يكشف النقاش الجاري حول مشروع قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها «صراعا خفيا» بين من يحاول تقوية الصلاحيات المخولة للهيئة، وإكسابها استقلالية حقيقية عن باقي السلط، بما يضمن لها فعالية كبيرة في أداء المهام الدستورية المنوطة بها، وبين من يحاول أن تعيش تحت الوصاية من خلال نصوص قانونية تحتمل جملة تأويلات. أبرز مظاهر «الصراع» تأتي من خلال الانتقادات الموجهة إلى واضعي مشروع الهيئة الوطنية للنزاهة حول «إقصاء» القضاة من عضوية الهيئة، وعدم إعطائها صلاحية إطلاق المتابعات القضائية في حق المتورطين في الرشوة والفساد، أو المتابعة التأديبية للجهات التي تعرقل عملها في التحري والبحث، علاوة على اعتماد مبدأ التعيين عوض انتخاب الأعضاء، وأيضا الجهة التي ستشرف على مراقبة الهيئة. الحديث عن إقصاء القضاة جاء على لسان القاضي محمد عنبر، نائب رئيس نادي قضاة المغرب، الذي يشغل منصب رئيس غرفة بمحكمة النقض، حيث سجل أنه «إذا أريد لهذه الهيئة أن تكون مستقلة فيجب أن تتشكل من القضاة، لأنه ليست لديهم مصالح حزبية ضيقة، وإنما هاجسهم هو تطبيق القانون وتحقيق العدالة»، مسجلا في الآن ذاته «استمرار تكريس دور وزير العدل في الوقت الذي يطالب القضاة بالاستقلال عنه». واعتبر عنبر، في مذكرة مطولة تعليقا على مختلف مواد مشروع قانون الهيئة، أن «مسودة القانون جاءت محتشمة تساير توجه الحكومة التي فرض عليها الدستور الحصول على أغلبية غير مريحة، حيث شكلت تحالفات للحصول على أغلبية للحكم مقابل تنازلات، على رأسها الإعفاء من المساءلة. وهكذا طبع مشروع المسودة المذكور بطابع الإعفاء، ووقف موقف المتفرج أو المصور للأحداث دون التدخل لمعالجتها». وانتقد نائب رئيس نادي القضاة التنصيص على «حق التصدي» في مشروع القانون، حيث أكد أن عملية التصدي أو حتى ما يسمى بمعالجة الشكايات من طرف الهيئة لأعمال الفساد تشكل غصبا لاختصاص القضاء، وتجاوزا للسلطات التي من أجلها أنشئت الهيئة، على اعتبار أنها أسست لمحاربة الفساد الاقتصادي والإداري، أي القيام بعمليات الاستشارة والوقاية والرصد والبحث والتحري، والكشف عن مكامن الفساد فقط وإحالة نتائجها على السلطة القضائية. المؤاخذات التي عبر عنها القاضي عنبر، خاصة في الشق المتعلق بالقضاة، جاءت بعدما نص مشروع القانون على أن من بين الشخصيات التي يتم اقتراحها يوجد عضو عن جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وعضو في غرفة التوثيق، والهيئة الوطنية للخبراء المحاسبين، وعضو في الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وعضو في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وخمسة أعضاء في النقابات الأكثر تمثيلية. وعلاوة على إشكالية استقلالية الهيئة عن باقي السلط، أثارت صلاحية إطلاق المتابعات القضائية في حق من ثبت تورطهم في جرائم الرشوة والفساد نقاشا محتدما بين المدافعين على الإبقاء على صلاحية المتابعات في يد السلطة القضائية، واكتفاء الهيئة، كما ورد في نص القانون، بمهام التحري والبحث، وبين المطالبين بضرورة منحها سلطات قوية تجعلها تعمل بكامل الاستقلالية وتطلق المتابعات. وقد رد عبد السلام أبو درار، رئيس الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة، في تصريح ل«المساء»، بأن «هناك اختلافا بين الخبراء في أن تكون لهيئات محاربة الفساد سلطة للوقاية وللتحري وللمتابعة، وهو الرأي الذي تمت مراجعته بشكل جذري، على اعتبار أنه من قبيل فصل السلط أن تضطلع هيئات مكافحة الفساد بدورها في الوقاية والتحري، وأن تترك للسلطة القضائية أن تلعب دورها كاملا، وأن ما يعاب على السلطة القضائية أن فيها فساد لا يعني الاستعاضة عن القضاء بخلق هيئات أخرى لديها سلطات المتابعة». وقد طالبت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، المعروفة اختصارا ب«ترانسبرانسي المغرب»، بتمكين محققي الهيئة من سلطات تحقيق قوية، بما فيها صفة ضباط الشرطة القضائية، فكان رد الهيئة المركزية بتوضيح مفاده أن معدي المشروع ارتأوا الاكتفاء بالاستفادة من مهام الشرطة القضائية ضمن فئات الموظفين وأعوان الإدارات والمرافق العمومية... لتحصين مبدأ الاستقلالية من إمكانية خضوع أعوان الهيئة الممنوحة لهم هذه الصفة لتسيير وكيل الملك في دائرة نفوذه. كما ردت الهيئة المركزية على مطلب «ترانسبرانسي المغرب» بإدراج فقرة تنص على صلاحية الهيئة في إطلاق مسطرة المتابعة التأديبية ضد كل شخص يعرقل عملها، بالقول إنه لا يمكن للهيئة أن تضطلع بتحريك مسطرة المتابعة التأديبية في هذا المجال نيابة عن السلطة التي تمتلك حق التأديب، وأشارت إلى ما نص عليه المشروع من إخبار رئيس الحكومة بعد إبلاغ رئيس الإدارة المعنية، لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وأمام مختلف هذه التجاذبات التي تنبئ بمخاض عسير للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يبدو أن الحكومة «أخلفت» الموعد مع المصادقة على مشروع القانون، بعد الأخبار التي أشارت إلى أن المصادقة ينتظر أن تتم خلال شهر فبراير، وهو الأمر الذي أصبح مستبعدا، حسب مصادر متطابقة، في الوقت الذي بدأت تبرز بعض المخاوف من إمكانية إدخال تعديلات قد تضعف الصلاحيات المخولة للهيئة وتمس استقلاليتها.