يثير عنوان الديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» للشاعرة المغربية نسيمة الرّاوي؛ إذ أن ظرف الزمان «قبل» يحيل إلى سلسلة من الأحداث التي أخذت طريقها إلى الواقع قبل أن تستيقظ طنجة. فهل هذه الوقائع تمت في الليل أثناء نوم المدينة؟ أي تمت في بعديهما الزماني والمكاني المتعارف عليهما؟ أم أن هذه الأحداث سجلت حضورها في زمن ومكان آخرين غير الزمان والمكان الكرونولوجيين؟ زمن لم تكن فيه مدينة طنجة معطى ماديا ملموسا، وكانت في غياهب حلم سابق لوجود الأشياء؟ ينقسم ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» إلى قسمين متوازيين ومتقاربين في عدد القصائد، مما يعكس رغبة الشاعرة نسيمة الرّاوي في البحث عن التوازن والتناغم. هذه الرغبة الأساسية لها دور حاسم في بناء شكل القصيدة ومضمونها، سواء على مستوى اللغة أو الإيقاع أو الصور أو رؤية العالم. يضم القسم الأول خمس قصائد على التوالي: «يُحَاصِرُنِي الْبَحْرُ مِنْ الْجِهَاتِ كُلِّهَا»،و«Atlantica» و«Rio De Janeiro» و«Tangerina و«Assilah. أما القسم الثاني المعنون ب«البحر أسطورة زرقاء» فيحتوي على ست قصائد هي: «لُورْكَا 1»، و«لُورْكَا 2»، و«غَجَرِيَّة»، و«شِتَاءٌ»، و«الْمَدِينَة»، و«نِكَايَةً بِالْمَدِينَةِ». إن أول ما يسترعي انتباهنا في هذه العناوين هي أن نسبة منها تحيل على مدن بعينها، معروفة بقدمها ومكانتها المتميزة في القارتين الإفريقية والأمريكية الجنوبية؛ إذن، فالصوت الشعري، وبدل التوجه إلى العواصم الكبرى في الشمال، كما درج على فعل ذلك الكثير من الشعراء، يختار التوجهَ إلى الجنوب مبتعداً عن الشمال، باحثاً عن أصل العالم في المدن المتوسطية، والبلدان الاستوائية. إنه صوت شعري يغرد خارج السرب، وهدفه الوحيد هو الإنصات إلى نشيد الحياة. وسيراً على نفس النهج الرامي إلى البحث عن صوت الحياة الضائع من جداول أعمال البشر، تحيل القصائد الخمس المتبقية إلى الماء كما هو واضح في قصيدتي «شتاء» و«يحاصرني البحر من الجهات كلها»، علما أن الماء هو العنصر الأساسي الذي يمثل أصل الحياة؛ ذلك أنه يحاصرها بقدرته على الخلق والدمار في نفس الآن. وتحيل عناوين القصائد الثلاث المتبقية إلى الشاعر الإسباني ذي الأفق الكوني فديريكو غارسيا لوركا، و«غجرية» التي تحيل إلى الغجر الذين لا يعترفون بالحدود الجغرافية للأوطان. يتضح مما سبق أن القصائد تحمل كعناوين أسماء تحيل إلى مدن عالمية كتبت عناوينها باللغات الأجنبية، وهي ضاربة في أغوار التاريخ، وتتخذ أسماء أشخاص أو مدن أو عناصر طبيعية تخترق الحدود، وتتحدى التقاليد، والمواضعات الثقافية والحضارية. والآن قد نستطيع العودة باطمئنان إلى السؤال الذي طرحناه في البداية، والمرتبط بالسياق الزمكاني الذي تتخذه الشاعرة كأرضية للاشتعال أو الأصح، الذي تشرق فيه قصائد الديوان وتحيى. وتأسيسا على ما سبق، لا أجانب الصواب إذا ألححت على أن ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» غير معني بالزمن الساعاتي، أو بالزمن الليلي الذي يسبق طلوع النهار في مدينة طنجة، بل إنه مسكون بهاجس الزمن الكوني الذي سبق ظهور المدينة؛ أي مدينة بدءاً من»Atlantica»، مروراً ب Rio» De Janeiro»، انتهاء بطنجة. إنه الزمن نفسه الذي أرق الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا في بحثه في المطلق، وتحركت فيه قوافل الشعوب الرُّحل، وفي مقدمتها الغجر. لكل هذا أجد من الضروري التأكيد على أن الديوان ينتصر للكوني في مواجهة الخصوصي، ويدافع عن قوى العالم الطبيعي في مواجهة الزحف الآلي والإسمنتي، وهذا واضح في قصيدة «نكاية بالمدينة». وإذا كانت المرجعية الزمانية قد أصبحت إلى حد ما واضحة الآن؛ أي أنها ترتبط بالزمن الكوني ضد الزمن البشري، فما هي المرجعية المكانية في الديوان؟ قبل الإجابة، لا بد من الإشارة تبعا لهذا السياق إلى أن الشاعرة حققت درجة رفيعة من الانسجام، فلا نجد أبدا في واحدة من قصائدها تناقضاً مع نظرية أينشتاين في الزمن المرتبط ضرورة بالمكان؛ أي أنها لا تحيل إلى زمن كوني، وتموضعه في مكان بشري من صناعة البشر، بل تضع الزمن الكوني في إطار ومكان له خصائصه الكونية؛ وأقصد به «الماء» كفضاء أو مكان بديل عن كل الأمكنة الأخرى، الماء الذي يحاصر كل شيء كما جاء في قصيدة «يُحَاصِرُنِي الْبَحْرُ مِنْ الْجِهَاتِ كُلِّهَا»؛ فالمكان في الديوان لا يوجد فقط في العمق، بل في قلب الماء؛ أي في قلب الحياة نفسها. إنه ديوان يكابد السؤال الأبدي المتعلق بعلاقة الإنسان بالزمان والمكان. والآن ربما بدأنا ندرك أن طنجة لا تستيقظ إلا داخل زمن صيرورة الحياة، في صخبها وعنفوانها الطبيعيين متخلصة تماما من الزمن الصناعي؛ وطنجة، في هذا السياق الدافق بالسحر والفتنة المميزين لحركة الحياة، تلعب دوراً تمثيلياً لباقي المدن الأخرى المذكورة في الديوان، وغير المذكورة، وأيضا تلك التي مازال لها وجود أو التي انقرضت منذ زمان. لقد ألقت الشاعرة نسيمة الراوي على كاهلها مسؤولية الغناء داخل المجالات الوعرة والمناطق الغامضة، محاولة إدراك سر العلاقة-إذا ما كان يجوز تسميتها بذلك-التي تربط المدينة بالبحر، والبحر بالفضاء، والفضاء بالكائنات. إنها ببساطة، وعلى غرار ما قام به الفيلسوف غاستون باشلار، تحاول فهم الحياة عن طريق التأمل في عناصرها الأولية، خاصة البحر والبر والهواء، حتى يتسنى لها سبر أغوار الحياة فاجعة الجمال الكائنة في هندسة العالم، والذي تجري دماؤه في شرايين السماء والأرض. وللاقتراب أكثر من فهم هذه الأفكار، سنلقي نظرة على بعض قصائد الديوان. «يُحَاصِرُنِي الْبَحْرُ مِنْ الْجِهَاتِ كُلِّهَا» هو عنوان أول قصيدة في الديوان، إذن فالديوان يبدأ كما الحياة نفسها بواقع حصار الماء، أو العنصر الأول لكل شيء، ومن كل الجهات. هكذا بدأت الحياة، وهكذا يبدأ الديوان، وهكذا تخطوا الشاعرة خطوتها الهادئة لردم الهوة القائمة بين الكلمات والأشياء؛ بين الشعر والحياة، محاولة مماثلة ومزج الديوان بالحياة، وفي نفس القصيدة تقول:»نَهْرٌ مِنَ الشِّعْرِ يَنْحَدِرُ مِنْ ذَاكِرَةٍ تَتَثَاءَبُ/عِنْدَ الشُّرْفَةِ فِي قَمِيصِ نَوْمٍ أَزْرَقَ/ الْهَدِيرُ مُوسِيقَى دَاخِلِيَّة، الْمَدُّ حُضُورٌ/الْجَزْرُ غِيَابٌ، الزَّبَدُ بَيَاضٌ بَيْنَ السَّطْرِ وَالسَّطْرِ». فالبحر الذي تلبس الشاعرة قميصه الأزرق عند الشرفة، هو نفسه الصفحة الأولى من الديوان، حيث الزبد هو بياض الورق بين السطر والسطر، بين البيت والبيت، وحيث هدير الموج هو موسيقى داخلية لفعل الكتابة، وهو أيضا الإيقاع الشعري. غير أن هذا ليس مجرد تماثل بسيط بين البحر والشعر، الأمر لا يتعلق بمجرد تشبيه؛ لأن الصوت الشعري في الديوان ما هو إلا حامل لصوت البحر الغارق منذ الأزل في عزف سيمفونية الماء العظيم. حديث الماء وغناؤه وشعره، هذا هو ما يهم الشاعرة؛ أي أن تبحث عن معنى الماء فيما يقوله الموج والمطر والمد والجزر. في الديوان كله، لا نجد قصيدة واحدة لا ينبني فضاؤها، ولا تتشكل صورها من عنصر الماء كما يمثله البحر في حصاره لكل شيء، وفي المقطع رقم 8 من قصيدة «Atlantica» يتأمل الصوت الشعري العلاقة الدقيقة بين الفضاء والماء، وخصوصاً علاقة البحر بالسماء، حيث تقول الشاعرة نسيمة الرّاوي: «طَبَقَاتُ السَّمَاء/مَرَايَا لِوَجْهِ الْبَحْرِ/وَلِلْبَحْرِ وَجْهٌ/مِثْلَ وَجْهِكَ/يَزْدَادُ زُرْقَةً/ كُلَّمَا ابْتَعَد..» فمن أصل خمس حواس لدى الثدييات عموما، والإنسان خصوصا يتمتع الوجه بحصة الأسد منها؛ إذ يستحوذ على أربع منها؛ مما يمنح الوجه الحق في تمثيل الروح؛ فهو عن حق مرآة الروح، والبحر هو الآخر له وجه «مِثْلَ وَجْهِكَ»، وهو بحركته، وهدوئه وتفاعله مع عناصر الطبيعة الأخرى «يَزْدَادُ زُرْقَةً كُلَّمَا ابْتَعَد»؛ أي يزداد جمالا مثلما يزداد وجه الإنسان احمراراً كلما أمعن في الخجل. تتدخل الشروط النفسية، والعوامل الخارجية، من جو وظل وساعات النهار لتحديد حالة الوجه الإنساني، وما يبدو عليه من حزن أو فرح، كما تتعدد أشكال وألوان المرايا العاكسة للملامح البشرية، لذلك تتعدد أوضاع الوجه البحري، وتتغير تبعاً لطبيعة الفصول، وأحوال الوقت، ولا يمكن لوجه البحر أن يرى بوضوح إلا من خلال طبقات السماء «طَبَقَاتُ السَّمَاء/مَرَايَا لِوَجْهِ الْبَحْرِ». لذلك تسعفنا المرايا السماوية من موقعها العلوي رؤية وجهه ومعرفة أحواله الممتدة من الصفاء والهدوء، مرورا بالصخب، ووصولا إلى الهيجان والعنف الشديد. هكذا يتحدث الماء بلغة هائلة، وأكثر إحكاماً من لغة البشر.