على الرغم من التدخل المكثف للحكومات الأوربية للحيلولة دون انهيار النظام البنكي، فإن انفجار الضغط العقاري الاحتكاري، الذي انطلق من الولاياتالمتحدةالأمريكية، قد أثر بشكل متتالٍ على أهم البورصات المالية العالمية، ومن ثمة على المؤسسات الكبرى، وكذا على مجالاتها الاقتصادية المتقدمة. وقد أنتج التطور الاحتكاري المستقبل للفضاء المالي «الافتراضي» مقارنة بالفضاء الاقتصادي «الحقيقي» أزمة مالية، ساهمت في اندلاع أزمة اقتصادية مصحوبة بأزمة اجتماعية. ففي غياب ميكانزمات فعالة لضبط الحكامة الاقتصادية والمالية العالمية، فإن تزامن الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية قد خلخل أسس النظام الاقتصادي العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، كما ساهم في إعادة النظر في «توافق واشنطن» الذي تحكم في العلاقات ما بين الشمال والجنوب خلال الخمسة وعشرين سنة الأخيرة، كما بين عن تقادم وسائل التدخل وعن العلاقات غير العادلة ما بين الشمال والجنوب المبنية على التبادل غير المتكافئ رغم صعود دول الجنوب، خصوصا عن الأزمة العميقة للوضع الاقتصادي العالمي المرتكز على القطبية الثنائية وعلى إدماج دول الجنوب ودول الشرق في اقتصاد السوق، والسوق الدولية، وكذا الانتقال نحو الديمقراطية. وأمام صعود دول الجنوب، والتحولات على مستوى أسس النمو الاقتصادي العالمي وضرورة تدبير الأزمة المعقدة ومتعددة الأبعاد للعولمة، أية مفاهيم جديدة للتنمية في القرن الواحد والعشرين من أجل إعادة تأسيس النظام الاقتصادي العالمي، بهدف استيعاب التعقد والتداخل، وكذا إعادة التوازن للعلاقات شمال-جنوب، بالإضافة إلى إقرار علاقات متعددة الأطراف مناسبة للجيوسراتيجية الشمولية الجديدة ولتدبير التعددية الاقتصادية العالمية؟ في هذا الصدد، تكتسي أربعة مفاهيم حاملة لمنظور دول الجنوب من أجل اندماجها العادل في العولمة وفي ميكانزمات الحكامة الشاملة، أهمية بالغة بالنسبة إلى التنمية في القرن الواحد والعشرين: - التعددية القطبية الاقتصادية وإعادة توازن مناطق وديناميات التنمية؛ - ترابط الاقتصاديات والاعتراف بدول الجنوب في نظم الحكامة العالمية؛ - التنمية الذاتية والتنمية البشرية المستدامة في دول الجنوب؛ - التعاون متعدد الأطراف وإعادة التوازن للشراكات شمال-جنوب وجنوب-جنوب. إن من شأن هذه المفاهيم، التي هي مترابطٌ بعضُها ببعض، توفير آفاق للتنمية المتوازنة والعادلة بين دول الشمال ودول الجنوب، ضمان تحكم فعال في الحكامة الدولية في مستوى الرهانات والإمكانيات وكذا الحظوظ المستقبلية. ومما لا شك فيه أن الأزمة متعددة الأبعاد التي تعرفها أهم الدول المتقدمة ليس مردها فحسب إلى أزمة نماذج النمو المعتمدة على الصادرات والتبادل الحر، وإلى أزمة طغيان الجوانب المالية المفرطة على الاقتصاد والرأسمال المالي الاحتكاري، بل هي أساسا أزمة نماذج التنمية وأزمة العلاقات شمال-جنوب وشرق-غرب، ومن ثمة أزمة العولمة الاقتصادية المتسارعة والليبرالية المتوحشة، وكذا أزمة الأنماط المعتمدة في مجال الانتقال نحو اقتصاد السوق والديمقراطية. 1 - القطبية الاقتصادية المتعددة وإعادة توازن مناطق وديناميات التنمية لقد تمخض عن المسلسلات التدريجية لبناء الاقتصاديات الوطنية ولإعادة الهيكلة وللتحرير وكذا للاندماج في الاقتصاد العالمي، صعود قوي لمجالات جيو-اقتصادية وجغرافية تتميز بدينامياتها وجاذبيتها وبقدرتها على الاندماج والاختراع. إن البروز المميز للاقتصاديات الصاعدة في القطاعات الواعدة وسلاسل القيم المضافة العالمية يمكِّنها من الظهور اليوم وفرض نفسها غدا كمجالات تنافسية وكمساهمين كبار في إنتاج القيمة المضافة والشغل والتكنولوجيات وكذا المهارات، إن على المستوى الجهوي أو القاري بل وحتى العالمي. وبعد التوقف التدريجي للمواجهات ما بين الشمال والجنوب خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ونهاية المواجهة ما بين الشرق والغرب بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الشرقية وانتقالها التدريجي نحو اقتصاد السوق والديمقراطية، فإن التحرر السياسي والصعود الجيو-اقتصادي والسوسيو-اجتماعي لدول الجنوب جعل منها واقعا ملموسا يهيكل النظام الاقتصادي العالمي، بحيث إن الدول الصاعدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية قد عرفت تقدما ملحوظا وابتعدت عن غالبية الدول النامية، وأصبحت تشكل اليوم قوة اقتصادية جهوية ومحركات للنمو الاقتصادي العالمي. إن التعددية القطبية الاقتصادية الناتجة عن صعود دول الجنوب بصدد الدفع بديناميات النمو على الصعيد الجهوي والقاري، وهي بذلك تساهم في تشكل الديناميات الاقتصادية الجهوية وفي هيكلة نظام اقتصادي عالمي جديد؛ فحسب البنك الدولي (آفاق التنمية الشاملة 2011) فإن مساهمة الدول الصاعدة والدول النامية في حجم التبادل التجاري العالمي قد انتقلت من 25 في المائة سنة 1995 إلى 42 في المائة سنة 2010، مع تزايد المبادلات في ما بينها، كما أنها تتوفر على 75 في المائة من الاحتياطات العالمية من العملة الصعبة، وتلعب صناديقها السيادية ومؤسساتها المالية دورا هاما في مجال الاستثمارات الدولية؛ كما عرفت المخاطر المرتبطة بالاستثمارات في الدول الصاعدة انخفاضا قويا، مما ساهم في التراجع القوي لنسب الفائدة المؤداة عن القروض السيادية (...)؛ كما أن أكثر من نصف النمو الاقتصادي العالمي سيتحقق بفضل مساهمة ست دول صاعدة في أفق 2025، وهي البرازيل والصين والهند وأندونيسيا وكوريا الجنوبيةوروسيا، فاتحة الباب على مصراعيه لصعود اقتصاد شمولي جديد مبني على عالم اقتصادي متعدد الأقطاب ويتميز بالتشابك المعقد ما بين دول الشمال ودول الجنوب. إن الدول الصاعدة، المشكلة من دائرة أولى تدعى BRIC (البرازيل، روسيا، الهند، الصين)، قد حصلت على مرتبتها ووضعها الحالي بعد العنف الناتج عن الاستعمار واسترجاعها لاستقلالها السياسي وبعد عشرات السنين من الاستغلال والتبعية والتبادل غير المتكافئ. ولكونها محركات دافعة لإنتاج الثروات على الصعيد العالمي، فقد أصبحت هذه الدول قاعدة أساسية للتعددية القطبية الاقتصادية العالمية، مساهمة في ديناميات التنمية على صعيد الكرة الأرضية. وأضحت هذه التعددية القطبية تتطور بشكل سريع في اتجاه بروز دائرة ثانية لإحدى عشرة دولة صاعدة جديدة: N11 (وهي: أندونيسيا والمكسيك وتركيا ونيجيريا والفليبين وإيران والعربية السعودية وجنوب إفريقيا والتايلاند والفيتنام وكذا فينزويلا)، بل وحتى لدائرة ثالثة يوجد بداخلها كل من المغرب والجزائر ودول عربية أخرى. وستتمكن الدول الصاعدة من الوقوف بندية في وجه نادي الدول المتقدمة، بل وحتى تجاوزها خلال السنوات القادمة في مجال المساهمة في الناتج الإجمالي العالمي وخلق فرص الشغل، والابتكارات، وكذا إنتاج التكنولوجيات الحديثة. وحسب «آفاق النمو الاقتصادي الشامل على المدى البعيد: أفق 2060»، لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإن دولتين صاعدتين، وهما الصين والهند، واللتين تمثلان (على أساس دولار أمريكي بتعادل القدرة الشرائية لسنة 2005) 17 في المائة و7 في المائة على التوالي من الناتج الداخلي الإجمالي العالمي سنة 2011، سوف تتجاوز أولاهما (الصين) منطقة الأورو سنة 2012، والولاياتالمتحدةالأمريكية سنوات بعد ذلك، أما الهند فإنها سوف تتجاوز اليابان سنة أو سنتين من بعد؛ وفي أفق 2025، سوف يتجاوز مجموع الناتج الداخلي الإجمالي لهذين العملاقين مساهمة الدول السبع الهامة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في الناتج الإجمالي العالمي، وسوف يمثل 1,5 مرة إنتاجها الإجمالي سنة 2060، علما بأنه لا يمثل إلا أقل من نصفه سنة 2010، كما سيتجاوز الناتج الإجمالي لمجموع دول هذه المنظمة في هذا الأفق، علما بأنه لا يمثل سوى ثلثها سنة 2011. ونظرا إلى عدم تكافؤ الوزن الاقتصادي المتزايد للدول الجنوبية الصاعدة مقارنة بدورها شبه المنعدم على مستوى النظام النقدي الدولي، فإن حكامة هذه التعددية القطبية الاقتصادية ستتطلب إعادة تقييم المحددات الثلاثة للمقاربة التقليدية للحكامة الاقتصادية والمالية الشاملة، وهي: العلاقة ما بين تمركز السلطة الاقتصادية والاستقرار، والمحور شمال-جنوب الخاص بتدفق رؤوس الأموال، ومركزية الدولار الأمريكي في النظام النقدي الشمولي. وحسب البنك الدولي (آفاق التنمية الشمولية 2011)، هنالك ثلاثة سيناريوهات محتملة: السيناريو الأول، إبقاء الوضع على ما هو عليه مرتكزا على الدولار الأمريكي؛ السيناريو الثاني يهدف إلى إقرار نظام نقدي معتمد على عملات متعددة (الدولار، الأورو، الجنيه الإسترليني، والعملة الصينية الرينمينبي أو عملة خاصة بالمنطقة الآسيوية)؛ وأخيرا السيناريو الثالث القاضي بإقرار نظام نقدي عالمي مرتكز على حقوق السحب الخاصة (Droits de Tirage Spéciaux DTS) كعملة دولية أساسية. ويتبين من تحليل السيناريوهات الثلاثة أن السيناريو الثاني، الذي يعتمد على مجموعة من العملات الدولية، هو المرغوب فيه والمحبذ؛ بيد أنه يحتوي في طياته على مخاطر مرتبطة بعدم الاستقرار الناتج عن تقلب أسعار الصرف، لذا فاللجوء الموسع إلى حقوق السحب الخاصة (DTS)، التي أقرها صندوق النقد الدولي كوحدة للحساب وللاحتياط الدولي مع ربط قيمتها بأربع عملات صعبة وهي الدولار الأمريكي والأورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، من شأنه أن يساعد على مواجهة مخاطر عدم الاستقرار المالي الشمولي على المدى القصير ومن التحكم في كلفة التقلبات التي تعرفها العملات الصعبة. ويمكن توسيع اللجوء إلى حقوق السحب الخاصة من خلال طريقتين: الأولى تكمن في تشجيع الاقتراضات الرسمية المحررة بحقوق السحب الخاصة؛ والثانية من خلال إقرار تسهيلات بالعملة الصعبة مقابل هذه الحقوق من طرف الأبناك المركزية خلال فترات الأزمات المالية، أو من خلال العمل على إدخال العملات الصعبة لأهم الدول الصاعدة في سلة احتساب قيمة حقوق السحب الخاصة من أجل إعادة تقييمها. وعليه، فإن هيكلة النظام الاقتصادي العالمي لا يجب أن تعتمد بشكل حصري على أولوية التجارة والتبادل الحر، وكذا على الاحتكار المالي اللامنتهي والتبادل غير المتكافئ شمال-جنوب، تحت سيطرة دول الشمال، وذلك لفسح المجال لإقرار عالم متعدد الأقطاب، من خلال أقطاب تحتضنها الدول المتقدمة وأخرى ترعاها دول الجنوب وأخرى تكون ثمرة شركات استراتيجية متوازنة شمال-جنوب. وتتعين تقوية هذه التعددية القطبية الاقتصادية والاعتراف بها كركيزة أساسية لديناميات اقتصادية جديدة للنمو وللتنمية وللابتكار على الصعيد الكوني، وذلك في تشعباتها وترابطاتها. 2 - ترابط الاقتصاديات والاعتراف بدول الجنوب في نظام الحكامة الدولية تعرف الاقتصاديات الوطنية ترابطات وتداخلات متطورة في إطار النظام الاقتصادي الدولي تميزت بتسارعها خلال العشرين سنة الأخيرة، ما بين الدول المتقدمة والدول الصاعدة، وما بين هذه الأخيرة والدول النامية، وما بين هذه الأخيرة نفسها. ويتبين هذا الارتباط من خلال المبادلات التجارية وعلاقات التعاون، وتدفقات الأموال والاستثمارات، وكذا الاحتياطات من العملة الصعبة، بالإضافة إلى تدفقات اليد العاملة وتحويلاتها المالية، وكذا المديونية الخارجية...
امحمد الزرولي سوسيو-اقتصادي وباحث، عضو اللجنة الاستشارية للجهوية