسمع عن مكارمه وفضائله في شفاء المصابين بمس الجن (لرياح، المسكونين، المملوكين...)، حتى تجد نفسك مصابا بهوس البحث عن مكانه والوقوف على قدراته الخلاقة في طرد الجن من أجساد البشر وتحرير الروح البشرية من أسرها. رحلة «المساء» إلى ضريح الولي الصالح سيدي أحمد بنيشو، بعين حرودة، ملتقى مدينتي الدارالبيضاء والمحمدية، انطلقت بجولة خفيفة مع «الحفيظة» المشرفة على الضريح ومحيطه، داخل أماكن خاصة لعلاج المرضى (مغارتان على شكل بئرين، وسلمان للنزول إلى قاعهما، أطلق عليهما اسم الخلوة، إحداهما للنساء وأخرى للرجال، وفضاء للذبائح المهداة قرابين، ونخلة صغيرة خاصة بالمصابين ب«الثقاف» والعكس، وشجرة تين يضع البعض فوقها أثوابا لأشخاص أحباب أو أعداء حسب المراد المنتظر قضاؤه، وتحت ظلها يضع البعض الدجاج قربانا دون ذبحه... مرورا بغرف أصبحت فندقا بلا رخصة، وصولا إلى عيادات «الشوافات» والدجالين، ومحلات بيع كل مستلزماتهم من الحناء إلى ... «زغيبات الفار»... رجال ونساء قصدوا الولي الصالح من أجل تخليصهم من الجن الذي احتل أجسداهم... منهم من اكتفى بالزيارة وطقوس «الحفيظة» بتسكين الحاء، تم ربطهم بالسلاسل داخل إحدى الخلوتين، حسب جنسهم، ذبحوا ديكا أو جديا أسود،... ومنهم من تطلب شفاؤه الإقامة لبضعة أيام حسب ما أمره به أصحاب المكان(حسب رؤية في المنام، أو أمر من «الحفيظة» أو «الشوافة»)... وكثيرون طالت إقامتهم حتى تم نسيانهم من طرف أسرهم، قليلون ظلوا ملتصقين بالولي الصالح يأكلون من فضلات الزوار والقرابين والهدايا... وكثيرون انتشروا داخل المدينة... وانتهت بهم محطات العلاج إلى التشرد، قصدوا الولي الصالح للاستشفاء أو لأنه دعاهم إليه أثناء نومهم... فانتهى بهم المصير المظلم إلى التسكع نهارا داخل عين حرودة، والارتماء ليلا تحت الأقواس والبنايات المهجورة والمغلقة. أحمد بنيشو من هو سيدي أحمد بنيشو؟ سؤال طرحته «المساء» على العشرات من الزوار، رجالا ونساء، وكانت أجوبتهم تصب في عالم الغيب، «ملي عقلنا وحنا كنجيو نزوروه ونتنفعو ببراكتو... شي ولي من أولياء الله التسليم ليه...»، بينما كان للمشرفة على الضريح والمقبرة أرشيف خاص بالولي الصالح، حيث أكدت أن سيدي أحمد بنيشو «ركراكي» من نواحي الصويرة، مات بالمنطقة ودفن فيها، وأن الاسم الذي يحمل هو اسمه الحقيقي، تقول رواية العديد من ساكنة المنطقة إن لقب بنيشو يعود إلى عهد الاستعمار الفرنسي، حيث إن أحد «السفاجين» كان ينصب خيمة بجوار الضريح لبيع (الإسفنج) وإنه كان ينادي باللغة الفرنسية الفرنسيين والمغاربة قائلا: «فوالا لي بني شو» (ويعني ها هو الإسفنج ساخن). ومنهم من أعطى احتمال أن يكون صاحب الضريح مجهول الهوية وأن اسم أحمد الذي يحمله، لقبه به الساكنة على اعتبار أن كل ذكر مجهول الاسم ينادى عليه بأحد أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام (محمد، أحمد...). مكرمات بنيشو كثيرة هي المكرمات التي ترويها ساكنة المنطقة لهذا الولي. يحكي أحد الأشخاص أن الرجال والنساء الذين كانوا يأتون إلى الضريح وبهم مس من الجن، كان «الحفيظ» المشرف على الضريح، ينزل بهم إلى قاعة الخلوة ويربطهم بالسلاسل والأقفال، وأنه بمجرد ما يتعافى المريض ويسترجع جسده الذي كان محتلا من طرف الجني أو الجنية تفتح الأقفال وحدها ويصعد الشخص سالما. كما تحكي روايات أخرى أن المياه كانت تخرج من الأرض وتطفو فوق بساط الضريح بجوار القبر (فاض عليه الماء مرتين)، كما يقولون إنه منذ حوالي عشرين سنة فوجئ الناس بوجود حفرة كبيرة داخل الضريح بجوار القبر عمقها حوالي مترين، كما أن الحارس وجد مغمى عليه منذ الواقعة وظل مريضا إلى أن مات، وأن مجموعة من المتسولين كانوا ينامون بجوار الولي لم يظهر لهم أثر ليلة الحفر. بينما تحكي روايات أخرى أن أشخاصا جاؤوا إلى الضريح وتمكنوا من تنويم الحارس وطرد المتسولين وحفروا الأرض من أجل استخراج كنز. رحلة إلى الضريح كان الجو مشمسا ذات سبت من دجنبر الأخير، وما يفتأ الزائر يرى ما يكفي من مشاهد مثيرة توحي بأن المنطقة خارج تغطية الحضارات الحديثة. لم تمر سوى ثوان لتظهر المشرفة على الضريح والمقبرة، رفقة رجل يقاربها سنا، سيدة في عقدها السادس، استقبلتنا بابتسامة رقيقة، تخفي وراءها عدة أسئلة لم تستطع طرحها للاطمئنان على موضوع الزيارة. رفضت «الحفيظة» الكشف عن اسمها الكامل. بالكاد أفصحت المشرفة عن اسمها «مليكة»، وقالت في تصريح ل«المساء»: أنا صاحبة المكان أشرف عليه منذ عشر سنوات، بعد وفاة زوجي الذي كان يحرس الضريح منذ أزيد من عشرين سنة. وتابعت قائلة إن الولي الصالح يأتيه الناس من كل صوب وناحية، «المرضى بالجن والأوهام ولرياح... مسكونين... مملوكين، كنصرعوهم وكيتشافاو بجاه الله والولي الصالح». وأوضحت «الحفيظة» أن طقوس الولي تختصر في الزيارة لقبره ودخول الخلوة النسائية أو الرجالية، حيث تعمد إلى تكبيل المريض بسلاسل حديدية مشدودة في قاع الخلوة، واستعمال أقفال لإحكام القيد، وهي العملية التي أكدت أن مدتها تختلف من مريض إلى آخر. ويأتي بعدها مكان الذبائح، الذي يعرج إليه المرضى، حيث يذبحون الديكة أو الجديان، ويستحب أن يكون لون الذبيحة أسود. كما تعمد بعض النساء أو الرجال الذين يعتقدون أنهم «لاقيهم العكس في الخدمة أو الزواج أو الولادة...» إلى نخلة صغيرة، ويربطون أحد أوراقها مرة أو مرتين، ظانين أنهم أزالوا «العكس» ووضعوه في أوراق النخلة، وأن كل من فك رباط ورقة ما سيجلب على نفسه «عكسا» ما. إلى جانب «الحفيظة»، اصطفت مجموعة من النساء والرجال والأطفال الذين يبدو من تحركاتهم أنهم لا يصدقون بعض إكراميات الولي الصالح، قال أحدهم: أنا مستعد أن أنزل إلى الخلوة وأربط نفسي بالسلاسل من أجل تصويري، جاء كلام الصبي بعد تقديم طلب ل»الحفيظة» بتصوير بعض المرضى مقيدين بالسلاسل الحديدية، مع تغطية وجوههم، ورفض الأخيرة لطلبي. قالت إحدى النساء: دخلت سيدة يوم الجمعة المنصرم تصرخ، وطافت حول التابوت... تكلمت بالعربية والفرنسية... «بها هريوش ملك سماوي وملك شيطاني، تتكلم بالمسيحية... دخلت إلى الخلوة وتبعتها حوالي عشرين امرأة معتقدات أنها ستقول لهم حقائق وأسرارا... تبعوها بلا ما يشعروا، التسليم لموالين المكان». سجناء الضريح قال عبد الكريم الوردي (31 سنة) إنه مريض ب«لرياح، مشدود ومملوك»، أتى من شيشاوة منذ سبع سنوات، وأنه أصبح بدون شغل ولا هدف، يقضي الأيام يتجول بين أضرحة أولياء الله الصالحين، من بن حسين إلى بويا عمر إلى سيدي علي بنحمدوش وبوشتى الخمار والهادي بن عيسى...، موضحا أن لديه أمراضا سماوية، وهي إشارة إلى الأمراض التي لا علاقة لها بتدخل الإنس. ولعل ما يثير الإعجاب في عبد الكريم هو تلك الحملة الشرسة التي يشنها على الدجالين و«الشوافات» بالمنطقة، فهو لا يثق في أعمال الشعوذة والسحر، ويوصي كل من التقاه بالابتعاد عنهم. يقول الوردي إنه يكون ثارة حاضرا بكل أحاسيسه وعقله... ومرات يكون مرفوعا لا يعلم ما يقع، وأبدى ارتياحه بالمكوث إلى جوار الولي الصالح، وأنه كلما ابتعد عنه عاوده المرض. وأكد الوردي أنه يقيم رفقة باقي المرضى المعتقلين بالغرف الخاصة بالزوار(20 درهما لليلة) يتغذون من الذبائح وفضلات الزوار، كما يزوره والده في بعض الفترات. أمثال الوردي عديدون، منهم من رفض الكلام ومنهم من لا يستطيع لأسباب تختلف بين المرض والخجل والخوف والمصير المجهول. عبد القادر الطالبي (42 سنة) ترك أسرته بدوار المعزة بضواحي عين حرودة، قال إن مرض الجن تملكه منذ سنة 1982، ومنعه من العيش حياة عادية. وأضاف أنه يستقر بقرب الضريح، وكلما رأى في منامه شخصا أو... يأمره بزيارة بعض أولياء الله يهرع إليهم في الصباح الموالي، ثم يعود إلى غرفته قرب سيدي أحمد بنيشو، مشيرا إلى أنه زار مولاي بوعزة، سيدي علي الشيخ الكامل... وأوضح أن النية ضرورية لأن أولياء الله سبب في الشفاء، وانه يتعذب كلما ابتعد عنهم. «عايشة لعبوا» لازال المحل يحمل اسم صاحبة الصيدلية و لونها الأخضر وهلالها ورمز (زائد).. لكن المحل لم يعد يبيع الأدوية، وأصبحت مكانه «شوافة» فرشت المحل بأثواب ولوازم الإثارة، وحطت أمام المحل الذي فتحته على مصراعيه بعض عتادها لتبرز للزوار رصيدها الكبير وتثبت به أحقيتها في لقب إمبراطورة الشوافات بالمنطقة.. لم تكن تعمل سرا أو تراوغ عند احتكاكها بكل غريب زائر، فمحلها يبهر المريض والمعافى، ويزيد من طمأنة زبائنها على قدرتها الخارقة في «فك الوحايل» بتخليص الناس من كل مشاكلهم المرضية والاجتماعية والإنسانية ... قالت «عايشة لعبوا» في تصريح ل«المساء» إنها تعمل «شوافة» منذ 36 سنة، وتداوي البنات والنساء عموما من «العكس» و«الثقاف» بواسطة ما يسمى «اللدون» (الرصاص)، وأضافت أنها تأخذ قطعا من هذا المعدن وتضعها فوق النار، وتتناول آنية بلاستيكية بها ماء تضعها بين رجلي المريضة التي تكون قد أزالت سروالها الداخلي، وتفرغ المعدن سائلا داخل الآنية ليصعد بخاره إلى الأعضاء السفلى للمريضة، وتأمرها باقتناء ديك أو جدي أسود تنحره قربانا للولي الصالح... وتوقفت «الشوافة» قليلا قبل أن تتابع: «الله لي كيداوي... حنا غير سبب... كنسببو ليهم في الحجابات، كنجيب البخور، تباطيل للا عائشة ديال سيدي علي بن حمدوش، والذبيحة ما بقيناش ناكلوها حيت حرام»... كما تستعمل الشمع القرطاس والكتابة بالخرقوم ... إمبراطورة الشوافات توصلت إلى أن الذبائح التي تهدى قربانا غير صالحة للأكل شرعا، ووعدت بنشر فتواها وتوزيعها على كل «الشوافات»، وأضافت أنها مريضة بالقلب وأن لديها ولدين مريضين نفسانيا لا يغادران فراشهما، قبل أن تدرك أنني أحاورها كشوافة، لتردد ثلاث مرات: «نعل الشيطان أسيدي، علاش حاضينا غير حنا الشوافات، حنا ما كان نزورو... أنا خدامة على ولادي»... عايشة واثقة من أنها تؤدي مهمة نبيلة، تتقاضى عليها أجرا تصرفه في تربية وتغذية أبنائها، واثقة من أنها تستطيع شفاء المرضى ب»لرياح والمس الجنوني»... وداخل بيتها يرقد ولداها اللذان قالت عنهما: الله يجعل ربي يطلق سراح أولادي مسطيين. تمتمت قليلا قبل أن تتابع في محاولات يائسة لإظهار براءتها: أحلم بالذهاب إلى مكةالمكرمة لأداء مناسك الحج...