من يقف وراء مؤامرة التستر على اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بنبركة؟ من له المصلحة في إفراغ عملية اغتياله من كل جوانبها السياسية والتآمرية؟ ماهي العراقيل الأساسية التي تعيق عمل القضاء؟ وماذا حصل حتى اضطر القاضي الفرنسي إلى إصدار أمر بالقبض على شخصيات مغربية؟ كل هذه الأسئلة يجيب عنها محامي أسرة الفقيد، الأستاذ موريس بوتان، وهو مغربي النشأة (من مواليد مكناس) وفرنسي الانتماء، تولى الدفاع عن هذا الملف منذ 43 سنة. - لنبدأ بظروف وأسباب اختطاف بنبركة < كل شيء بدأ عندما أصر الملك الراحل، الحسن الثاني، على عودة بنبركة إلى المغرب قسرا أو عن طيب خاطر. لم يعد الرجل فتم اختطافه. لقد اتهموه آنذاك بالوقوف وراء أحداث مارس 1965 بالدار البيضاء، وهو اتهام باطل حيث لا حزب الاستقلال ولا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولا أي حزب كان وراء هذه الأحداث. - أحداث كهذه بدأت وتأججت من تلقاء نفسها ومن دون مدبر أو مؤطر؟ < نعم، كانت عبارة عن انتفاضة شعبية طلابية انطلقت من المدارس والثانويات وانضم إليها جمهور الغاضبين من عاطلين ومهمشين وغيرهم، وتم ردعها بقوة. وقد أعقبتها اتصالات واسعة أجراها الحسن الثاني مع قادة الأحزاب ومن بينهم بنبركة الذي تم الاتصال به بشكل غير مباشر عن طريق ابن عم الملك الأمير مولاي علي، سفير المغرب بباريس الذي لم يفلح في إقناعه بالعودة إلى المغرب. فكان الاختطاف الذي انتهى باغتيال الرجل في ظروف لا نعرف عنها الشيء الكثير سوى أن القتل لم يكن في نظري متعمدا أو عن سبق إصرار. - أفهم من كلامك أن المغرب لم يكن يحسب لاغتياله؟ < لست أدري. فلا أحد يعرف حتى الآن جنس وهوية القاتل. والحسن الثاني كان دائما يؤكد أن قضية بنبركة هي قضية فرنسية فرنسية، بمعنى أن لا أحد بإمكانه تفكيك ألغازها إن لم تقم السلطات الأمنية الفرنسية بذلك. - وموقف الرئيس دوغول آنذاك؟ < الرئيس دوغول كان في قمة الغضب. لم يقبل بتاتا أن يحدث ذلك في باريس. وكان قد طلب من الحسن الثاني أن يتخذ قرارا واضحا بشأن أوفقير الذي كان يعتقد أنه ضالع في اختفاء واغتيال الفقيد. - وماذا بعد هذا الطلب ؟ < لم يستجب الحسن الثاني بطبيعة الحال لرغبة دوغول، فكان أن حدث فتور في العلاقات بين البلدين حيث تم استدعاء السفيرين، الأمير مولاي علي من باريس وروبير جيلي من الرباط، لفترة لم تكن ذات تأثير على العلاقات بمفهومها السياسي والدبلوماسي بين البلدين. - ودورك أنت في تلك الفترة؟ < قمت برحلات مكوكية بين باريس والرباط أتقصى الحقائق وأقوم بالتحريات اللازمة، شرعت على إثرها في إعداد الإنابات القضائية وكانت أولاها سنة 1967، وتم تجديدها عام 1977 دون أن أتوصل برد إيجابي من السلطات القضائية المغربية. وكنت ومعي أسرة الفقيد نتصارع مع الوقت للبحث عن الحقيقة قبل ضياع كل الأدلة وأهمها الشهود. - هل من عوائق ملموسة واجهتك في هذا الباب، وكيف فوتت فرصة مجيء كل من عبد الرحمان اليوسفي والاشتراكي ليونيل جوسبان إلى الحكم لتحقيق بعض التقدم في هذا الملف؟ < من حيث العوائق، كانت تعترضنا عقبتان: إصرار السلطات القضائية المغربية على عدم التعاون والاستجابة للإنابات القضائية المتعددة، من جهة، وتستر السلطات الفرنسية وراء «المصلحة العليا للدولة» من جهة ثانية. أما عن الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، فلم يقدم للأسف خدمة ملموسة تساعد على تحقيق اختراق أو تحول في مسار القضية. وقد جمعتني به علاقات إنسانية ومهنية متينة، واشتغلت معه في أكثر من ملف. وأتذكر أنه أوفدني إلى مدريد للوقوف على عملية تسليم أحمد بنجلون وسعيد بونعيلات من طرف الجنرال فرانكو إلى الحسن الثاني. نفس الإهمال لقيته من طرف الوزير الأول جوسبان الذي اكتفى بإحداث لجنة استشارية لرفع سرية الدفاع عن بعض الوثائق الفرنسية، وهي لجنة ليست لها أدنى سلطة تقريرية أو إلزامية. والحقيقة أنني أصبت بخيبة أمل من أناس يرفعون حزبيا شعارات حقوقية وإصلاحية، ويتصرفون بنقيضها حينما يتولون السلطة. وهكذا انتظرنا وصول اليمين إلى الحكم لترفع وزيرة الدفاع أليو ماري، سرية الدفاع عن بعض الوثائق. - وماذا عن الإنابات القضائية الأخيرة؟ < كان مصيرها الإهمال هي الأخرى. وبالرغم من الوعود التي تلقيناها من وزير العدل، عمر عزيمان وبعده بوزوبع، لم يتم تحقيق أي اختراق يذكر. فمنذ سنوات طلب القضاء الفرنسي وبإلحاح من السلطات القضائية المغربية الاستماع إلى الأشخاص الذين يملكون بالتأكيد، بحكم مناصبهم آنذاك أو بحكم تواجدهم في عين مكان الجريمة، عناصر ومعلومات تفيدنا إل معرفة بعض جوانب الحقيقة. لكن لحد الآن، بقي هذا الطلب معلقا، بعد أن قيل لنا إن القضاء المغربي لم يتمكن من الحصول على عناوين هؤلاء الأشخاص وموقع المعتقل السري بالرباط المعروف ب(بي. إيف 3) (دار المقري). - ولا شعاع من الأمل إذن للوصول إلى الحقيقة؟ < لم نفقد الأمل، وسنصل مهما كان إلى معرفة مدبري الجريمة. ولدينا اليوم ما يفيد بالملموس بأن الاستخبارات الفرنسية المغربية ضالعة في العملية. - تتحدث عن الملموس، هل لديك وثائق أو شهادات أو اعترافات أو حتى تقارير سرية؟ أين هو الملموس في ما تقول؟ < تورط الجهازين المغربي والفرنسي في عملية الاختطاف ثم الاغتيال، ثابت ومؤكد بعد العثور في سجلات «الفندق الكبير» بالدار البيضاء، إثر تحريات تمت سنة 2001 بطلب من رئيس المحكمة التجارية بالعاصمة الاقتصادية، استجابة لإنابة قضائية في الموضوع، على ما يثبت أنه يوم 9 شتنبر 1965، كانت السيدة بوشسيش، زوجة جورج بوشسيش، هي المسؤولة عن الفندق. ولدى اختطافه بقلب باريس من طرف الشرطيين الفرنسيين لوي سوشون وروجي فيتوت، اقتيد الشهيد إلى منزل جورج بوشسيش، وهو من بين اللصوص الاستعلاميين الذين استقطبتهم المخابرات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان بوشسيش أول من التحق من المجرمين من التحق بالمغرب بعد ثلاثة أيام من عملية الاختطاف أي في الفاتح من نونبر 1965، مما يؤكد أن المجرمين كانوا يساومون مشاركتهم في العملية بالحصول من أوفقير وأجهزة الاستخبارات المغربية على امتيازات مادية من بينها امتلاك بعض الفنادق بالدار البيضاء إلى جانب فندق سفانكس بالمحمدية، وكلها كانت أمكنة للرذيلة والدعارة. وقد غادرت السيدة بوشسيش المغرب سنة 1972 ولم تعد إليه بعد أن منعت من الدخول بقرار من السلطات الأمنية آنذاك. - من يقف إذن وراء حجب الحقيقة، ومن له مصلحة في ذلك في نظرك؟ < ليس الملك محمد السادس بالتأكيد، فقد سبق أن صرح لمجلة «لوفيغارو» الفرنسية بأنه مستعد للمساهمة بكل ما قد يخدم الحقيقة. فشكوكي تحوم حول الأجهزة الأمنية. ولا أفهم لماذا يرفض الجنرالان بنسليمان والقادري الإدلاء بشهادتيهما بحكم موقعهما آنذاك، الأول كملحق بديوان أوفقير سنة 1965، والثاني كقبطان بباريس. فهما يعرفان ماذا حدث بالضبط دون أن يكون لهما أي ضلوع في القضية، على عكس ميلود التونسي الملقب بالعربي الشتوكي والممرض بوبكر الحسوني ثم عبد الحق العشعاشي المشتبه في تورطهم المباشر في اختطاف بنبركة. - قرار القاضي باتريك راماييل بإصدار مذكرة قبض على الأشخاص الخمسة تزامنا مع زيارة ساركوزي للمغرب أربك كثيرا الجانبين المغربي والفرنسي، هل تم التخطيط لذلك عن قصد؟ < بالفعل. لم أجد من بد أمام امتناعهم عن الإدلاء بشهاداتهم في الموضوع سوى أن أطلب من القاضي إصدار مذكرة قبض دولية. وارتأيت تأجيل الإعلان عنها إلى حين زيارة الرئيس ساركوزي، لأقول للجميع إذا كنتم ستنكبون على بحث التعاون بين البلدين في المجالات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فهناك موضوع جدير هو الآخر بالاهتمام ألا وهو الشهيد بن بركة وأهمية الكشف عن ظروف وملابسات اختطافه واغتياله. - وهل لمستم اهتماما فيما بعد من طرف الرئيس ساركوزي أو المحيطين به بهذا الموضوع؟ < كل ما لمسناه أن الرئيس ساركوزي غضب من تزامن قرار القاضي مع الزيارة. وقد طلبنا لقاءه أنا والبشير بنبركة، فكانت النتيجة بعد انتظار دام زهاء السنة، أن استقبلنا من طرف مستشار لوزير الخارجية جاءنا لينتقد قرار القاضي ويستقصي موقفنا بشأن إلغاء هذا القرار. فقلت له بعد أن عبرت عن أسفي أنا والبشير بعدم لقاء الرئيس شخصيا أو على الأقل أحد مستشاريه، إن القاضي مستعد لإلغاء مذكرة القبض فورا شريطة أن يتم الاستماع إلى الأشخاص المعنيين. - كيف ومذكرة القبض سارية المفعول والجنرال بنسليمان يجول كما يحلو له في بكين بمناسبة الألعاب الأولمبية؟ < إنه أمر محير للغاية. فعلى صعيد فرنسا وحتى أوربيا بالنسبة إلى الدول المعنية باتفاقية شينغن، لا يمكنه القدوم دون أن يعتقل على الفور. وأظن أن هناك تقصيرا من وزارة العدل الفرنسية التي لم تقم بواجبها في تبليغ المذكرة عبر القنوات الدبلوماسية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في حق الأشخاص المعنيين. وهي إشارة كارثية لعائلة الشهيد وضربة موجعة لسمعة فرنسا ولاستقلالية القضاء الذي يصبح مجرد كلام لا أساس له عندما يتضارب مع مصالحها، أو يطرح «المصلحة العليا للدولة» في الميزان. - اليوم وقد مرت 43 سنة على تنصيبك محاميا على أحد حاملي مشعل الحرية في العالم الثالث، ألا تشعر أحيانا باليأس أو الملل؟ < أشعر وكأنني توليت القضية قبل أسبوع. وما أستحضره من ذكريات مريرة إذا لم أقل أليمة هو حرماني لمدة 17 سنة من المغرب الذي أعتبره وطني حيث نشأت وترعرعت فيه، ومنه نهلت نصيبي من المعرفة والاطلاع وامتهنت فيه واحدة من أنبل الوظائف إلى أن أراد قدري أن أحتضن إلى يومنا هذا قضية الشهيد بنبركة التي هي قضية كل المغاربة.